بسم الله الرحمن الرحيم
منذ وجد الشرك والفساد في الأرض، كانت الأنبياء والرسل يدعون إلى عبادة الله وحده، وينهون عن كل صور الفساد في الأرض، وكان الذين يتبعون الأنبياء هم المؤمنين، كان نوح مؤمناً، وكان من تبعه مؤمنين، وكذلك كان إبراهيم خليل الرحمن أبو الأنبياء والمرسلين مؤمناً، وكان أبا المؤمنين، وكذلك كان إسماعيل، وإسحاق ويعقوب، وموسى، وكذلك كان الأنبياء من بعده إلى عيسى مؤمنين، وكان أتباعهم مؤمنين، حتى بعث الله إلى البشرية كلها خاتمهم محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤمناً، وأتباعه المؤمنين، واليوم يُعرف الذين انتسبوا إلى موسى باليهود أو [ الموسويين ]، ويُعرف الذين انتسبوا إلى المسيح بالنصارى أو [ المسيحيين ]، ويعرف الذين آمنوا بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمسلمين، وكلُّ يؤمن أن دينه هو دين الله، أو هو الدين عند الله، فما هو الدين عند الله؟.
الحقيقة التي اتفق عليها اليهود والنصارى والمسلمون.
لا يستطيع مسلم ولا يهودي ولا نصراني أن ينفي الإيمان عن نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء قبل موسى ـ عليه السلام ـ فالجميع يؤمنون أن هؤلاء كانوا رسل الله المؤمنين، وأن من تبعوهم كانوا مؤمنين، وأنهم كانوا على الدين المَرضِىّ عند الله - عز وجل -، وفي نفس الوقت لا يستطيع أحد أن ينسبهم إلى الموسوية [ اليهودية ]، ولا إلى المسيحية [ النصرانية ] لسبب بديهي هو أن [ اليهودية ] ولا [ النصرانية ] لم تكن قد عرفت بعد في عهد أي واحد من هؤلاء الأنبياء.
والسؤال الآن:
ما هو هذا الدين الذي آمن به الأنبياء من لدن آدم ـ عليه السلام ـ إلى نوح، إلى إبراهيم، إلى آخر نبي بُعِثَ قبل موسى ـ عليه السلام -؟
نعم، ماذا كان دين هؤلاء الأنبياء الذين يتفق اليهود والنصارى والمسلمون على أنه دين الله، وأنه هو الدين المقبول المرضي عند الله - سبحانه وتعالى -؟
لم يرد في توراة اليهود ولا في إنجيل النصارى الحاليين إثبات لاسم هذا الدين الذي آمن به هؤلاء الأنبياء ومن تبعوهم، فكيف نستطيع معرفة هذا الدين؟
الجواب:
هو أن السبيل إلى التعرف عليه هو التفكير في جوهر هذا الدين وحقيقته ومقاصده، ونحن نعلم أن الله - عز وجل - لما أرسل هؤلاء الأنبياء إلى أممهم فإنه أرسلهم بعقيدة واحدة هي توحيد الله، وبشرائع يدعون الناس إليها تتضمن أوامر الله - عز وجل - ونواهيه، فمن قبلها وانقاد لله فيها فهو المؤمن الذي آمن بالله ورسوله المبعوث إليه، ودان بالدين الذي يرضاه الله - عز وجل - ويقبله، فهذا الدين عند الله هو توحيد الله، والانقياد لشرائع الله، والاستسلام لحكم الله، والخضوع لأمره ونهيه والإخلاص له - عز وجل - في ذلك كله، وإذا حاولنا أن نعبر عن هذه المعاني كلها في لغة العرب بكلمة واحدة تتضمن الاستسلام [ الذي هو الانقياد ] والسلامة [التي هي الإخلاص]، فلن تجد إلا كلمة واحدة هي: [الإسلام].
نعم فإن [الإسلام لله] هو التعريف الوحيد الذي يمكن أن يُعَبَّر به عن الدين المعتبر والمرضىِّ والمقبول عند الله، هو القاسم المشترك بين رسالات جميع الأنبياء، وهو وحده الذي نستطيع أن نقول: أنه كان دين نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب ـ عليهم السلام ـ ومن تبعهم من المؤمنين.
{ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسلاَمُ }
من أجل ذلك لم يكن لفظ [الإسلام] مجرد اسم خاص للتعبير عن دين محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكن في حقيقته هو التعبير الوحيد عن جوهر جميع الرسالات السماوية، بما في ذلك رسالة موسى، ورسالة عيسى ـ عليهما السلام ـ ولم يكن وصف [المسلمين] مجرد اسم لأتباع رسول الله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل هناك معنى [عام] للإسلام وللمسلمين، دلت عليه النصوص الآتية:
قال – تعالى -: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسلاَمُ } … (آل عمران: 19).
وقال - عز وجل -: { بَلَى مَن أَسلَمَ وَجهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحسِنٌ فَلَهُ أَجرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ } … (البقرة: 112).
وقال - سبحانه - حاكياً دعاء إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام -: { رَبَّنَا وَاجعَلنَا مُسلِمَينِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مٌّسلِمَةً لَّكَ } … (البقرة: 128).
وقال - عز وجل -: { فَإن حَآجٌّوكَ فَقُل أَسلَمتُ وَجهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } … ( آل عمران: 20).
وقال - تعالى -: { وَمَن أَحسَنُ دِيناً مِّمَّن أَسلَمَ وَجهَهُ لله وَهُوَ مُحسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبرَاهِيمَ حَنِيفاً } … ( النساء: 125).
وقال - جل وعلا -: { قُل إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الهُدَىَ وَأُمِرنَا لِنُسلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ } … (الأنعام: 71).
وقال – سبحانه -: { فَإِلَهُكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسلِمُوا } … (الحج: 34).
وقد تغيب هذه الحقيقة عن فريقين من الناس:
الأول: غير المسلمين، والذين لا يعرفون اللغة العربية على وجه الخصوص، وهؤلاء لا يكاد يتطرق إلى أذهانهم هذا المعنى العظيم الذي يعبر عنه بكلمة [الإسلام]، نعم هم ينطقونها نفس النطق العربي Islam باعتبارها عَلَماً على دين خاص، دون أن يفقهوا معناها الحقيقي لكونهم جاهلين بلغة العرب، والواجب إشاعة هذه اللفظ مقروناً بمعناه بلغة القوم المخاطبين، بحيث كلما ذكرت كلمة [ الإسلام ]، ذُكِرَ معناها في لغة العرب.
والفريق الثاني: غير المسلمين ممن يعرفون اللغة العربية، فإنهم إذا سمعوا قوله - تعالى -: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسلاَمُ } وقوله - تعالى -: { وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلاَمِ دِيناً فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ } … ( آل عمران: 85 )
تنصرف أذهانهم إلى الإسلام \" الخاص \" الذي دعا إليه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويحسبون أن رسالة موسى التي يعبر عنها ـ الآن ـ بالموسوية أو رسالة عيسى التي يعبر عنها ـ الآن ـ بالمسيحية، لا تدخلان في عموم الإسلام المذكور في الآيتين السابقتين.
ومما يؤسف له أشد الأسف أن هذه الحقيقة قد تغيب عن كثير من المسلمين، فيحملون الآيتين على الإسلام \" الخاص \" ولا يفطنون إلى أن الإسلام هو دين جميع الأنبياء والمرسلين، وأنهم وأتباعهم أجمعين كانوا مسلمين، ومن أجل توضيح هذه الحقيقة، نذكر شواهدها وأدلتها من القرآن الكريم:
فقد خاطب الله - عز وجل - رسله الكرام ـ عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ قائلاً: { يَا أَيٌّهَا الرٌّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبٌّكُم فَاتَّقُونِ }... ( المؤمنون: 51 - 52 ) أي: هذه ملتكم واحدة، لأن كلمة \" أمة \" هنا معناها الدين والملة، وقال – عز وجل -: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوحَينَا إِلَيكَ وَمَا وَصَّينَا بِهِ إِبرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَن أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشرِكِينَ مَا تَدعُوهُم إِلَيهِ اللَّهُ يَجتَبِي إِلَيهِ مَن يَشَاءُ وَيَهدِي إِلَيهِ مَن يُنِيبُ }... ( الشورى: 13 ).
وقال - سبحانه - في حق الأنبياء - عليهم السلام -: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ, أَن يُؤتِيَهُ اللّهُ الكِتَابَ وَالحُكمَ وَالنٌّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُم تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُم تَدرُسُونَ * وَلاَ يَأمُرَكُم أَن تَتَّخِذُوا المَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّينَ أَربَاباً أَيَأمُرُكُم بِالكُفرِ بَعدَ إِذ أَنتُم مٌّسلِمُونَ }... ( آل عمران: 79 - 80 ).
وقال - سبحانه - حاكياً عن أول رسول منه إلى أهل الأرض نوح ـ عليه السلام ـ أنه قال لقومه: { فَإِن تَوَلَّيتُم فَمَا سَأَلتُكُم مِّن أَجرٍ, إِن أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرتُ أَن أَكُونَ مِنَ المُسلِمِينَ }... ( يونس: 72 ).
وقال - تعالى - عن إبراهيم ـ عليه السلام ـ: { مَا كَانَ إِبرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مٌّسلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشرِكِينَ }... ( آل عمران: 67 ).
وقال - تعالى - عن إبراهيم ويعقوب ـ عليهما السلام ـ: { وَمَن يَرغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفسَهُ وَلَقَدِ اصطَفَينَاهُ فِي الدٌّنيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذ قَالَ لَهُ رَبٌّهُ أَسلِم قَالَ أَسلَمتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مٌّسلِمُونَ }... ( البقرة: 130 - 132 ).
وقال - عز وجل - في شأن يعقوب ـ عليه السلام ـ: { أَم كُنتُم شُهَدَاء إِذ حَضَرَ يَعقُوبَ المَوتُ إِذ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعبُدُونَ مِن بَعدِي قَالُوا نَعبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبرَاهِيمَ وَإِسمَاعِيلَ وَإِسحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحنُ لَهُ مُسلِمُونَ }... ( البقرة: 133 ).
وحكى عن يوسف ـ عليه السلام ـ دعاءه: { رَبِّ قَد آتَيتَنِي مِنَ المُلكِ وَعَلَّمتَنِي مِن تَأوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدٌّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسلِماً وَأَلحِقنِي بِالصَّالِحِينَ }... ( يوسف: 101 ).
وحكى عن لوط ـ عليه السلام ـ أنه: { قَالَ فَمَا خَطبُكُم أَيٌّهَا المُرسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرسِلنَا إِلَى قَومٍ, مٌّجرِمِينَ * لِنُرسِلَ عَلَيهِم حِجَارَةً مِّن طِينٍ, * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلمُسرِفِينَ * فَأَخرَجنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤمِنِينَ * فَمَا وَجَدنَا فِيهَا غَيرَ بَيتٍ, مِّنَ المُسلِمِينَ }... ( الذاريات: 31 - 36 ).
وقال - تعالى - عن موسى - عليه السلام -: { وَقَالَ مُوسَى يَا قَومِ إِن كُنتُم آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مٌّسلِمِينَ }... ( يونس: 84 ).
وقال - تعالى - حكاية عن سحرة فرعون الذين آمنوا بموسى ـ عليه السلام ـ: {.. رَبَّنَا أَفرِغ عَلَينَا صَبراً وَتَوَفَّنَا مُسلِمِينَ }... ( الأعراف: 126 ).
وقال - تعالى - حكاية عن فرعون: {.. حَتَّى إِذَا أَدرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَت بِهِ بَنُو إِسرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسلِمِينَ } .... ( يونس: 90 ).
وقال - سبحانه - حاكياً عن بلقيس: { قَالَت يَا أَيٌّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيمَانَ وَإِنَّهُ بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعلُوا عَلَيَّ وَأتُونِي مُسلِمِينَ }... ( النمل: 29 - 31 ).
وقال – سبحانه -: { فَلَمَّا جَاءت قِيلَ أَهَكَذَا عَرشُكِ قَالَت كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا العِلمَ مِن قَبلِهَا وَكُنَّا مُسلِمِينَ } إلى قوله - تعالى -: { قِيلَ لَهَا ادخُلِي الصَّرحَ فَلَمَّا رَأَتهُ حَسِبَتهُ لُجَّةً وَكَشَفَت عَن سَاقَيهَا قَالَ إِنَّهُ صَرحٌ مٌّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَت رَبِّ إِنِّي ظَلَمتُ نَفسِي وَأَسلَمتُ مَعَ سُلَيمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ }... ( النمل: 44 ).
وقال - سبحانه - في شأن عيسى - علبه السلام -: { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنهُمُ الكُفرَ قَالَ مَن أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الحَوَارِيٌّونَ نَحنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشهَد بِأَنَّا مُسلِمُونَ }... ( آل عمران: 52 ).
وقال - تعالى - عن الحواريين أيضاً: { وَإِذ أَوحَيتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَن آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَا آمَنَّا وَاشهَد بِأَنَّنَا مُسلِمُونَ }... ( المائدة: 111 ).
وقال – سبحانه -: { إِنَّا أَنزَلنَا التَّورَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحكُمُ بِهَا النَّبِيٌّونَ الَّذِينَ أَسلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيٌّونَ وَالأَحبَارُ بِمَا استُحفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخشَوُا النَّاسَ وَاخشَونِ وَلاَ تَشتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّم يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ }... ( المائدة: 44 ).
وقال الزمخشري في قوله - تعالى -: { يَحكُمُ بِهَا النَّبِيٌّونَ الَّذِينَ أَسلَمُوا }: \" وأريد بإجرائها ـ يعني هذه الصفة ـ التعريض باليهود وأنهم بعداء عن صلة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث وأن اليهودية بمعزل \" اهـ.
وقال ابن منظور في \" لسان العرب \": وقوله - تعالى -: { يَحكُمُ بِهَا النَّبِيٌّونَ الَّذِينَ أَسلَمُوا } فسره تغلب فقال: كل نبي بعث بالإسلام غير أن الشرائع تختلف اهـ.
وقال - تعالى - عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى: { الَّذِينَ آتَينَاهُمُ الكِتَابَ مِن قَبلِهِ هُم بِهِ يُؤمِنُونَ * وَإِذَا يُتلَى عَلَيهِم قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقٌّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبلِهِ مُسلِمِينَ }... ( القصص: 52 - 53 ). يعني أن المؤمنين منهم بدينهم حقاً يقولون: إنا من قبل نزول القرآن مسلمين، فلم يقولوا إنا كنا من قبله يهوداً أو نصارى.
وقال - عز وجل -: { أَفَغَيرَ دِينِ اللّهِ يَبغُونَ وَلَهُ أَسلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ طَوعاً وَكَرهاً وَإِلَيهِ يُرجَعُونَ * قُل آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَينَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبرَاهِيمَ وَإِسمَاعِيلَ وَإِسحَاقَ وَيَعقُوبَ وَالأَسبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيٌّونَ مِن رَّبِّهِم لاَ نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ, مِّنهُم وَنَحنُ لَهُ مُسلِمُونَ * وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلاَمِ دِيناً فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ }... ( آل عمران: 83 - 85 ).
ولنص القرآن إيحاءات منها:
أن الدين عند الله الإسلام، وأنه لا يقبل من أحد ديناً إلا الإسلام، وأن من في السماوات والأرض قد أسلموا لله - عز وجل - طوعاً وكرهاً، وأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ( إسرائيل ) والأسباط وموسى وعيسى وجميع الأنبياء مسلمون.
وقال - تعالى - مخاطباً هذه الأمة المحمدية: { يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مٌّسلِمُونَ }... ( آل عمران: 102 ).
وقال - عز وجل - أيضاً: { اليَومَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُم فَلاَ تَخشَوهُم وَاخشَونِ اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلاَمَ دِيناً }... ( المائدة: 3 ).
* * *
يتحصل لنا من كل ما سبق أن \" الإسلام \" ليس اسماً لدين خاص، وإنما هو اسم للدين المشترك الذي هتف به جميع الأنبياء ـ عليهم السلام ـ، وأن هذا الإسلام يعني الطاعة والانقياد والاستسلام لله - تعالى -، بفعل ما يأمر به، وترك ما ينهى عنه.
ولذلك فإن الإسلام في عهد نوح ـ عليه السلام ـ كان يتحقق باتباع ما جاء به نوح، وكانت كلمة النجاة في رسالته: \" لا إله إلا الله، نوح رسول الله \"، وفي عهد موسى مثلاً كانت: \" لا إله إلا الله، موسى رسول الله \"، وفي عهد عيسى ـ عليه السلام ـ كانت كلمة النجاة: \" لا إله إلا الله، عيسى رسول الله \"، وهكذا كانت كلمة النجاة في الرسالة الخاتمة الخالدة:
\" لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله \"
ومن هنا كان مقتضى إيمان قوم موسى ـ عليه السلام ـ عبادة الله وحده لا شريك له، والإيمان بالتوراة، والانقياد لشريعة موسى عليه السلام، وليس الدين لموسى، ولكنه دين الله، وموسى رسوله والمبلغ عنه، والذين اتبعوا موسى، وآمنوا بالتوراة التي أنزلت عليه كانوا مسلمين خاضعين لله - سبحانه و تعالى -، فإنهم بهذا الإيمان والانقياد والخضوع والاستسلام لله - عز وجل - إنما يكونون قد \" أسلموا \" لله قيما أرادهم أن يسلموا له فيه.
وتوالى رسل الله بعد موسى ـ عليه السلام ـ وكان مقتضى الإسلام لله - عز وجل - الإيمان بالرسل جميعاً وبرسالاتهم، وهكذا إلى أن بعث الله عبده ورسوله عيسى المسيح ـ عليه السلام ـ فدعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والانقياد لشرعه، والإيمان بكتابه الإنجيل المنزل من عند الله، وليس الدين للمسيح، وإنما هو دين الله الذي أرسل به جميع رسله وأنبيائه، والذين آمنوا بالمسيح ـ عليه السلام ـ وبالإنجيل كانوا مسلمين خاضعين لله سبحانه، لأنهم \" أسلموا لله \" فيما أرادهم أن يسلموا له فيه.
وهكذا أيضاً كان مقتضى إيمان الأمة المحمدية التصديق بتوحيد الله - عز وجل - لا شريك له، والإيمان برسول الله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبالقرآن العظيم، فليس الدين لمحمد ولا لعيسى ولا لموسى إنما هو دين الله، دين واحد هو الإسلام [ إن الدين عند الله الإسلام ]
ومن هنا يتقرر أمور:
الأول: خطأ تسمية البعض هذا الدين ب \" الموسوية \" أو \" المسيحية \" أو \" المحمدية \"، إنما هو \" الإسلام \" دين واحد أرسل الله به جميع الرسل ـ عليهم السلام ـ داعين أممهم إليه فمن أجابهم كان مسلماً.
الثاني: خطأ إطلاق عبارة \" الأديان السماوية \" بصيغة الجمع، فلا توجد \" أديان \" سماوية متعددة، إنما الذي أنزل من السماء \" دين واحد \" هو الإسلام [ إن الدين عند الله الإسلام ]، [ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ]
وإنما الذي يتعدد هو \" الرسالات \" أو \" الشرائع السماوية \" والأحكام العملية التي تختلف من نبي إلى آخر كتفاصيل وكيفية الطهارة، والصلاة، والصيام، والزواج، وغيرها كما سنبين إن شاء الله فيما بعد.
الثالث: بطلان الفكرة الضالة الداعية إلى \" التقريب بين الأديان السماوية \" لأنه ليس هناك \" أديان \" سماوية، وإنما الدين السماوي واحد هو \" الإسلام \" فمحاولة التوفيق بين \" الإسلام \" وغيره من الأديان إنما هي محاولة للتوفيق بين الحق والباطل، وبين الكفر والإيمان، وبين دين سماوي أنزله الله وبين دين صنعه البشر أو حرفوه وغيروه وإذا كان الدين عند الله واحداً ـ كما سبق توضيحه ـ فكيف يمكن الدعوة إلى التقريب بين الشئ ونفسه؟!
الرابع: أن العقيدة الوحيدة الصحيحة على وجه الأرض منذ بعث الله محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى اليوم لا توجد إلا في الإسلام، لأن الله - عز وجل - تكفل بحفظه من التحريف والتغيير: { إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }... ( الحجر: 9 )، وهي نفس العقيدة التي دعا إليها كل الرسل الكرام في كل زمان ومكان، لا تختلف من رسول إلى رسول، ولا من زمان إلى زمان، أما ما عداها فهي عقائد فاسدة متعددة، وفسادها ناشئ من كونها نتاج أفكار البشر وأهوائهم، وقد يكون أصل بعض العقائد صحيحاً لكن التغيير والتحريف طرأ عليها كما هو الحال في زماننا هذا بالنسبة لليهودية والنصرانية.
الخامس: أن هذه العقائد الأرضية أو المحرفة هي التي تقبل التعدد فتوصف بأنها \" أديان \" لأن الله - عز وجل - سمى الوثنية ديناً فقال - عز وجل - مخاطباً مشركي قريش: { لكم دينكم }... ( الكافرون: 6 )، وقال سبحانه حاكياً عن فرعون قوله: { إني أخاف أن يبدل دينكم }، وكان دينهم عبادة فرعون، وقال سبحانه
في حق يوسف ـ عليه السلام ـ { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك }... ( يوسف: 76 ).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد