بسم الله الرحمن الرحيم
الغيب ما لا سبيل للإنسان إلى إدراكه، ولذلك نرجع إلى الدين ونصوص الوحي للتعرف على أحداث ووقائع وعوالم لا نعلم عنها شيئاً، وهي مع ذلك حقيقية وموجودة.
من ذلك ما اصطلح العلماء على تسميته ب: \"ميثاق الذر\"، أو \"عهد الذر\"، فما هو هذا الميثاق وما قصته؟
الميثاق في القرآن:
يقول الله جل جلاله - في إشارة إلى هذا الميثاق -:( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين 172) {الأعراف: 172}.
وقد فسر بعض العلماء الآية على معنى أن الله - تعالى - أخرج الذرية، وهم الأولاد، من أصلاب آبائهم، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة، ثم صيرهم - تعالى -في أطوار من الخلق حتى استووا بشراً سوياً، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم - وفي سائر خلقه - من دلائل الوحدانية وعجائب الصنع، فبهذا الإشهاد صاروا كأنهم قالوا بلى، وإن لم ينطقوا، فهذا كله على سبيل المجاز التمثيلي(1).
بيانه من السنة:
وهذا الرأي - الذي قال به جماعة من المفسرين - صحيح بحسب مقتضيات اللغة وسياق الآية، لكن السنة لا تساعد عليه، حيث جاءت بعض الروايات في قصة \"ميثاق الذر\" تفيد وقوعها حقيقة لا مجازاً. والحديث - كما هو مقرر عند العلماء - مبين للقرآن الكريم ومفسر لمجمله، ولذلك كان أعلى أنواع التفسير هو تفسير القرآن بالقرآن، ثم تفسير القرآن بالحديث والآثار.
وقد سئل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن الآية المتقدمة فحدث أنه سمع النبي {يقول فيها: \"إن الله - تعالى -خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون...\"(2) قال أبو عبدالله القرطبي: معنى هذا الحديث قد صح عن النبي {من وجوه ثابتة كثيرة(3)، ومنها ما رواه ابن عباس عن النبي الكريم: إن الله أخذ الميثاق من ظهر بني آدم - عليه السلام - بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قُبُلا، قال: ألست بربكم قالوا بلى\" شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين 172 أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون 173 {الأعراف: 172، 173}(4).
فهذا الحديث يثبت أصل الإخراج في عالم الذر، لذلك قال الطحاوي في عقيدته: ونؤمن بأن \"الميثاق الذي أخذه الله - تعالى -من آدم وذريته حق\"(5). ثم جاءت روايات أخرى عن الرسول الكريم وبعض صحابته تفصل في القصة، ومن مجموعها يتحصل مايلي: (6)
عالم الذر:
لما خلق الله - تعالى -آدم، أخرج جميع أبنائه إلى الوجود، أي كل البشر من عهد آدم إلى آخر الناس الذين تقوم عليهم القيامة. وهذا الإخراج يحتمل أن يكون من ظهر آدم فقط، فيظهر كل أبنائه منه، ويحتمل أن الباري - سبحانه - أخرج من ظهر آدم بنيه لصلبه فقط، ثم أخرج بني بنيه من ظهور بنيه، وهكذا على حسب الظهور الجسماني في الدنيا إلى يوم القيامة، فاستغنى عن ذكر إخراج بني آدم من آدم بقوله: \"من بني آدم\"(7).
لكن الناس لم يكونوا - حين الإخراج - كحالهم اليوم، بل كانوا - كما ورد في الحديث - كالذر، والذر يقال لصغار النمل، أو للهباء والغبار الدقيق الذي يطير في الهواء، أي أن الذر يضرب به المثل في الصغر، ومنه الذرة(8)، وذر الله الخلق في الأرض نشرهم. وقد خلق الله - تعالى -في ذلك الذر العقل والفهم والنطق، حتى يستوعبوا العهد(9).
ثم إن البشرية حين خرجت إلى عالم الذر انحصرت جميعاً قُدّام آدم ونظر إليهم بعينه - كما في رواية الترمذي -، وخاطبهم الله - سبحانه -: ألست بربكم، فقالوا: بلى\". قال القرطبي: \"أخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره. فأقروا بذلك والتزموه، وأعلمهم أنه سيبعث إليهم الرسل، فشهد بعضهم على بعض\"(10). ثم أعادهم الباري إلى صلب آدم، فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ منه الميثاق(11).
فهذا هو القدر الذي اتفقت عليه الأحاديث والأخبار، وليس في بعض التفاصيل التي ذكرها بعض المفسرين كزمان أخذ العهد وكيفيته... نصوص ثابتة، ولا يضرنا جهل جزئيات القصة. \"وكل ما عسر على العقل تصوره يكفينا فيه الإيمان به، ورد معناه إلى الله تعالى\"(12).
عودة إلى الآية:
قرأ الكوفيون وابن كثير: ذريتهم، والمعنى أن البشرية كلها ذرية واحدة لآدم. وقرأ الباقون: \"ذرياتهم\"، والمعنى أن الله - تعالى -استخرج ذريات كثيرة، أي أجيالاً من الناس(13).
واختلف المفسرون في القائل شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين 172 {الأعراف: 172} فقيل: لما قال الذر: بلى، قالت الملائكة: شهدنا بإقراركم، لئلا تقولوا كنا غافلين. وقيل: هو من قول بني آدم، المعنى: بلى شهد بعضنا على بعض(14).
العوالم الثلاثة:
تثبت قصة الذر أن وجود الإنسان يمر بمراحل ثلاث:
الأولى: عالم الذر.
فهذا عالم حقيقي، وكل واحد منا شهده ووعاه، والظاهر أن الله - تعالى -لما رد الذر إلى ظهر آدم قبض أرواحهم(15)، لقد \"أشهد الله جميع خلقه على نفسه منذ البداية، ولم يتخلف عن تلك المشاهدة مخلوق سابق أو لاحق\"(16).
ولذلك قال الشيخ الطرطوشي: \"إن هذا العهد يلزم البشر، وإن كانوا لايذكرونه في هذه الحياة. كما يلزم الطلاق من شهد عليه به وقد نسيه\"(17).
الثانية: عالم الدنيا.
الثالثة: عالم الآخرة.
الفطرة من آثار \"عهد الذر\":
وقد رأى بعض العلماء أن فطرة الإيمان أصلها ذلك العهد البعيد الذي أخذه الله - سبحانه - على الإنسانية، ولذلك قالوا: إن الآية عامة تخاطب جميع الناسº لأن في قرارة كل واحد منهم شعوراً بأن له خالقاً ومدبراً. وجاء إرسال الرسل تذكيراً بالعهد، وإقامة للحجة لما ذهل البشر عن التوحيد(18)º ولذلك كان للإنسان شعور - على الجملة - بعالم الغيب، كما قال الشعراوي في ميثاق الذر: \"لولا هذه المشاهدة لما استطاع إنسان أن يستوعب قضية الإيمان بالغيب، وفي قمتها الإيمان بوجود إله\"(19).
ومصداق هذا حديث: \"كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه\"(20)، وكذلك الحديث القدسي: \"إني جعلت عبادي حنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً\"(21). قال أبو العباس القرطبي: حنفاء، جمع حنيف، وهو المائل عن الأديان كلها إلى فطرة الإسلام... و(الشياطين) يعني شياطين الإنس من الآباء والمعلمين... وشياطين الجن بوساوسهم، ومعنى اجتالتهم، أي صرفتهم عن مقتضى الفطرة الأصلية(22).
خاتمة:
إن عالم الذر جزء من عالم الغيب الواسع، وهو مثال للقدرة الإلهية التي تقلب الوجود الإنساني في أطوار مختلفة، تدل كلها على أن لهذا الوجود غاية يسير إليها: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون 115 {المؤمنون: 115}.
-----------------------------------------
*المصادر:
1- تفسير القرآن العظيم، لعماد الدين بن كثير. دار ابن كثير، دمشق، طبعة أولى 1994.
2- الجامع الصغير بشرح السراج المنير، لجلال الدين السيوطي. دار الفكر.
3- الجامع لأحكام القرآن، لأبن عبدالله القرطبي. دار الكتب العلمية، 1988.
4- حاشية أحمد الصاوي على تفسير الجلالين. راجعها عبدالعزيز الأهل، مطبعة عبدالحميد حنفي. القاهرة 1381.
5- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتحليل، لأبي عبدالله ابن القيم. دار الكتاب العربي بمصر.
6- شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز تحقيق عبدالله التركي وشعيب الأرناؤوط مؤسسة الرسالة، بيروت. ط1، 1987.
7- لسان العرب لابن منظور، دار صادر، بيروت، 1955.
8- مراح لبيد لكشف معنى قرآن مجيد، لمحمد نووي الجاوي دار الفكر 1981.
9- الموت والحياة، لمحمد متولي الشعراوي، سلسلة مكتبة الشعراوي الإسلامية، مصر.
@@ الهوامش:
1- مراح لبيد، (306/1)، الجامع لأحكام القرآن (200/7).
2- رواه الإمام مالك في الموطأ، باب النهي عن القول في القدر، وكذا أبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان وابن أبي حاتم والطبري، لكن قال ابن كثير: كلهم من طريق مالك. والحديث حسنه الترمذي، انظر: تفسير ابن كثير (264/2).
3- الجامع لأحكام القرآن (200/7)، وانظر: شفاء العليل، ص: (24).
4- رواه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي في كتاب التفسير من سننه، والطبري في جامع البيان، وأخرجه الحاكم في المستدرك وصحح إسنادهº كما في تفسير ابن كثير (262/2-263).
5- الطحاوية وشرحها (302/2).
6- راجع هذه الروايات في التفاسير بالمأثور خاصة، ومنها تفسير ابن كثير (263/2-264)، وقد أورد ابن القيم كثيراً من هذه الأخبار في: شفاء العليل، ص(23) إلى (28)، وكذا صاحب شرح العقائد الطحاوية (303/1) فما بعدها، وقصة الذر ثابتة عن ابن عباس من كلامه أيضاً، ومثلها لا يقال إلا عن توقيف.
7- حاشية الصاوي على تفسير الجلالين (106/3-107) شفاء العليل ص: (28).
8- لسان العرب مادة ذرر (304/4).
9- مراح لبيد (306/1).
10- الجامع لأحكام القرآن (200/7).
11- حاشية الصاوي (106/2).
12- حاشية الصاوي (108/2).
13- راجع: تفسير ابن كثير (265/2)، الجامع لأحكام القرآن (202/7).
14- الجامع لأحكام القرآن (202/7)، مراح لبيد (306/1)، حاشية الصاوي (106/2).
15- حاشية الصاوي (107/2).
16- الموت والحياة، لمحمد الشعراوي ص: (9).
17- عن الجامع لأحكام القرآن (201/7).
18- الجامع لأحكام القرآن (201/7)، شفاء العليل ص: (28)، تفسير ابن كثير (265/2).
19- الموت والحياة ص: (9).
20- رواه الطبراني في المعجم الكبير، وأبو يعلى، والبيهقي في السنن الكبرى عن الأسود ابن سريع، وصححه السيوطي، عن الجامع الصغير (96/3).
21- رواه مسلم في باب تعليم الجاهل، من كتاب العلم، من صحيحه.
22- المفهم (712/6).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد