بسم الله الرحمن الرحيم
خلق الله عباده حنفاء موحدين، ومنذ أن أهبط آدم - عليه السلام - إلى الأرض كان معه التوحيد والإيمان, واستمر التوحيد في ذريته عدة قرون حتى اجتالتهم الشياطين, وفسدت الفطر, وظهر الشرك في الناس, فاقتضت رحمة الله - عز وجل - بعباده إرسال الرسل إليهم لهدايتهم, وردهم إلى التوحيد والإيمان, وتخليصهم من الشرك وآثاره, قال - سبحانه -: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحكُمَ بَينَ النَّاسِ فِيمَا اختَلَفُوا فِيهِ وَمَا اختَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُؤوتُوهُ مِن بَعدِ مَا جَاءَتهُمُ البَيِّنَاتُ بَغياً بَينَهُم فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اختَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذنِهِ وَاللَّهُ يَهدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ, مُستَقِيم} (البقرة:213)
ففي هذه الآية يبين الله - عز وجل - أن الناس كانوا أمة واحدة أي على طريقة واحدة من الهدى والتوحيد, حتى وقع الانحراف, وطرأ الشرك على الناس, فاستلزم ذلك إرسال الرسل إليهم لردهم إلى الجادة وإلى أصل الفطرة التي فطروا عليها, فكان أول نداء يوجهه كل نبي إلى قومه \" يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره\". ولما كانت الغاية التي بعث بها جميع الأنبياء ودعوا إليها واحدة, ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلاً لذلك في الحديث الذي في البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - حيث قال - عليه الصلاة والسلام -: ( أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة, والأنبياء إخوةٌ لعلاّت, أمهاتهم شتى ودينهم واحد) فهذا الحديث يوضح أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كالإخوة لأب, أمهاتهم مختلفة وأبوهم واحد, فقد مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - اتفاقهم في التوحيد والإسلام وأصول الإيمان باشتراك الإخوة لأب في أب واحد, ومثل اختلافهم في فروع الشرائع باختلاف هؤلاء الإخوة في أمهاتهم, إذا فدين الأنبياء - عليهم السلام واحد -, ودعوتهم واحدة, وهي الإسلام بمعناه العام, الذي يعني الاستسلام لله - عز وجل - وتوحيده وإفراده بالعبادة دون ما سواه, قال - تعالى -: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسلامُ} (آل عمران: من الآية19). كما أن هناك أموراً أخرى اتفقت عليها جميع الأديان والرسالات ودعت إليها, وهي الأخلاق والقيم التي فطر الله الناس عليها, فقد تضمنتها دعوة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -, ولا يمكن أن يعتريها تبديل أو تغيير أو نسخ, مثلها مثل التوحيد وأصول الإيمان, ومن أمثلة تلك الأخلاق والقيم, بر الوالدين, وإقامة القسط بين الناس, وتحريم الفواحش والظلم وقتل النفس بغير حق, وغير ذلك من محاسن الأخلاق, وماعدا ذلك فقد جعل الله لكل رسول شريعة خاصة به لقومه, قال – سبحانه – ( لِكُلٍّ, جَعَلنَا مِنكُم شِرعَةً وَمِنهَاجاً ) (المائدة: من الآية48). حتى ختم الله جميع الرسالات والشرائع بما أنزل على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -, من الرسالة الخالدة, والشريعة الكاملة الشاملة, التي كتب الله لها البقاء والخلود والقيام بمصالح العباد في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمثال على كمال هذه الرسالة, وكيف أن الله ختم بها جميع الرسالات, روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنبِيَاءِ مِن قَبلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ, بَنَى بَيتًا فَأَحسَنَهُ وَأَجمَلَهُ إِلَّا مَوضِعَ لَبِنَةٍ, مِن زَاوِيَةٍ, فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَت هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ) ففي هذا الحديث مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الموكب الكريم موكب الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وتعاقب إرسالهم إلى الناس بالبيت الذي أسست قواعده ، ورفع بنيانه, وقد اعتنى صاحبه عناية شديدة بعمارته وتزيينه حتى بلغ الغاية في الحسن والجمال, ولم يبق له إلا موضع حجر في زاوية به يتم هذا البناء ويكتمل حسنه وجماله, فشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه وما بعث به من الرسالة الخاتمة, بهذا الحجر الذي اكتمل به هذا البنيان, فبمبعثه - عليه الصلاة والسلام - ختمت الرسالات, وتمت الشرائع, وقامت الحجة على العباد, وجمع الله - عز وجل - في هذه الشريعة ما تفرق في الشرائع السابقة من الخير والهدى, فجاءت بجميع مصالح العباد الدنيوية والأخروية, منظمة لنواحي حياتهم المختلفة, مغنية لهم عما سواها في جميع شؤونهم, ولو طال بهم الأمد, واختلفت الأحوال والظروف, حضارة وثقافة, وقوة وضعفاً.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد