بسم الله الرحمن الرحيم
3 - إن سب صحابياً لم يتواتر النقل بفضله سباً يطعن في الدين..
بينا في الفقرة السابقة رجحان تكفير من سب صاحبياً تواترت النصوص بفضله من جهة دينه.
أما إن لم تتواتر النصوص بفضله فقول جمهور العلماء بعدم كفره، وذلك لعدم إنكاره معلوماً من الدين بالضرورة إلا أن يسبه من حيث الصحبة.
4 - إن سب بعضهم سباً لا يطعن في دينهم وعدالتهم...
فلا شك أن فاعل ذلك يستحق التعزير والتأديب، ولكن وحسب مطالعتي لأقوال العلماء في المراجع المذكورة لم أر أحداً منهم يكفر فاعل ذلك (ولا فرق عندهم بين كبار الصحابة وصغارهم).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (.. وأما إن سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك فهو الذي يستحق التأديب والتعزير ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من العالم) [1] وذكر أبو يعلى من الأمثلة على ذلك: (اتهامهم بقلة المعرفة بالسياسة [2].
ومما يشبه ذلك اتهامهم بضعف الرأي، وضعف الشخصية والغفلة وحب الدنيا ونحو ذلك وهذا النوع من الطعن تطفح به كتب التاريخ وكذلك الدراسات المعاصرة لبعض المنسوبين لأهل السنة باسم الموضوعية والمنهج العلمي وللمستشرقين أثر في غالب الدراسات من هذا النوع.
ولعل من المناسب هنا أن نقف وقفة قصيرة جداً نبين فيها فساد هذا المنهج وخطورة تطبيقه على تاريخ الصحابة، ونبدأ ذلك بالتعريف بالمنهج الموضوعي عند الغربيين،
المنهج الموضوعي: أن يبحث الموضوع بحثاً عقلياً مجرداً بعيداً عن التصورات الدينية [3]، فنقول رداً على ذلك:
أ- المسلم لا يمكن أن يتجرد عن عقيدته بأي حال من الأحوال إلا أن يكون كافراً بها [4].
ب- وكذلك نقول بالنسبة للتاريخ الإسلامي: إذا ثبتت الحوادث في ميزان نقد الرواية فبأي منهج نفهمها ونفسرها؟ إذا لم نفسرها بالمنهج الإسلامي فلا بد أن نختار منهجاً آخر فنقع في الانحراف من حيث لا نعلم وبناء على ذلك يجب أن نحذر من تطبيق هذا المنهج على تاريخ الصحابة ويجب أن نعلم أيضاً) أن ما يسمى بالنقد العلمي أو الموضوعي لتاريخ الصحابة هو السب الوارد في كتب أهل البدع وفي كتب الأخبار، وتسميته بالمنهج العلمي لا يخرجه عن حقيقته التي عرف بها عند أهل السنة، وأيضاً تسميته بذلك لا تعلي من قيمته، كما لا يعلي من قيمته أن يردده كُتَّاب مشهورون، وفيهم أولوا فضل وصلاح، وإنما كل ما فعله المحدثون أن أحيوا هذا السب الذي أماته أهل السنة لما كانت الدولة دولتهم [5].
والذي أوصي به نفسي وإخواني الباحثين في تاريخ الصحابة أن لا يتخلوا عن عقيدتهم - ومنها الاعتقاد بعدالة الصحابة وتحريم سبهم - عند بحثهم، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلهم، وليعلموا أن لأهل السنة منهجاً واضحاً في النظر إلى تلكم الأخبار كما سيأتي في آخر البحث.
5- سب أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بما برأها الله منه...
أجمع أهل العلم على أن من سب أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بما برأها الله منه فقد كفر قال القاضي أبو يعلى: من قذف عائشة - رضي الله عنها - بما برأها الله منه كفر بلا خلاف.
وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم فروي عن مالك: من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة قتل (قيل له: لِمَ؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن [6].
وقال ابن شعبان في روايته عن مالك لأن الله - تعالى -يقول: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثلِهِ أَبَداً إن كُنتُم مٌّؤمِنِينَ) فمن عاد لمثله فقد كفر) [7].
والأدلة على كفر من رمى أم المؤمنين صريحة وظاهرة الدلالة منها:
أ- ما استدل به الإمام مالك أن في هذا تكذيباً للقرآن الذي شهد ببراءتها، وتكذيب ما جاء به القرآن كفر.
قال الإمام ابن كثير: وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكره في هذه الآية فإنه كافر لأنه معاند للقرآن [8]، وقال ابن حزم تعليقاً على قول الإمام مالك السابق: (قول مالك هاهنا صحيح، وهي ردة تامة وتكذيب لله - تعالى -في قطعه ببراءتها) [9].
ب -أن فيه إيذاء وتنقيصاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجوه دل عليها القرآن الكريم.
1- فرق ابن عباس - رضي الله عنهما - بين قوله - عز وجل -: (والَّذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ ثُمَّ لَم يَأتُوا بِأَربَعَةِ شُهَدَاءَ) … الآية سورة النور، وبين قوله - عز وجل -: (إنَّ الَذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ الغَافِلاتِ المُؤمِنَاتِ)...
الآية سورة النور، فقال عند تفسير الآية الثانية: (هذه في شأن عائشة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة وهي مبهمة ليس فيها توبة.
ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرأ: (والَّذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ ثُمَّ لَم يَأتُوا بِأَربَعَةِ شُهَدَاءَ) إلى قوله: (إلاَّ الَذِينَ تَابُوا مِن بَعدِ ذَلِكَ وأَصلَحُوا) فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة.
قال فَهَمَّ رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر فقد بين ابن عباس أن هذه الآية إنما أنزلت فيمن قذف عائشة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن لما في قذفهن من الطعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعيبه فإن قذف المرأة أذى لزوجها كما هو أذى لأبيها لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه.
وأن زنا امرأته يؤذيه أذى عظيماً...
ولعل ما يلحق بعض الناس من العار والخزي بقذف أهله أعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف) [10].
2-وإيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفر بالإجماع، قال القرطبي عند قوله - تعالى -: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أن تَعُودُوا لِمِثلِهِ أَبَداً) [النور]، يعني في عائشة لأن مثله لا يكون إلا نظير القول في المقول عنه بعينه، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لما في ذلك من إذاية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عرضه وأهله وذلك كفر من فاعله) [11].
ومما يدل على أن قذفهن أذى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما خرجاه في الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة قالت: فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فاستعذر عن عبد الله بن أبي بن سلول قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي...
فقوله: من يعذرني أي من ينصفني ويقيم عذري إذا انتصفت منه لما بلغني من أذاه في أهل بيتي والله لهم.
فثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قد تأذى بذلك تأذياً استعذر منه وقال المؤمنون الذين لم تأخذهم حمية: مرنا نضرب أعناقهم فإنا نعذرك إذا أمرتنا بضرب أعناقهم، ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على سعد استئماره في ضرب أعناقهم) [12].
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (ومن يقذف الطاهرة الطيبة أم المؤمنين زوجة رسول رب العالمين - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة لما صح ذلك عنه فهو من ضرب عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ولسان حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يا معشر المسلمين من يعذرني فيمن آذاني في أهلي) [13] (والَّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنِينَ والمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَاناً وإثماً مٌّبِيناً) [الأحزاب / 58]، فأين أنصار دينه ليقولوا نحن نعذرك يا رسول الله؟ …) [14].
3- كما أن الطعن بها - رضي الله عنها - فيه تنقيص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جانب آخر، حيث قال الله - عز وجل -: (الخَبِيثَاتُ لِلخَبِيثِينَ) [الآية من سورة النور]، قال ابن كثير: (أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وهي طيبة لأنه أطيب من كل طيب من البشر ولو كانت خبيثة لما صلحت له لا شرعاً ولا قدراً ولهذا قال - تعالى -: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي هم بعداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان) [15].
5- سب بقية أمهات المؤمنين..
اختلف العلماء في قذف بقية أمهات المؤمنين، والراجح الذي عليه الأكثرون كفر فاعل ذلك، (لأن المقذوفة زوجة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والله - تعالى - إنما غضب لها لأنها زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي وغيرها منهن سواء) [16].
وكذلك يكفر لأن في ذلك تنقيص وأذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقذف حليلته [17]، وقد بينا ذلك عند كلامنا عن حكم من قذف أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فليراجع.
أما إن سب أمهات المؤمنين سباً غير ذلك فحكمهن حكم سائر الصحابة على التفصيل المذكور سابقاً.
والله أعلم.
6 - لوازم السب:
تيقظ السلف الصالح رضوان الله عليهم لخطورة الطعن في الصحابة وسبهم، وحذروا من الطاعنين ومقاصدهم، وذلك لعلمهم بما قد يؤدي إليه ذلك السب من لوازم باطلة تناقض أصول الدين.
فقال بعضهم كلمات قليلة لكنها جامعة أذكرها في مقدمة هذا البحث ثم أوضح -بعض الشيء - ما يترتب على السب غالباً.
وسأركز في الرد على السابة من القسم الأول والثاني ممن يزعمون كفر أو فسق مجموع الصحابة أو أكثرهم أو الطعن في عدالة من تواترت النصوص بفضله كالخلفاء - رضي الله عنهم -.
قال الإمام مالك - رحمه الله - عن هؤلاء: (إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه، حتى يقال رجل سوء، ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين) [18]، وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: (إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام) [19].
وقال أبو زرعة الرازي - رحمه الله -: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فأعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ? وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى، وهم زنادقة) [20].
وقال الإمام أبو نعيم - رحمه الله -: (فلا يتتبع هفوات أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزللهم ويحفظ عليهم ما يكون منهم في حال الغضب والموجدة إلا مفتون القلب في دينه) [21]ويقول أيضاً: (.. لا يبسط لسانه فيهم إلا من سوء طويته في النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته والإسلام والمسلمين) [22]، وتحذير العلماء هنا عام يشمل جميع الصحابة، وتأمل قول إمام أهل السنة: 0 يذكر أحداً من الصحابة بسوء) وقول أبي زرعة: (ينتقص أحداً.. ) فحذروا من ينتقص (مجرد انتقاص) أو ذكر بسوء (وذلك دون الشتم أو التكفير) أحداً (وليس جميعهم) فماذا يقال فيمن يسب أغلبهم؟ وإليك أخي القارئ إيضاح بعض لوازم السب:
1 - يترتب على القول بكفر وارتداد معظم الصحابة أو فسقهم إلا نفراً يسيراً الشك في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وذلك لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول، إذ كيف نثق بكتاب نقله إلينا الفسقة والمرتدون - والعياذ بالله - ولذلك صرح بعض أهل الضلال والبدع ممن يسب الصحابة بتحريف الصحابة للقرآن والبعض أخفى ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة للأحاديث النبوية، فإذا اتهم الصحابة رضوان الله عليهم في عدالتهم صارت الأسانيد مرسلة مقطوعة لا حجة فيها.
ومع ذلك يزعم - بعض هؤلاء - إيمانهم بالقرآن، فنقول لهم: يلزم من الإيمان به الإيمان بما فيه، وقد علمت أن الذي فيه أنهم خير الأمم وأن الله لا يخزيهم وأنه رضي عنهم...إلخ، فمن لم يصدق ذلك فيهم، فهو مكذب لما في القرآن ناقض لدعواه.
2-هذا القول يقتضي أن هذه الأمة - والعياذ بالله - شر أمة أخرجت للناس، وسابقي هذه الأمة شرارها، وخيرها القرن الأول كان عامتهم كفاراً أو فساقاً، وأنهم شر القرون [23]، كبرت كلمة تخرج من أفواههم.
3 - يلزم من هذا القول أحد أمرين، إما نسبة الجهل إلى الله - تعالى - عما يصفون - أو العبث في هذه النصوص التي أثني بها على الصحابة، فإن كان الله عز وجل تعالى عن قولهم غير عالم بأنهم سيكفرون ومع ذلك أثنى عليهم ووعدهم الحسنى فهو جهل والجهل عليه - تعالى -محال، وإن كان الله - عز وجل - عالماً بأنهم سيكفرون فيكون وعده لهم بالحسنى ورضاه عنهم عبث، والعبث في حقه محال [24]، ويتبع ذلك الطعن في حكمته - عز وجل - حيث اختارهم واصطفاهم لصحبة نبيه - عليه الصلاة والسلام - فجاهدوا معه وآزروه ونصروه واتخذهم أصهاراً له حيث زوج ابنتيه ذا النورين (عثمان) - رضي الله عنه -، وتزوج ابنتي أبي بكر وعمر، فكيف يختار لنبيه أنصاراً وأصهاراً مع علمه بأنهم سيكفرون؟ ! !
4- لقد بذل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - جهوداً خارقة في تربية الصحابة على مدى ثلاثة وعشرين عاماً حتى تكوَّن بفضل الله - عز وجل - المجتمع المثالي في خلقه وتضحياته وزهده وورعه فكان - صلى الله عليه وسلم - أعظم مرب في التاريخ.
ولكن بالعكس من ذلك فإن جماعة تدعي الانتماء إلى الإسلام ونبي الإسلام تقدم لهذا المجتمع صورة معاكسة تهدم المجهودات التي قام بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجال التربية والتوجيه، وتثبت له إخفاقاً لم يواجهه أي مصلح أو مرب خبير مخلص [25] لم يكن مأموراً من الله كما كان الشأن مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إنها ترى أن المجهودات الجبارة التي بذلها محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تنتج إلا ثلاثة (أو أربعة وفقاً لبعض الروايات) ظلوا متمسكين بالإسلام إلى ما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - أما غيرهم فقد قطعوا صلتهم بالإسلام - والعياذ بالله - فور وفاته - صلى الله عليه وسلم - فأثبتوا أن صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتربيته أخفقت ولم يعد لها أي تأثير.
وهذا الزعم يؤدي إلى:
أ - اليأس من إصلاح البشرية.
ب - وعدم الثقة بالمنهج الإسلامي وقدرته على التربية وتهذيب الأخلاق.
ج -وإلى الشك في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن الدين الذي لم يستطع أن يقدم للعالم عدداً وجيها من نماذج عملية ناجحة بناءة، ومجتمعاً مثالياً في أيام الداعي وحامل رسالته الأول، فكيف يستطيع أتباعه ذلك بعد مضي زمن طويل على عهد النبوة؟ ! وإذا كان المؤمنون بهذه الدعوة لم يستطيعوا البقاء على الجادة القويمة ولم يعودوا أوفياء لنبيهم - صلى الله عليه وسلم - بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فلم يبق على الصراط المستقيم الذي ترك عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أتباعه إلا أربعة فقطº فكيف نسلم أن هذا الدين يصلح لتزكية النفوس وبناء الأخلاق؟ وأنه يستطيع أن ينقذ الإنسان من الهمجية والشقاء ويرفعه إلى قمة الإنسانية؟ بل ربما يقال: لو أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان صادقاً في نبوته لكانت تعاليمه ذات تأثير، ووجد هناك من آمن به من صميم القلب ووجد من بين العدد الهائل ممن آمنوا به بعض المئات الذين ثبتوا على الإيمان، فإن كان أصحابه -سوى بضع رجال منهم - منافقين ومرتدين - فيما زعموا - فمن دان بالإسلام؟ ومن انتفع بالرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ وكيف يكون رحمة للعالمين؟ ! [26].
العلم والعمل
قال حكيم لرجل يستكثر من العلم دون العمل: ( يا هذا إذا أفنيت عمرك في جمع السلاح، فمن تقاتل به؟)
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) الصارم المسلول: 591.
(2) نفسه 576.
(3) راجع منهج كتابة التاريخ، العلياني 138 (بتصرف).
(4) راجع في تفصيل، وفي الرد على دعوى الموضوعية بحث مخطوط للدكتور محمد رشاد خليل، ص34-37.
(5) راجع أيضاً البحث القيم للدكتور محمد رشاد خليل فمنه أخذت هذه الفقرة، ص 55، 57، وفي البحث المذكور أبرز المؤلف المنهج الصحيح للنظر في تاريخ الصحابة من خلال مذهب أهل السنة فجزاه الله خيراً.
(6) الصارم المسلول، 571.
(7) الشفا، م 2، ص 1109.
(8) ابن كثير 3/276 عند تفسير قوله - تعالى -: \" إنَّ الَذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ \" وذكر الإجماع في البداية والنهاية 8/92.
(9) المحلى: 11 / 415.
(10) الصارم المسلول، ص 45 تفسير القرطبي 12/209، ابن كثير3/ 276.
(11) القرطبي: 12/205.
(12) الصارم المسلول: 47، 49.
(13) رسالة في الرد على الرافضة، ص 25، 26.
(14) رسالة في الرد على الرافضة، ص 25، 26.
(15) ابن كثير: 3/278.
(16) البداية والنهاية 8/93.
(17) الشفا: 2/1113 وراجع أيضاً الصواعق المحرقة/387، المحلى 11 /415.
(18) رسالة في سب الصحابة، 47.
(19) البداية والنهاية 8/139.
(20) الكفاية للخطيب البغدادي، 97.
(21) الإمامة لأبي نعيم / 344.
(22) نفسه /376.
(23) انظر الصارم المسلول / 592.
(24) انظر اتحاف ذوي النجابة: محمد بن العربي التباني / 75.
(25) صرح بعض من تولى كبر تلكم المزاعم والتهم والضلالات أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينجح وأن الذي ينجح في ذلك المهدي الغائب (أي مهديهم) راجع الرسل والرسالات للأشقر/ 212، 213.
(26) صححه الألباني بطرقه وشواهده:السلسلة الصحيحة1/34.
3 - إن سب صحابياً لم يتواتر النقل بفضله سباً يطعن في الدين..
بينا في الفقرة السابقة رجحان تكفير من سب صاحبياً تواترت النصوص بفضله من جهة دينه.
أما إن لم تتواتر النصوص بفضله فقول جمهور العلماء بعدم كفره، وذلك لعدم إنكاره معلوماً من الدين بالضرورة إلا أن يسبه من حيث الصحبة.
4 - إن سب بعضهم سباً لا يطعن في دينهم وعدالتهم...
فلا شك أن فاعل ذلك يستحق التعزير والتأديب، ولكن وحسب مطالعتي لأقوال العلماء في المراجع المذكورة لم أر أحداً منهم يكفر فاعل ذلك (ولا فرق عندهم بين كبار الصحابة وصغارهم).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (.. وأما إن سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك فهو الذي يستحق التأديب والتعزير ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من العالم) [1] وذكر أبو يعلى من الأمثلة على ذلك: (اتهامهم بقلة المعرفة بالسياسة [2].
ومما يشبه ذلك اتهامهم بضعف الرأي، وضعف الشخصية والغفلة وحب الدنيا ونحو ذلك وهذا النوع من الطعن تطفح به كتب التاريخ وكذلك الدراسات المعاصرة لبعض المنسوبين لأهل السنة باسم الموضوعية والمنهج العلمي وللمستشرقين أثر في غالب الدراسات من هذا النوع.
ولعل من المناسب هنا أن نقف وقفة قصيرة جداً نبين فيها فساد هذا المنهج وخطورة تطبيقه على تاريخ الصحابة، ونبدأ ذلك بالتعريف بالمنهج الموضوعي عند الغربيين،
المنهج الموضوعي: أن يبحث الموضوع بحثاً عقلياً مجرداً بعيداً عن التصورات الدينية [3]، فنقول رداً على ذلك:
أ- المسلم لا يمكن أن يتجرد عن عقيدته بأي حال من الأحوال إلا أن يكون كافراً بها [4].
ب- وكذلك نقول بالنسبة للتاريخ الإسلامي: إذا ثبتت الحوادث في ميزان نقد الرواية فبأي منهج نفهمها ونفسرها؟ إذا لم نفسرها بالمنهج الإسلامي فلا بد أن نختار منهجاً آخر فنقع في الانحراف من حيث لا نعلم وبناء على ذلك يجب أن نحذر من تطبيق هذا المنهج على تاريخ الصحابة ويجب أن نعلم أيضاً) أن ما يسمى بالنقد العلمي أو الموضوعي لتاريخ الصحابة هو السب الوارد في كتب أهل البدع وفي كتب الأخبار، وتسميته بالمنهج العلمي لا يخرجه عن حقيقته التي عرف بها عند أهل السنة، وأيضاً تسميته بذلك لا تعلي من قيمته، كما لا يعلي من قيمته أن يردده كُتَّاب مشهورون، وفيهم أولوا فضل وصلاح، وإنما كل ما فعله المحدثون أن أحيوا هذا السب الذي أماته أهل السنة لما كانت الدولة دولتهم [5].
والذي أوصي به نفسي وإخواني الباحثين في تاريخ الصحابة أن لا يتخلوا عن عقيدتهم - ومنها الاعتقاد بعدالة الصحابة وتحريم سبهم - عند بحثهم، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلهم، وليعلموا أن لأهل السنة منهجاً واضحاً في النظر إلى تلكم الأخبار كما سيأتي في آخر البحث.
5- سب أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بما برأها الله منه...
أجمع أهل العلم على أن من سب أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بما برأها الله منه فقد كفر قال القاضي أبو يعلى: من قذف عائشة - رضي الله عنها - بما برأها الله منه كفر بلا خلاف.
وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم فروي عن مالك: من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة قتل (قيل له: لِمَ؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن [6].
وقال ابن شعبان في روايته عن مالك لأن الله - تعالى -يقول: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثلِهِ أَبَداً إن كُنتُم مٌّؤمِنِينَ) فمن عاد لمثله فقد كفر) [7].
والأدلة على كفر من رمى أم المؤمنين صريحة وظاهرة الدلالة منها:
أ- ما استدل به الإمام مالك أن في هذا تكذيباً للقرآن الذي شهد ببراءتها، وتكذيب ما جاء به القرآن كفر.
قال الإمام ابن كثير: وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكره في هذه الآية فإنه كافر لأنه معاند للقرآن [8]، وقال ابن حزم تعليقاً على قول الإمام مالك السابق: (قول مالك هاهنا صحيح، وهي ردة تامة وتكذيب لله - تعالى -في قطعه ببراءتها) [9].
ب -أن فيه إيذاء وتنقيصاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجوه دل عليها القرآن الكريم.
1- فرق ابن عباس - رضي الله عنهما - بين قوله - عز وجل -: (والَّذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ ثُمَّ لَم يَأتُوا بِأَربَعَةِ شُهَدَاءَ) … الآية سورة النور، وبين قوله - عز وجل -: (إنَّ الَذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ الغَافِلاتِ المُؤمِنَاتِ)...
الآية سورة النور، فقال عند تفسير الآية الثانية: (هذه في شأن عائشة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة وهي مبهمة ليس فيها توبة.
ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرأ: (والَّذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ ثُمَّ لَم يَأتُوا بِأَربَعَةِ شُهَدَاءَ) إلى قوله: (إلاَّ الَذِينَ تَابُوا مِن بَعدِ ذَلِكَ وأَصلَحُوا) فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة.
قال فَهَمَّ رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر فقد بين ابن عباس أن هذه الآية إنما أنزلت فيمن قذف عائشة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن لما في قذفهن من الطعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعيبه فإن قذف المرأة أذى لزوجها كما هو أذى لأبيها لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه.
وأن زنا امرأته يؤذيه أذى عظيماً...
ولعل ما يلحق بعض الناس من العار والخزي بقذف أهله أعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف) [10].
2-وإيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفر بالإجماع، قال القرطبي عند قوله - تعالى -: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أن تَعُودُوا لِمِثلِهِ أَبَداً) [النور]، يعني في عائشة لأن مثله لا يكون إلا نظير القول في المقول عنه بعينه، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لما في ذلك من إذاية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عرضه وأهله وذلك كفر من فاعله) [11].
ومما يدل على أن قذفهن أذى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما خرجاه في الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة قالت: فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فاستعذر عن عبد الله بن أبي بن سلول قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي...
فقوله: من يعذرني أي من ينصفني ويقيم عذري إذا انتصفت منه لما بلغني من أذاه في أهل بيتي والله لهم.
فثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قد تأذى بذلك تأذياً استعذر منه وقال المؤمنون الذين لم تأخذهم حمية: مرنا نضرب أعناقهم فإنا نعذرك إذا أمرتنا بضرب أعناقهم، ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على سعد استئماره في ضرب أعناقهم) [12].
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (ومن يقذف الطاهرة الطيبة أم المؤمنين زوجة رسول رب العالمين - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة لما صح ذلك عنه فهو من ضرب عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ولسان حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يا معشر المسلمين من يعذرني فيمن آذاني في أهلي) [13] (والَّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنِينَ والمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَاناً وإثماً مٌّبِيناً) [الأحزاب / 58]، فأين أنصار دينه ليقولوا نحن نعذرك يا رسول الله؟ …) [14].
3- كما أن الطعن بها - رضي الله عنها - فيه تنقيص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جانب آخر، حيث قال الله - عز وجل -: (الخَبِيثَاتُ لِلخَبِيثِينَ) [الآية من سورة النور]، قال ابن كثير: (أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وهي طيبة لأنه أطيب من كل طيب من البشر ولو كانت خبيثة لما صلحت له لا شرعاً ولا قدراً ولهذا قال - تعالى -: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي هم بعداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان) [15].
5- سب بقية أمهات المؤمنين..
اختلف العلماء في قذف بقية أمهات المؤمنين، والراجح الذي عليه الأكثرون كفر فاعل ذلك، (لأن المقذوفة زوجة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والله - تعالى - إنما غضب لها لأنها زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي وغيرها منهن سواء) [16].
وكذلك يكفر لأن في ذلك تنقيص وأذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقذف حليلته [17]، وقد بينا ذلك عند كلامنا عن حكم من قذف أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فليراجع.
أما إن سب أمهات المؤمنين سباً غير ذلك فحكمهن حكم سائر الصحابة على التفصيل المذكور سابقاً.
والله أعلم.
6 - لوازم السب:
تيقظ السلف الصالح رضوان الله عليهم لخطورة الطعن في الصحابة وسبهم، وحذروا من الطاعنين ومقاصدهم، وذلك لعلمهم بما قد يؤدي إليه ذلك السب من لوازم باطلة تناقض أصول الدين.
فقال بعضهم كلمات قليلة لكنها جامعة أذكرها في مقدمة هذا البحث ثم أوضح -بعض الشيء - ما يترتب على السب غالباً.
وسأركز في الرد على السابة من القسم الأول والثاني ممن يزعمون كفر أو فسق مجموع الصحابة أو أكثرهم أو الطعن في عدالة من تواترت النصوص بفضله كالخلفاء - رضي الله عنهم -.
قال الإمام مالك - رحمه الله - عن هؤلاء: (إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه، حتى يقال رجل سوء، ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين) [18]، وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: (إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام) [19].
وقال أبو زرعة الرازي - رحمه الله -: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فأعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ? وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى، وهم زنادقة) [20].
وقال الإمام أبو نعيم - رحمه الله -: (فلا يتتبع هفوات أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزللهم ويحفظ عليهم ما يكون منهم في حال الغضب والموجدة إلا مفتون القلب في دينه) [21]ويقول أيضاً: (.. لا يبسط لسانه فيهم إلا من سوء طويته في النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته والإسلام والمسلمين) [22]، وتحذير العلماء هنا عام يشمل جميع الصحابة، وتأمل قول إمام أهل السنة: 0 يذكر أحداً من الصحابة بسوء) وقول أبي زرعة: (ينتقص أحداً.. ) فحذروا من ينتقص (مجرد انتقاص) أو ذكر بسوء (وذلك دون الشتم أو التكفير) أحداً (وليس جميعهم) فماذا يقال فيمن يسب أغلبهم؟ وإليك أخي القارئ إيضاح بعض لوازم السب:
1 - يترتب على القول بكفر وارتداد معظم الصحابة أو فسقهم إلا نفراً يسيراً الشك في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وذلك لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول، إذ كيف نثق بكتاب نقله إلينا الفسقة والمرتدون - والعياذ بالله - ولذلك صرح بعض أهل الضلال والبدع ممن يسب الصحابة بتحريف الصحابة للقرآن والبعض أخفى ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة للأحاديث النبوية، فإذا اتهم الصحابة رضوان الله عليهم في عدالتهم صارت الأسانيد مرسلة مقطوعة لا حجة فيها.
ومع ذلك يزعم - بعض هؤلاء - إيمانهم بالقرآن، فنقول لهم: يلزم من الإيمان به الإيمان بما فيه، وقد علمت أن الذي فيه أنهم خير الأمم وأن الله لا يخزيهم وأنه رضي عنهم...إلخ، فمن لم يصدق ذلك فيهم، فهو مكذب لما في القرآن ناقض لدعواه.
2-هذا القول يقتضي أن هذه الأمة - والعياذ بالله - شر أمة أخرجت للناس، وسابقي هذه الأمة شرارها، وخيرها القرن الأول كان عامتهم كفاراً أو فساقاً، وأنهم شر القرون [23]، كبرت كلمة تخرج من أفواههم.
3 - يلزم من هذا القول أحد أمرين، إما نسبة الجهل إلى الله - تعالى - عما يصفون - أو العبث في هذه النصوص التي أثني بها على الصحابة، فإن كان الله عز وجل تعالى عن قولهم غير عالم بأنهم سيكفرون ومع ذلك أثنى عليهم ووعدهم الحسنى فهو جهل والجهل عليه - تعالى -محال، وإن كان الله - عز وجل - عالماً بأنهم سيكفرون فيكون وعده لهم بالحسنى ورضاه عنهم عبث، والعبث في حقه محال [24]، ويتبع ذلك الطعن في حكمته - عز وجل - حيث اختارهم واصطفاهم لصحبة نبيه - عليه الصلاة والسلام - فجاهدوا معه وآزروه ونصروه واتخذهم أصهاراً له حيث زوج ابنتيه ذا النورين (عثمان) - رضي الله عنه -، وتزوج ابنتي أبي بكر وعمر، فكيف يختار لنبيه أنصاراً وأصهاراً مع علمه بأنهم سيكفرون؟ ! !
4- لقد بذل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - جهوداً خارقة في تربية الصحابة على مدى ثلاثة وعشرين عاماً حتى تكوَّن بفضل الله - عز وجل - المجتمع المثالي في خلقه وتضحياته وزهده وورعه فكان - صلى الله عليه وسلم - أعظم مرب في التاريخ.
ولكن بالعكس من ذلك فإن جماعة تدعي الانتماء إلى الإسلام ونبي الإسلام تقدم لهذا المجتمع صورة معاكسة تهدم المجهودات التي قام بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجال التربية والتوجيه، وتثبت له إخفاقاً لم يواجهه أي مصلح أو مرب خبير مخلص [25] لم يكن مأموراً من الله كما كان الشأن مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إنها ترى أن المجهودات الجبارة التي بذلها محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تنتج إلا ثلاثة (أو أربعة وفقاً لبعض الروايات) ظلوا متمسكين بالإسلام إلى ما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - أما غيرهم فقد قطعوا صلتهم بالإسلام - والعياذ بالله - فور وفاته - صلى الله عليه وسلم - فأثبتوا أن صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتربيته أخفقت ولم يعد لها أي تأثير.
وهذا الزعم يؤدي إلى:
أ - اليأس من إصلاح البشرية.
ب - وعدم الثقة بالمنهج الإسلامي وقدرته على التربية وتهذيب الأخلاق.
ج -وإلى الشك في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن الدين الذي لم يستطع أن يقدم للعالم عدداً وجيها من نماذج عملية ناجحة بناءة، ومجتمعاً مثالياً في أيام الداعي وحامل رسالته الأول، فكيف يستطيع أتباعه ذلك بعد مضي زمن طويل على عهد النبوة؟ ! وإذا كان المؤمنون بهذه الدعوة لم يستطيعوا البقاء على الجادة القويمة ولم يعودوا أوفياء لنبيهم - صلى الله عليه وسلم - بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فلم يبق على الصراط المستقيم الذي ترك عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أتباعه إلا أربعة فقطº فكيف نسلم أن هذا الدين يصلح لتزكية النفوس وبناء الأخلاق؟ وأنه يستطيع أن ينقذ الإنسان من الهمجية والشقاء ويرفعه إلى قمة الإنسانية؟ بل ربما يقال: لو أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان صادقاً في نبوته لكانت تعاليمه ذات تأثير، ووجد هناك من آمن به من صميم القلب ووجد من بين العدد الهائل ممن آمنوا به بعض المئات الذين ثبتوا على الإيمان، فإن كان أصحابه -سوى بضع رجال منهم - منافقين ومرتدين - فيما زعموا - فمن دان بالإسلام؟ ومن انتفع بالرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ وكيف يكون رحمة للعالمين؟ ! [26].
العلم والعمل
قال حكيم لرجل يستكثر من العلم دون العمل: ( يا هذا إذا أفنيت عمرك في جمع السلاح، فمن تقاتل به؟)
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) الصارم المسلول: 591.
(2) نفسه 576.
(3) راجع منهج كتابة التاريخ، العلياني 138 (بتصرف).
(4) راجع في تفصيل، وفي الرد على دعوى الموضوعية بحث مخطوط للدكتور محمد رشاد خليل، ص34-37.
(5) راجع أيضاً البحث القيم للدكتور محمد رشاد خليل فمنه أخذت هذه الفقرة، ص 55، 57، وفي البحث المذكور أبرز المؤلف المنهج الصحيح للنظر في تاريخ الصحابة من خلال مذهب أهل السنة فجزاه الله خيراً.
(6) الصارم المسلول، 571.
(7) الشفا، م 2، ص 1109.
(8) ابن كثير 3/276 عند تفسير قوله - تعالى -: \" إنَّ الَذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ \" وذكر الإجماع في البداية والنهاية 8/92.
(9) المحلى: 11 / 415.
(10) الصارم المسلول، ص 45 تفسير القرطبي 12/209، ابن كثير3/ 276.
(11) القرطبي: 12/205.
(12) الصارم المسلول: 47، 49.
(13) رسالة في الرد على الرافضة، ص 25، 26.
(14) رسالة في الرد على الرافضة، ص 25، 26.
(15) ابن كثير: 3/278.
(16) البداية والنهاية 8/93.
(17) الشفا: 2/1113 وراجع أيضاً الصواعق المحرقة/387، المحلى 11 /415.
(18) رسالة في سب الصحابة، 47.
(19) البداية والنهاية 8/139.
(20) الكفاية للخطيب البغدادي، 97.
(21) الإمامة لأبي نعيم / 344.
(22) نفسه /376.
(23) انظر الصارم المسلول / 592.
(24) انظر اتحاف ذوي النجابة: محمد بن العربي التباني / 75.
(25) صرح بعض من تولى كبر تلكم المزاعم والتهم والضلالات أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينجح وأن الذي ينجح في ذلك المهدي الغائب (أي مهديهم) راجع الرسل والرسالات للأشقر/ 212، 213.
(26) صححه الألباني بطرقه وشواهده:السلسلة الصحيحة1/34.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد