بسم الله الرحمن الرحيم
يتناول الدرس قضية الولاء والبراء، ومعني التولي المذكور في القرآن، وتوضيح بعض المفاهيم الخاطئة في هذه القضية، وبيان لنوع العداوة بين المسلمين وأهل الكتاب وأنها لا ولن تتبدل، وعرض للثوابت في هذا الموضوع، وجزاء تولي اليهود والنصارى وعاقبته، وعرض لموقف المسلم تجاه دينه الحق وواجبه منه.
{يَاأَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ, وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللَّهَ لَا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ[51]فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأتِيَ بِالفَتحِ أَو أَمرٍ, مِن عِندِهِ فَيُصبِحُوا عَلَى مَا أَسَرٌّوا فِي أَنفُسِهِم نَادِمِينَ[52]}[سورة المائدة].
معنى الولاية التي ينهى الله الذين آمنوا أن تكون بينهم وبين اليهود والنصارى: إنها تعني التناصر والتحالف معهم، ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهمº فبعيد جداً أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين، إنما هو ولاء التحالف والتناصر الذي كان يلتبس على المسلمين أمره، فيحسبون أنه جائز لهم بحكم ما كان واقعاً من تشابك المصالح والأواصر، ومن قيام هذا الولاء بينهم وبين جماعات من اليهود قبل الإسلام، وفي أوائل العهد بقيام الإسلام في المدينة حتى نهاهم الله عنه، وأمر بإبطاله بعد ما تبين عدم إمكان قيام الولاء والتحالف والتناصر بين المسلمين واليهود في المدينة.
وهذا المعنى معروف محدد في التعبيرات القرآنية، وقد جاء في صدد الكلام عن العلاقة بين المسلمين في المدينة والمسلمين الذين لم يهاجروا إلى دار الإسلام، فقال الله - سبحانه -:{مَا لَكُم مِن وَلَايَتِهِم مِن شَيءٍ, حَتَّى يُهَاجِرُوا[72] } \'سورة الأنفال\'. وطبيعي أن المقصود هنا ليس الولاية في الدين، فالمسلم ولي المسلم في الدين على كل حال، إنما المقصود هو ولاية التناصر والتعاون فهي التي لا تقوم بين المسلمين في دار الإسلام والمسلمين الذين لم يهاجروا إليهم، وهذا اللون من الولاية هو الذي تمنع هذه الآيات أن يقوم بين الذين آمنوا وبين اليهود والنصارى بحال.
السماحة شيء والولاية شيء آخر: إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء، واتخاذهم أولياء شيء آخر، ولكنهما يختلطان على بعض المسلمين الذين لم تتضح في نفوسهم الرؤية الكاملة لحقيقة هذا الدين ووظيفته بوصفه حركة منهجية واقعية تتجه إلى إنشاء واقع في الأرض وفق التصور الإسلامي الذي يختلف في طبيعته عن سائر التصورات التي تعرفها البشريةº وتصطدم من - ثَمَّ - بالتصورات والأوضاع المخالفة، كما تصطدم بشهوات الناس وانحرافهم وفسوقهم عن منهج الله، وتدخل في معركة لا حيلة فيها، ولا بد منها لإنشاء ذلك الواقع الجديد الذي تريده وتتحرك إليه حركة إيجابية فاعلة منشئة.
غفلة ونقص: وهؤلاء الذين تختلط عليهم تلك الحقيقة ينقصهم الحس النقي بحقيقة العقيدة، كما ينقصهم الوعي الذكي لطبيعة المعركة وطبيعة موقف أهل الكتاب فيهاº ويغفلون عن التوجيهات القرآنية الواضحة الصريحة فيها، فيخلطون بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه مكفولي الحقوق، وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ورسوله وللجماعة المسلمة ناسين ما يقرره القرآن الكريم:
من أن أهل الكتاب بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة.
وأن هذا شأن ثابت لهم.
وأنهم ينقمون من المسلم إسلامه.
وأنهم لن يرضوا عن المسلم إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم.
وأنهم مصرِّون على الحرب للإسلام وللجماعة المسلمة.
وأنهم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر.. إلى آخر هذه التقريرات الحاسمة.
إن المسلم مطالب بالسماحة مع أهل الكتاب، ولكنه منهي عن الولاء لهم بمعنى: التناصر والتحالف معهم، وإن طريقه لتمكين دينه، وتحقيق نظامه المتفرد لا يمكن أن يلتقي مع طريق أهل الكتاب، ومهما أبدى لهم من السماحة والمودة فإن هذا لن يبلغ أن يرضوا له البقاء على دينه، وتحقيق نظامه، ولن يكفهم عن موالاة بعضهم لبعض في حربه والكيد له.
وسذاجة أية سذاجة وغفلة أية غفلة أن نظن أن لنا وإياهم طريقاً واحداً نسلكه للتمكين للدين أمام الكفار والملحدينº فهم مع الكفار والملحدين إذا كانت المعركة مع المسلمين!!
نسيان للقرآن، وجهل بالتاريخ:
وهذه الحقائق الواعية يغفل عنها السذج منَّا في هذا الزمان وفي كل زمانº حين يفهمون أننا نستطيع أن نضع أيدينا في أيدي أهل الكتاب في الأرض للوقوف في وجه المادية والإلحاد بوصفنا جميعاً أهل دين ناسين تعليم القرآن كلهº وناسين تعليم التاريخ كله، فأهل الكتاب هؤلاء:
هم الذين كانوا يقولون للذين كفروا من المشركين هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً !!
وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين ألبوا المشركين على الجماعة المسلمة في المدينة وكانوا لهم درعاً وردءاً.
وأهل الكتاب هم الذين شنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام.
وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس.
وهم الذي شردوا العرب المسلمين في فلسطين، وأحلوا اليهود محلهم متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية.
وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين يشردون المسلمين في كل مكان في الحبشة والصومال وأريتريا والجزائر، ويتعاونون في هذا التشريد مع الإلحاد والمادية والوثنية في يوغسلافيا والصين والتركستان والهند، وفي كل مكان!
ثم يظهر بيننا من يظن - في بُعدٍ, كامل عن تقريرات القرآن الجازمة - أنه يمكن أن يقوم بيننا وبين أهل الكتاب هؤلاء ولاء وتناصر ندفع به المادية الإلحادية عن الدين.
إن هؤلاء لا يقرأون القرآن، وإذا قرأوه اختلطت عليهم دعوة السماحة التي هي طابع الإسلامº فظنوها دعوة الولاء الذي يحذر منه القرآن.
إن هؤلاء لا يعيش الإسلام في حسهم: لا بوصفه عقيدة لا يقبل الله من الناس غيرها، ولا بوصفه حركة إيجابية تستهدف إنشاء واقع جديد في الأرض تقف في وجه عداوات أهل الكتاب اليوم كما وقفت له بالأمس الموقف الذي لا يمكن تبديله لأنه الموقف الطبيعي الوحيد!
{ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ, وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللَّهَ لَا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ[51]}\'سورة المائدة.
هذا النداء موجه إلى الجماعة المسلمة في المدينة، ولكنه في الوقت ذاته موجه لكل جماعة مسلمة تقوم في أي ركن من أركان الأرض إلى يوم القيامة، موجه لكل من ينطبق عليه ذات يوم صفة:{ الَّذِينَ ءَامَنُوا}.
نزل القرآن ليبث الوعي اللازم للمسلم في المعركة التي يخوضها بعقيدتهº لتحقيق منهجه الجديد في واقع الحياة، ولينشيء في ضمير المسلم تلك المفاصلة الكاملة بينه وبين كل من لا ينتمي إلى الجماعة المسلمة، ولا يقف تحت رايتها الخاصة، المفاصلة التي لا تنهي السماحة الخلقية - فهذه صفة المسلم دائماً - ولكنها تنهي الولاء الذي لا يكون في قلب المسلم إلا لله ورسوله والذين آمنوا الوعي والمفاصلة اللذان لابد منهما للمسلم في كل أرض وفي كل جيل.
{يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ, وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللَّهَ لَا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ[51]}.. {بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ,} إنها حقيقة لا علاقة لها بالزمن لأنها حقيقة نابعة من طبيعة الأشياء.
ثوابت وقواعد:
إنهم لن يكونوا أولياء للجماعة المسلمة في أي أرض ولا في أي تاريخ وقد مضت القرون تلو القرون ترسم مصداق هذه القولة الصادقة لقد ولي بعضهم بعضاً في حرب محمد - صلى الله عليه وسلم - والجماعة المسلمة في المدينة، وولي بعضهم بعضاً في كل فجاج الأرض على مدار التاريخ.
ولم تختل هذه القاعدة مرة واحدةº ولم يقع في هذه الأرض إلا ما قرره القرآن الكريم في صيغة الوصف الدائم لا الحادث المفرد، واختيار الجملة الاسمية على هذا النحو :{بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ,} ليست مجرد تعبير إنما هي اختيار مقصود للدلالة على الوصف الدائم الأصيل!
جزاء من يتولى اليهود والنصارى: ثم رتب على هذه الحقيقة الأساسية نتائجها: فإنه إذا كان اليهود والنصارى {بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ,} فإنه لا يتولاهم إلا من هو منهم.
والفرد الذي يتولاهم من الصف المسلم يخلع نفسه من الصف، ويخلع عن نفسه صفة هذا الصف \" الإسلام \"، وينضم إلى الصف الآخر لأن هذه هي النتيجة الطبيعية الواقعية: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم}، وكان ظالماً لنفسه ولدين الله وللجماعة المسلمة، وبِسَبَبٍ, مِن ظُلمِهِ هذا يدخله الله في زمرة اليهود والنصارى الذين أعطاهم ولاءه، ولا يهديه إلى الحق، ولا يرده إلى الصف المسلم {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ}.
لقد كان هذا تحذيراً عنيفاً للجماعة المسلمة في المدينة، ولكنه تحذير ليس مبالغاً فيه، فهو عنيف نعمº ولكنه يمثل الحقيقة الواقعة، فما يمكن أن يمنح المسلم ولاءه لليهود والنصارى و{بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ,} ثم يبقى له إسلامه وإيمانه، وتبقى له عضويته في الصف المسلم الذين يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فهذا مفرق الطريق.
وما يمكن أن يتميع حسم المسلم في المفاصلة الكاملة بينه وبين كل من ينهج غير منهج الإسلامº وبينه وبين كل من يرفع راية غير راية الإسلامº ثم يكون في وسعه بعد ذلك أن يعمل عملاً ذا قيمة في الحركة الإسلامية الضخمة التي تستهدف أول ما تستهدف إقامة نظام واقعي في الأرض فريدº يختلف عن كل الأنظمة الأخرىº ويعتمد على تصور متفرد كذلك من كل التصورات الأخرى.
إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم الذي لا أرجحة فيه ولا تردد بأن:
دينه هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس بعد رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وبأن منهجه الذي كلفه الله أن يقيم الحياة عليه منهج متفردº لا نظير له بين سائر المناهجº ولا يمكن الاستغناء عنه بمنهج آخرº ولا يمكن أن يقوم مقامه منهج آخرº ولا تصلح الحياة البشرية ولا تستقيم إلا أن تقوم على هذا المنهج وحده دون سواه.
ولا يعفيه الله إلا إذا هو بذل جهد طاقته في إقامة هذا المنهج بكل جوانبه الاعتقادية والاجتماعيةº لم يأل في ذلك جهداً، ولم يقبل من منهجه بديلاً - ولا في جزء منه صغير - ولم يخلط بينه وبين أي منهج آخر في تصور اعتقادي، ولا في نظام اجتماعي، ولا في أحكام تشريعية.
إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم بهذا كله هو وحده الذي يدفعه للاضطلاع بعبء النهوض بتحقيق منهج الله الذي رضيه للناسº في وجه العقبات الشاقة، والتكاليف المضنية، والمقاومة العنيدة، والكيد الناصب، والألم الذي يكاد يجاوز الطاقة في كثير من الأحيان، وإلا فما العناء في أمر يغني عنه غيره مما هو قائم في الأرض من جاهلية، سواء كانت هذه الجاهلية ممثلة في وثنية الشرك، أو في انحراف أهل الكتاب، أو في الإلحاد السافر، بل ما العناء في إقامة المنهج الإسلامي إذا كانت الفوارق بينه وبين مناهج أهل الكتاب أو غيرهم قليلة يمكن الالتقاء عليها بالمصالحة والمهادنة.
إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية يخطئون فهم معنى الأديان كما يخطئون فهم معنى التسامح، فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله، والتسامح يكون في المعاملات الشخصية لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي.
إنهم يحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم: بأن الله لا يقبل ديناً إلا الإسلام، وبأن عليه أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام ولا يقبل دونه بديلاًº ولا يقبل فيه تعديلاً ولو طفيفاً، هذا اليقين الذي ينشئه القرآن الكريم وهو يقرر:
{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسلَامُ[19]} سورة آل عمران.
{وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلَامِ دِيناً فَلَن يُقبَلَ مِنهُ [85]} سورة آل عمران.
{وَاحذَرهُم أَن يَفتِنُوكَ عَن بَعضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيكَ [49]} سورة المائدة.
{ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ, وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم[51]} سورة المائدة.. وفي القرآن كلمة الفصل، ولا على المسلم من تميع المتميعين وتمييعهم لهذا اليقين.
ليس للمسلم ولاء ولا حلف إلا مع المسلم:
والنص هنا يسوي بين اليهود والنصارى - كما يسوي النص القادم بينهم جميعاً وبين الكفار - فيما يختص بقضية المحالفة والولاءº ذلك أن هذه القضية ترتكز على قاعدة أخرى ثابتة هي: أن ليس للمسلم ولاء ولا حلف إلا مع المسلمº وليس للمسلم ولاء إلا لله ولرسوله وللجماعة المسلمة، ويستوي بعد ذلك كل الفرق في هذا الأمر مهما اختلفت مواقفهم من المسلمين في بعض الظروف.
على أن الله - سبحانه - وهو يضع للجماعة المسلمة هذه القاعدة العامة الحازمة الصارمة كان علمه يتناول الزمان كله لا تلك الفترة الخاصة من حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وملابساتها الموقوتة، وقد أظهر التاريخ الواقع فيما بعد أن عداء النصارى لهذا الدين وللجماعة المسلمة في معظم بقاع الأرض لم يكن أقل من عداء اليهود، فالرقعة النصرانية في الغرب قد حملت للإسلام في تاريخها كله منذ أن احتكت به من العداوة والضغن، وشنت عليه من الحرب والكيد ما لا يفترق عن حرب اليهود وكيدهم في أي زمان حتى الحبشة التي أحسن عاهلها استقبال المهاجرين المسلمين واستقبال الإسلام عادت فإذا هي أشد حرباً على الإسلام والمسلمين من كل أحد، لا يجاريها في هذا إلا اليهود.
والله - سبحانه - يعلم الأمر كله فوضع للمسلم هذه القاعدة العامة بغض النظر عن واقع الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها وملابساتها الموقوتة، وبغض النظر عما يقع مثلها في بعض الأحيان هنا وهناك إلى آخر الزمان.
إن الإسلام يكلف المسلم أن يقيم علاقاته بالناس جميعاً على أساس العقيدة، فالولاء والعداء لا يكونان في تصور المسلم وفي حركته على السواء إلا في العقيدة، ومن ثَمَّ لا يمكن أن يقوم الولاء وهو التناصر بين المسلم وغير المسلمº إذ أنهما لا يمكن أن يتناصرا في مجال العقيدة - ولا حتى أمام الإلحاد مثلاً كما يتصور بعض السذج منا، وبعض من لا يقرأون القرآن - وكيف يتناصران وليس بينهما أساس مشترك يتناصران عليه؟!
فإذا كان سعي المؤمن كله ينبغي أن يتجه إلى إقامة منهج الله في الحياة بكل تفصيلات وجوانب هذا المنهج، وهي تشمل كل نشاط الإنسان في الحياةº فكيف يمكن إذن أن يتعاون المسلم في هذا السعي مع من لا يؤمن بالإسلام ديناً ومنهجاً ونظاماً وشريعة، ومن يتجه في سعيه إلى أهداف أخرى - إن لم تكن معادية للإسلام وأهدافه فهي على الأقل - ليست أهداف الإسلامº إذ الإسلام لا يعترف بهدف ولا عمل لا يقوم على أساس العقيدة مهما بدا في ذاته صالحاً.
والإسلام يكلف المسلم أن يخلص سعيه كله للإسلام، ولا يتصور إمكان انفصال أية جزئية في السعي اليومي في حياة المسلم عن الإسلام، لا يتصور إمكان هذا إلا من لا يعرف طبيعة الإسلام وطبيعة المنهج الإسلامي، ولا يتصور أن هناك جوانب في الحياة خارجة عن هذا المنهج يمكن التعاون فيها مع من يعادي الإسلام، أو لا يرضى من المسلم إلا أن يترك إسلامه كما نص الله في كتابه على ما يطلبه اليهود والنصارى من المسلم ليرضوا عنه، إن هناك استحالة اعتقادية كما أن هناك استحالة عملية على السواء.
ولقد كان اعتذار عبدالله بن أبي بن سلول- وهو من الذين في قلوبهم مرض - عن مسارعته واجتهاده في الولاء ليهود والاستمساك بحلفه معها هي قوله: \" إنني رجل أخشى الدوائر \"! إني أخشى أن تدور علينا الدوائر.. وأن تصيبنا الشدة، وأن تنزل بنا الضائقة، وهذه الحجة هي علامة مرض القلب، وضعف الإيمان، فالولي هو اللهº والناصر هو اللهº والاستنصار بغيره ضلالة كما أنه عبث لا ثمرة له.
ولكن حجة ابن سلول هي حجة كل ابن سلول على مدار الزمانº وتصوره هو تصور كل منافق مريض القلب لا يدرك حقيقة الإيمان، إنهما نهجان مختلفان ناشئان عن تصورين مختلفين، وعن شعورين متباينين، ومثل هذا الاختلاف قائم على مدار الزمان بين قلب مؤمن وقلب لا يعرف الإيمان.
ويهدد القرآن المستنصرين بأعداء دينهم، المتألبين عليهم، المنافقين الذين لا يخلصون لله اعتقادهم، ولا ولاءهم، ولا اعتمادهم يهددهم برجاء الفتح، أو أمر الله الذي يفصل في الموقفº أو يكشف المستور من النفاق:{فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأتِيَ بِالفَتحِ أَو أَمرٍ, مِن عِندِهِ فَيُصبِحُوا عَلَى مَا أَسَرٌّوا فِي أَنفُسِهِم نَادِمِينَ[52]} وعند الفتح يندم أولئك الذين في قلوبهم مرض على المسارعة والاجتهاد في ولاء اليهود والنصارى، وعلى النفاق الذي انكشف أمره، وعندئذ يعجب الذين آمنوا من حال المنافقين، ويستنكرون ما كانوا فيه من النفاق، وما صاروا إليه من الخسران {وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقسَمُوا بِاللَّهِ جَهدَ أَيمَانِهِم إِنَّهُم لَمَعَكُم حَبِطَت أَعمَالُهُم فَأَصبَحُوا خَاسِرِينَ [53]}.
ولقد جاء الله بالفتح يوماً وتكشفت نوايا، وحبطت أعمال، وخسرت فئات، ونحن على وعد من الله قائم بأن يجيء الفتح كلما استمسكنا بعروة الله وحدهº وكلما أخلصنا الولاء لله وحده، وكلما وعينا منهج الله وأقمنا عليه تصوراتنا وأوضاعنا، وكلما تحركنا في المعركة على هدى الله وتوجيههº فلم نتخذ لنا ولياً إلا الله ورسوله والذين آمنوا.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد