القصيدة التائية

5.1k
7 دقائق
27 شوال 1428 (08-11-2007)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم


سأل أحد علماء الذميين شيخ الإسلام عن القدر فقال:




أيا علماء الدين ذمي دينكم *** تحير دلوه بأوضح حجة



إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم *** و لم يرضه منى فما وجه حيلتي



دعاني و سد الباب عني فهل إلى *** دخولي سبيل بينوا لي قضيتي



قضى بضلالي ثم قال إرض بالقضا *** فما أنا راض بالذي فيه شقوتي



فإن كنت بالمقضي يا قوم راضيا *** فربي لا يرضى بشؤم بليتي



فهل لي رضا ما ليس يرضاه سيدي *** فقد حرت دلوني على كشف حيرتي



إذا شاء ربي الكفر مني مشيئة *** فهل أنا عاص في إتباع المشيئة



و هل لي إختيار أن أخالف حكمه *** فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي





فأجاب شيخ الإسلام الشيخ الإمام العالم العلامة أحمد بن تيمية مرتجلا:



الحمد الله رب العالمين...



سؤالك يا هذا سؤال معاند *** مخاصم رب العرش بارى البرية



فهذا سؤال خاصم الملأ العلا *** قديما به إبليس أصل البلية



و من يك خصما للمهيمن يرجعن *** على أم رأس هاويا في الحفيرة



ويدعى خصوم الله يوم معادهم *** إلى النار طرا معشر القدرية



سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا به *** الله أو ماروا به للشريعة



وأصل ضلال الخلق من كل فرقة *** هو الخوض في فعل الإله بعلة



فإن هموا لم يفهموا حكمة له *** فصاروا على نوع من الجاهلية



فإن جميع الكون أوجب فعله *** مشيئة رب الخلق باري الخليقة



وذات إله الخلق واجبة بما لها *** من صفات واجبات قديمة



مشيئته مع علمه ثم قدرة *** لوازم ذات الله قاضي القضية



وإبداعه ما شاء من مبدعاته *** بها حكمة فيه و أنواع رحمة



ولسنا إذا قلنا جرت بمشيئة *** من المنكري آياته المستقيمة



بل الحق أن الحكم لله و حده *** له الخلق و الأمر الذي في الشريعة



هو الملك المحمود في كل حالة *** له الملك من غير إنتقاص بشركة



فما شاء مولانا إلا له فإنه *** يكون و مالا لا يكون بحيلة



وقدرته لا نقص فيها و حكمه يعم *** فلا تخصيص في ذي القضية أريد



بذا أن الحوادث كلها بقدرته كانت و محض المشيئة



و ما كان في كل ما قد أراده *** له الحمد حمدا يعتلى كل مدحة



فإن له في الخلق رحمته سرت *** و من حكم فوق العقول الحكيمة



أمورا يحار العقل فيها إذا أرى *** من الحكم العليا و كل عجيبة



فنؤمن أن الله عز بقدرة *** و خلق و إبرام لحكم المشيئة



فنثبت هذا كله لا لهنا *** و نثبت ما في ذاك من كل حكمة



وهذا مقام طالما عجز الأولى *** نفوه و كروا راجعين بحيرة



وتحقيق ما فيه بتبيين غوره *** و تحرير حق الحق في ذي الحقيقة



هو المطلب الأقصى لوارد بحره *** و ذا عسر في نظم هذى القصيدة



لحاجته إلى بيان محقق *** لأوصاف مولانا الإله الكريمة



وأسمائه الحسنى و أحكام دينه *** و أفعاله في كل هذي الخليقة



وهذا بحمد الله قد بان ظاهرا *** و إلهامه للخلق أفضل نعمة



وقد قيل في هذا و خط كتابه *** بيان شفاء للنفوس السقيمة



فقولك لم قد شاء مثل سؤال *** من يقول فلم قد كان في الأزلية



وذاك سؤال يبطل العقل وجهه *** و تحريمه قد جاء في كل شرعة



و في الكون تخصيص كثير يدل *** من له نوع عقل أنه بإرادة



وإصداره عن و احد بعد و احد *** أو القول بالتجويز رمية حيرة



و لا ريب في تعليق كل مسبب *** بما قبله من علة موجبية



بل الشأن في الأسباب أسباب ما ترى *** و إصدارها عن حكم محض المشيئة



وقولك لم شاء الإله هو الذي *** أزل عقول الخلق في قعر حفرة



فإن المجوس القائلين بخالق *** لنفع و رب مبدع للمضرة



سؤالهم عن علة السر أوقعت *** أوائلهم في شبهة الثنوية



و أن ملاحيد الفلاسفة الأولى *** يقولون بالفعل القديم لعلة



بغوا علة للكون بعد إنعدامه *** فلم يجدوا ذاكم فضلوا بضلة



وأن مبادي الشر في كل أمة *** ذوي ملة ميمونة نبوية



بخوضهمو في ذاكم صار شركهم *** جاء دروس البينات بفترة



ويكفيك نقضا أن ما قد سألته *** من العذر مردود لدى كل فطرة



فأنت تعيب الطاعنين جميعهم *** عليك و ترميهم بكل مذمة



وتنحل من والاك صفو مودة *** و تبغض من ناواك من كل فرقة



وحالهم في كل قول و فعلة *** كحالك يا هذا بأرجح حجة



وهبك كففت اللوم عن كل كافر *** و كل غوي خارج عن محجة



فيلزمك الإعراض عن كل ظالم *** على الناس في نفس مال وحرمة



و لا تغضبن يوما على سافك دما *** و لا سارق مالا لصاحب فاقة



ولا شاتم عرضا مصونا و إن علا *** و لا ناكح فرجا على وجه غية



ولا قاطع للناس نهج سبيلهم *** و لا مفسد في الأرض في كل و جهة



ولا شاهد بالزور إفكا و فرية *** و لا قاذف للمحصنات بزنية



ولا مهلك للحرث و النسل عامدا *** و لا حاكم للعالمين برشوة



وكف لسان اللوم عن كل مفسد *** و لا تأخدن ذا جرمة بعقوبة



و سهل سبيل الكاذبين تعمدا *** على ربهم من كل جاء بفرية



وإن قصدوا إضلاك من يستجيبهم *** بروم فساد النوع ثم الرياسة



و جادل عن الملعون فرعون إذ طغى *** فأغرق في أليم إنتقاما بغضبة



وكل كفور مشرك بإلهه *** و آخر طاغ كافر بنبوة



كعاد و نمروذ و قوم لصالح *** و قوم لنوح ثم أصحاب الأئكة



وخاصم لموسى ثم سائر من أتى *** من الأنبياء محييا للشريعة



على كونهم قد جاهدوا الناس إذ بغوا *** و نالوا من المعاصي بليغ العقوبة



و إلا فكل الخلق في كل لفظة *** و لحظة عين أو تحرك شعرة



وبطشة كف أو تخطى قديمة *** و كل حراك بل و كل سكينة



همو تحت أقدار الإله و حكمه *** كما أنت فيما قد أتيت بحجة



وهبك رفعت اللوم عن كل فاعل *** فعال ردى طردا لهذي المقيسة



فهل يمكن رفع الملام جميعه *** عن الناس طرا عند كل قبيحة



و ترك عقوبات الذين قد إعتدوا *** و ترك الورى الإنصاف بين الرعية



فلا تضمنن نفس و مال بمثله *** و لا يعقبن عاد بمثل الجريمة



و هل في عقول الناس أو في طباعهم *** قبول لقول النذل ما وجه حيلتي



و يكفيك ما بجسم نقضا بن آدم *** صبي و مجنون و كل بهيمة



من الألم المقضي في غير حيلة *** و فيما يشاء الله أكمل حكمة



إذا كان في هذا له حكمة *** فما يظن بخلق الفعل ثم العقوبة



وكيف و من هذا عذاب مولد *** عن الفعل فعل العبد عند الطبيعة



كآكل سم أوجب الموت أكله *** وكل بتقدير لرب البرية



فكفرك يا هذا كسم أكلته *** و تعذيب نار مثل جرعة غصة



ألست ترى في هذا الدار من جنى *** يعاقب إما بالقضا أو بشرعة



ولا عذر للجاني بتقدير خالق *** كذلك في الأخرى بلا مثنوية



و تقدير رب الخلق للذنب موجب *** لتقدير عقبى الذنب إلا بتوبة



و ما كان من جنس المتاب لرفعه *** عواقب أفعال العباد الخبيثة



كخير به تمحى الذنوب و دعوة *** تجاب من الجاني و رب شفاعة



وقول حليف الشر إني مقدر علي *** كقول الذئب هذي طبيعتي



وتقديره للفعل يجلب نقمة *** كتقديره الأشياء طرا بعلة



فهل ينفعن عذر الملوم بأنه *** كذا طبعه أم هل يقال لعثرة



أم الذم و التعذيب أوكد للذي *** طبيعته فعل الشرور الشنيعة



فإن كنت ترجوا أن تجاب بما عسى *** ينجيك من نار الإله العظيمة



فدونك رب الخلق فاقصده ضارعا *** مريدا لأن يهديك نحو الحقيقة



و ذلل قياد النفس للحق و اسمعن *** و لا تعرضن عن فكرة مستقيمة



و ما بان من حق فلا تتركنه *** و لا تعص من يدعو لأقوم شرعة



ودع دين ذا العادات لا تتبعنه *** و عج عن سبيل الأمة الغضبية



و من ضل عن حق فلا تقفونه *** و زن ما عليه الناس بالمعدلية



هنالك تبدو طالعات من الهدى *** تبشر من قد جاء بالحنيفية



بملة إبراهيم ذاك إمامنا *** و دين رسول الله خير البرية



فلا يقبل الرحمن دينا سوى الذي *** به جاءت الرسل الكرام السجية



وقد جاء هذا الحاشر الخاتم الذي *** حوى كل خير في عموم الرسالة



وأخبر عن رب العباد بأن من غدا *** عنه في الأخرى بأقبح خيبة



فهذي دلالات العباد لحائر *** و أما هداه فهو فعل الربوبة



و فقد الهدى عند الورى لا يفيد من غدا *** عنه بل يجزى بلا وجه حجة



و حجة محتج بتقدير ربه *** تزيد عذابا كإحتجاج مريضة



و أما رضانا بالقضاء فإنما *** أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبة



كسقم و فقر ثم ذل و غربة *** و ما كان من مؤذ بدون جريمة



فأما الأفاعيل التي كرهت لنا *** فلا ترتضى مسخوطة لمشيئة



وقد قال قوم من أولى العلم لا رضا *** بفعل المعاصي و الذنوب الكبيرة



وقال فريق نرتضي بقضائه *** ولا نرتضي المقضي أقبح خصلة



وقال فريق نرتضي بإضافة *** إليه و ما فينا فنلقى بسخطة



كما أنها للرب خلق و أنها *** لمخلوقة ليست كفعل الغريزة



فنرضى من الوجه الذي هو خلقه *** ونسخط من وجه إكتساب الخطيئة



ومعصية العبد المكلف تركه *** لما أمر المولى و إن بمشيئة



فإن إله الخلق حق مقاله *** بأن العباد في جحيم و جنة



كما أنهم في هذه الدار هكذا *** بل البهم في الآلام أيضا و نعمة



وحكمته العليا إقتضت ما إقتضت *** من الفروق بعلم ثم أيد و رحمة



يسوق أولى التعذيب بالسبب *** الذي يقدره نحو العذاب بعزة



و يهدي أولي التنعيم نحو نعيمهم *** بأعمال صدق في رجاء و خشية



وأمر إله الخلق بين ما به *** يسوق أولى التنعيم نحو السعادة



فمن كان من أهل السعادة أثرت *** أوامره فيه بتيسير صنعة



ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل *** بأمر و لا نهي بتقدير شقوة



ولا مخرج للعبد عما به قضى *** ولكنه مختار حسن و سوأة



فليس بمجبور عديم الإرادة *** و لكنه شاء بخلق الإرادة



و من أعجب الأشياء خلق مشيئة *** بها صار مختار الهدى بالضلالة



فقولك هل إختار تركا لحكمة *** كقولك هل إختار ترك المشيئة



وإختار أن لا إختار فعل ضلالة *** و لو نلت هذا الترك فزت بتوبة



وذا ممكن لكنه متوقف على *** ما يشاء الله من ذي المشيئة


أضف تعليق