بسم الله الرحمن الرحيم
من الدلالات العلمية لقول الله - تعالى - (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَولِيَاءَ كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ اتَّخَذَت بَيتاً وَإِنَّ أَوهَنَ البُيُوتِ لَبَيتُ العَنكَبُوتِ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ العنكبوت)41 العنكبوت.
أولا: الإشارة إلي العنكبوت بالإفراد:
جاء في لسان العرب تحت مادة(عنكب) أن(العنكبوت) دويبة تنسج في الهواء وعلى رأس البئر نسجاً رقيقاً مهلهلاً، مؤنثة، وربما ذكرت في الشعر. ويقال لبيت العنكبوت: (العكدبة). وقال الفراء: العنكبوت أنثي، وقد يذكرها بعض العرب، والجمع (العنكبوتات)، و(العناكب)، و(العناكيب)، وتصغيرها(عنيكب)، وهي بلغة اليمن (عكنباه) ويقال لها أيضا(عنكباء)، وعنكبوه، وحكى سيبويه (عنكباء) مستشهدا علي زيادة التاء في(عنكبوت)، فلا أدري أهو اسم للواحد أم للجمع. وقال ابن الاعرابي: (العنكب) الذكر منها، و(العنكبة) الأنثي. وقيل: (العنكب جنس العنكبوت، وهو يذكر ويؤنث، أعني العنكبوت. قال المبرد: العنكبوت أنثي ويذكر.
والغالب أن لفظة(العنكبوت) اسم للواحدة المؤنثة المفردة، والجمع(العناكب).
وتسمية السورة الكريمة بصياغة الإفراد (العنكبوت) يشير إلى الحياة الفردية لهذه الدويبة فيما عدا لحظات التزاوج، وأوقات فقس البيض، وذلك في مقابلة كل من سورتي النحل والنمل والتي جاءت التسمية فيها بالجمع للحياة الجماعية لتلك الحشرات.
ثانيا: في قوله تعالي: (اتخذت بيتا):
في هذا النص القرآني الكريم إشارة واضحة إلي أن الذي يقوم ببناء البيت أساسا هي أنثي العنكبوت، وعلي ذلك فإن مهمة بناء بيت العنكبوت هي مهمة تضطلع بها إناث العناكب التي تحمل في جسدها غدد إفراز المادة الحريرية التي ينسج منها بيت العنكبوت. وإن اشترك الذكر في بعض الأوقات بالمساعدة في عمليات التشييد، أو الترميم، أو التوسعة، فإن العملية تبقي عملية أنثوية محضه، ومن هنا كان الاعجاز العلمي في قول الحق(تبارك وتعالي): اتخذت بيتا.
ثالثاً: في قوله تعالي: (إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت...):
هذا النص القرآني المعجز يشير إلي عدد من الحقائق المهمة التي منها:
(1) أن بيت العنكبوت هو من الناحية المادية البحتة أضعف بيت علي الاطلاق، لأنه مكون من مجموعة خيوط حريرية غاية في الدقة تتشابك، مع بعضها البعض تاركة مسافات بينية كبيرة في أغلب الأحيان، ولذلك فهي لا تقي حرار شمس، ولا زمهرير برد، ولا تحدث ظلا كافيا، ولا تقي من مطر هاطل، ولا من رياح عاصفة، ولا من أخطار المهاجمين، وذلك علي الرغم من الاعجاز في بنائها، فخيوط بيت العنكبوت حريرية دقيقة جدا، يبلغ سمك الواحدة منها في المتوسط واحدا من المليون من البوصة المربعة، أو جزءا من أربعة آلاف جزء من سمك الشعرة العادية في رأس الإنسان، وهي علي الرغم من دقتها الشديدة أقوي خمس مرات من نظيرها من الصلب، وتتميز بمقاومة للشد أكبر من مثيلتها من الصلب سواء نسبت تلك المقاومة لوحدة الحجوم أو لوحدة الوزن من الخيط المختبر، بل إن الدراسات الحديثة قد أثبتت أن الخيط من حرير عنكبوت من نوع نيفلا(Nephila) وهو من مجموعة الحائك الدوار(Orbweaver) يعد أقوي ثلاث مرات من مثيله المصنوع من المادة المعروفة باسم كيفلار(Kevlar)، وهي مادة ذات أساس بترولي تستخدم في صناعة الصديرية الواقية من طلقات الرصاص. لذلك يعد حرير العنكبوت واحدا من أقوي المواد الموجودة على سطح الأرض لأنه يتحمل شدا يصل إلي42000 كيلو جرام علي السنتيمتر المربع مما يكسبه قابلية هائلة للمطStretching وأعطاه قدرة علي الايقاع بالفريسة من الحشرات دون أن يتمزق، خاصة وأن العنكبوت يبني بيته من ضفائر تضم الواحدة منها عددا من هذه الخيوط المضفرة، والمجدولة تجديلا قويا، ولذلك قال ربنا (تبارك وتعالى) أوهن البيوت، ولم يقل أوهن الخيوط، وبقي بيت العنكبوت هو أوهن البيوت وأضعفها على الإطلاق، على الرغم من شدة خيوطه.
(2) أن بيت العنكبوت من الناحية المعنوية هو أوهن بيت علي الإطلاق لأنه بيت محروم من معاني المودة والرحمة التي يقوم علي أساسها كل بيت سعيد، وذلك لأن الأنثي في بعض أنواع العنكبوت تقضي علي ذكرها بمجرد إتمام عملية الإخصاب وذلك بقتله وافتراس جسده لأنها أكبر حجما وأكثر شراسة منه، وفي بعض الحالات تلتهم الأنثي صغارها دون أدني رحمة، وفي بعض الأنواع تموت الأنثي بعد إتمام إخصاب بيضها الذي عادة ما تحتضنه في كيس من الحرير، وعندما يفقس البيض تخرجSpiderlings فتجد نفسها في مكان شديد الازدحام بالأفراد داخل كيس البيض، فيبدأ الإخوة الأشقاء في الاقتتال من أجل الطعام أو من أجل المكان أو من أجلهما معا فيقتل الأخ أخاه وأخته، وتقتل الأخت أختها وأخاها حتي تنتهي المعركة ببقاء عدد قليل من العنيكبات التي تنسلخ من جلدها، وتمزق جدار كيس البيض لتخرج الواحدة تلو الأخرى، والواحد تلو الآخر بذكريات تعيسه، لينتشر الجميع في البيئة المحيطة وتبدأ كل أنثي في بناء بيتها، ويهلك في الطريق إلى ذلك من يهلك من هذه العنيكبات. ويكرر من ينجو منها نفس المأساة التي تجعل من بيت العنكبوت أكثر البيوت شراسة ووحشية، وانعداما لأواصر القربي، ومن هنا ضرب الله تعالى به المثل في الوهن والضعف لافتقاره إلي أبسط معاني التراحم بين الزوج وزوجه، والأم وصغارها، والأخ وشقيقه وشقيقته، والأخت وأختها وأخيها.. !!
رابعاً: في قوله تعالى: (لو كانوا يعلمون*):
هذه الحقائق لم تكن معروفة لأحد من الخلق في زمن الوحي، ولا لقرون متطاولة من بعده، حيث لم تكتشف إلا بعد دراسات مكثفة في علم سلوك حيوان العنكبوت استغرقت مئات من العلماء لعشرات من السنين حتي تبلورت في العقود المتأخرة من القرن العشرين، ولذلك ختم ربنا (تبارك وتعالى) الآية الكريمة بقوله: (لو كانوا يعلمون).
وعلي ذلك فإن الوصف القرآني لبيت العنكبوت بأنه أوهن البيوت، هذا الوصف الذي أنزل على نبي أمي (صلى الله عليه وسلم)، في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين من قبل ألف وأربعمائه سنة يعتبر سبقا علميا لا يمكن لعاقل أن يتصور له مصدراً غير الله الخالق الذي أنزل القرآن الكريم بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه (اللغة العربية) على مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها حتى يبقي هذا الكتاب العزيز حجة علي الناس كافة إلي يوم الدين، ويبقي ما فيه من الحق شاهداً على أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، وشاهدا كذلك بالنبوة وبالرسالة للنبي الخاتم وللرسول الذي تلقاه (صلى الله عليه وسلم) الخاتم والذي بلغ الرسالة، وأدي الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله حتي آتاه اليقين... !! فنسأل الله(- سبحانه وتعالى) أن يجزيه خير ما جازي به نبيا عن أمته، ورسوله على حسن أداء رسالته، وأن يؤتيه الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة، وأن يبعثه المقام المحمود الذي وعده إن ربي لا يخلف الميعاد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد