بسم الله الرحمن الرحيم
هذه لُمع من الإعجاز البياني الذي يتسم به القرآن الكريم، تُظهر أسلوبه الفذ في تصوير أحوال النفس الإنسانية، وتجلية مشاعرها وانفعالاها في مواقف الدنيا والآخرة.. وتتجلى في النماذج التالية قيمة التصوير بالحقيقة في توضيح المعنى ووصفه، بألفاظ مصورة بأصواتها، وخصوصية صيغتها ودلالتها، تنفرد بإثارة روحية رفيعة، تتفيأً النفس ظلالها، وتستجيب لإيحاءاتها:
قال - تعالى -: {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وَإِذَا تُلِيَت عَلَيهِم آيَاتُهُ زَادَتهُم إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2).
أخبر فيها عن المؤمنين وصل بثلاثة مقامات عظيمة: مقام الخوف ومقام زيادة الإيمان والتوكل، فالمؤمن الحق هو من يتقي الله، فينتفض قلبه وجلاً وخشية كلما ذكره، أو هم بمعصيته، وإذا تليت آياته انشرح صدرهº فازداد على إيمانه يقيناً يمنحه تسليماً تاماً وطواعية مطلقة لمن بيده الأمر كله خيره وشره، نفعه وضره، أمنه وخوفه.
ومعنى {وجلت} \"فزعت لذكره استعظاماًَ وتهيباً من جلاله وعزة سلطانه وبطشه بالعصاة وعقابه، ويرتبط الذكر هنا بالعظيمة وتذكر العقاب حين يعصي الإنسان أو يهم بمعصية، فيذكر ربه فينزع عنها فرقا. فهو خلاف الذكر في قوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُم وَقُلُوبُهُم إِلَى ذِكرِ اللَّهِ} (الزمر: 23)، فمعناه ذكر رحمته ورأفته وثوابه.
وإسناد الوجل إلى القلوب مع أنه من أعمالها، فيه تأكيد على نقاء معدنهم وكرم جوهرهم، فالخوف من الله أصل من أصول العقيدة لا يراؤون به، بل يسكن قلوبهم التي تتوجه مخلصة إلى الله، فتتلقى أوامره بوعي كامل، مما يجعلها ترتعش عند ذكر عقابه، فتتأثر بأوامره وتكف عن زواجره.
وما أعظم ما دل عليه قوله: {وَإِذَا تُلِيَت عَلَيهِم آيَاتُهُ زَادَتهُم إِيمَاناً} (الأنفال: 2) فأسماعهم وقلوبهم حاضرة متدبرة لكلامه، مما يزيدهم خشية من التعرض لوعيده، وثباتاً ويقيناً من تحقق وعده لأوليائه، وكل هذا مما يزداد به الإيمان.
وفي التعبير بالماضي{وجلت} و {زادتهم} دلالة على تحقق الوجل وزيادة الإيمان.
وأوقر في {ذكر} و {تليت} البناء للمفعول للتعظيم، وتعميم الفاعل فسواء ذكروه أو ذكره غيرهم فالوجل واقع منهم، إذ يستحضرون معانيه قلباً وقالباً، موقنين بعظم القائل وشرف المقول، يستشعرون مراقبته لهم في كل شاردة وواردة.
ولما كانت مخافة الله من أهم سمات المؤمنين كانت ثمرتها ثباتاً واطمئناناً في أحلك الأوقات، كما قال - تعالى -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلٌّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: 27).
وردت الآية بعد مثل ضربه الله - تعالى - للكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، ففي ظل الشجرة الطيبة الثابتة يجد المؤمن برد اليقين والاطمئنان والأمن في الدنيا والآخرة، وفي سموم الشجرة الخبيثة يتكاثر الضلال والاضطراب والخوف.
ولننظر إلى آفاق الأمن والاطمئنان التي يفتحها لفظا {يثبت.... الثابت} فأصلهما واحد يدل على الدوام، وبهما تعرض على الذهن صورة الحياة مليئة بأعاصير الفتن والمخاوف تعصف بكل نفس بعيدة عن المنهج الحق ما بين أهواء وشهوات ومحن وشبهات، فما الذي يجعل المؤمن يصمد أمام كل ذلك؟ إنه يستمد قوته من الله، فيقف ثابتاً مطمئناً عصياً على القلق مستعداً لمواجهة ما يلاقيه من البلايا والرزايا محتفظاً أبداً باتزانه، يستمسك بشهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، القول الحق الذي لا يتزعزع. تنظم بها أموره، فلا يهتز لوساوس إبليس وقبيله.
يزيد قوله: {وفي الآخرة} من إشراق الصورة، فما أعظم ذلك الأمن والتثبيت بدءاً بالسؤال في القبر أول منازل الآخرة إلى موقف الحساب والمرور على الصراط إلى غيره من أهوال وكروب، وفي التعبير بالمضارع المضعف {يثبت} دلالة على قوة التثبيت وتجدده بتحدد العوارض المختلفة التي تحاول زلزلة ثوابت العقيدة وفي إسناد ذلك التثبيت إلى الله جل جلاله من التفخيم وبث الأمن في النفس المؤمنة ما فيه، فهو وحده من يلهمها القول الثابت، تأمن به، فلا تتزعزع ولا يخامرها شك.
ومما يتمم براعة الأداء ضم التاء وتفخيم اسم الجلالة بعدها، يسري لهما في النفس إحساس بعظمة الله المهيمن القدير، تستشعر فيه اطمئناناً لا نظير له.
وتقييد التثبيت {بالقول الثابت} ـ وهو الصادق الذي لا شك فيه - يضفي على المعنى مزيداً من القوة والتأكيد مع ما تدل عليه صيغة اسم الفاعل {الثابت} من الثبات والاستمرار.
وما أبدع ما أضافه تغاير الصيغتين {يثبت} و{الثابت} من براعة في الأداء ودقة في التعبير، قال أبوحيان: \"المضارع فيما ذكر البيانيون مشعر بالتجدد والحدوث بخلاف اسم الفاعل، لأنه عندهم مشعر بالثبوت فلم يكن المعنى القرآني العظيم ليبقى على إبداعه لو قيل: يثبت الله الذين آمنوا بقول يثبت في الحياة الدنيا\".
وفي مقابل ثبات المؤمنين، يوحي لفظ {يضل} باضطراب وحيرة وعماية، فأصله يدل على ضياع وذهاب وفي صيغة المضارع المزيد {يضل} وإسناد إضلالهم إلى {الله} ما يشعر بالرهبة وشدة العقوبة وتجددها.
وما أعدل ما جازاهم به لظلمهم أنفسهم بإصرارهم على الشرك إن الشرك لظلم عظيم.
ولعل في جرس {يضل} ما يوحي بخفة تلك النفوس وتزعزعها إذ لم يسعوا إلى تقويتها، فالياء والضاد حرفان رخوان، وفي تضعيف اللام المنحرفة المنفتحة ما يوحي بسهولة تقبل النفوس الضعيفة للانحراف.
ورد في الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال \" {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَفِي الآخِرَةِ} (إبراهيم: 27).
قال ابن القيم: \"تحت هذه الآية كنز عظيم من وفق لمظنته، وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم، وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين، فإن لم يثبته وألا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما، وقد قال - تعالى - لأكرم خلقه عبده ورسوله: {وَلَولا أَن ثَبَّتنَاكَ لَقَد كِدتَ تَركَنُ إِلَيهِم شَيئاً قَلِيلاً} (الإسراء: 74)، فالخلق قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت، وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها، فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة، ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلباً، والكاذب من أمهن الناس وأخبثهم وأكثرهم تلونا، وأقلهم ثباتاً، فما منح العبد منحة أفضل من منحة القول الثابت ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ويوم معادهم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد