الإيمان والسحر لا يجتمعان في قلب واحد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 




الحمد لله الكريم المنان، مبطل عمل السحرة، والمنجِّمين، والعرَّافين، والكهَّـان، أعوان الشياطين، المفسدين لعقائد الجهلة، والسذج، والنسوان، المخالفين لشريعة خير الأنام، محمد بن عبد الله، الذي حذر من إتيان السحرة، والكهان، وتصديق أولياء الشيطان، القائل: \"من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد\"، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.



اعلم أخي الكريم أن الإيمان والسحر لا يجتمعان في قلب واحد قط، فإذا تمكن السحر من القلب خرج منه الإيمان بالكلية، وكذلك إذا باشر الإيمان سويداء القلب خرج منه السحر في الحال، كما حدث لسحرة فرعون، فقد كانوا في أول النهار من أئمة الكفر ومشايخ السحر، ولكن سرعان ما أمسوا بعد أن آمنوا برب هارون وموسى من أئمة الإيمان، وأتباع الرسل الكرام، بعد أن تبين لهم باطل ما كانوا يصنعون، وضلال ما كانوا يمارسون، وخسران ما كانوا يؤملون، وزيف ما كانوا يعتقدون: \"وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى. فألقي السحرة سجداً قالوا آمنا برب هارون وموسى. قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى. قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا. إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى\"، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومصداق لقول رسولنا: \"وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يبقى بينه وبينها إلا مقدار ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنَّة، فيدخلها\" الحديث.



وبضدها تتميز الأشياء، خرج الحاكم في المستدرك عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: \"قدمت امرأة من أهل دومة الجندل عليّ تبتغي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته بيسير، تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر، لم تعلم به، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى إني لأرحمها من كثرة بكائها، وهي تقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت. فسألتها عن قصتها، فقالت: كان لي زوج قد غاب عني، فدخلت على عجوز، فشكوت لها حالي، فقالت: إن فعلت ما آمرك به، فإنه يأتيك بعلك! فقلت: إني أفعل. فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبتُ أحدهما وتركت الآخر، فلم يكن بأسرع حتى وقفنا ببابل، فإذا أنا رجلين معلقين بأرجلهما، فقالا: ما حاجتك؟ وما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر. فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري! وارجعي. فأبيت، وقلت: لا أرجع. قالا: فاذهبي إلى التنور فبولي فيه. فذهبت إليه فاقشعر جلدي ففزعت منه، ولم أفعل فرجعت إليهما، فقالا لي: فعلتِ؟ قلتُ: نعم. قالا: هل رأيتِ شيئاً؟ قلتُ: لم أر شيئاً. فقالا: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك، لا تكفري. فأبيتُ، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبتُ إليه فاقشعر جلدي وخفتُ، ثم رجعتُ إليهما، فقالا لي: ما رأيتِ؟ إلى أن قالت: فذهبت في الثالثة فبلتُ فيه، فرأيتُ فارساً مقنعاً بالحديد، خرج مني حتى ذهب في السماء، فأتيتهما فأخبرتهما، فقالا: صدقتِ، ذاك إيمانك خرج منك، اذهبي.



فقلتُ للمرأة: والله ما علمتُ شيئاً، ولا قالا لي شيئاً! فقالت لي: بلى، لن تريدي شيئاً إلا كان، خذي هذا القمح فابذريه. فأخذته فبذرته، فقلت له: اطلع. فطلع، ثم قلت: استحصد. فاستحصد، ثم قلت: انطحن. فانطحن، ثم قلت: انخبز. فانخبز، فلما رأيت أني لا أقول شيئاً إلا كان سُقط في يدي، فندمتُ، والله يا أم المؤمنين، ما فعلت قط ولا أفعله أبداً.



فسألت أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما دروا ما يقولون لها، وكلهم هاب أن يفتيها بما لا يعلم، إلا أنهم قالوا لها: لو كان أبواك حيين أو أحدهما لكانا يكفيانك\".



قال بعض أهل العلم معلقاً على قصة هذه المرأة: \"فقد بان بهذا أن السحر والإيمان لا يجتمعان في قلب، ولا يصير ساحراً وفي قلبه إيمان، فاعتبر بحال هذه المرأة المسكينة، كيف ألقاها الشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء في ورطة هلكة لا تجبر مصيبتها، وهذا دأب المعاصي تنكس الرؤوس، وتوجب الحبوس، وتضاعف البوس\".



لقد تفشت في هذه الأزمنة الأخيرة في مجتمعات المسلمين ظاهرة الاشتغال بالسحر وتعلمه، وإتيان السحرة، والكهان، وامتهان ذلك، وكثر المراجعون وتزاحم القاصدون على أبواب هؤلاء الدجالين والمشعوذين، وراج سوقهم، وعظم دخلهم، وزاد خطرهم، وفشي أمرهم، وظهر ضررهم، حيث لم يقتصر الأمر على النساء كما كان في الماضي، بل تعداه لكل شرائح المجتمع من النساء، والرجال، والموظفين، والتجار، ولاعبي الكرة، والفنانين، ومنشدي الضوال، بل لم ينج من ذلك بعض الملوك، والوزراء، والموظفين الكبار.



ومما يؤسف له حرص هؤلاء السحرة والكهنة على استمرار ذلك العمل بعد و فاتهم، ليستمر الوزر جارياً عليهم، والإثم واصلاً لهم، ليورطوا غيرهم ويفسدوهم، فما منهم من أحد إلا ودرب أحداً من أبنائه أوأقربائه ليحل محله بعد هلاكه، كما نصح الساحر الغشوم ذلك الملك الظلوم، كما ورد في قصة أصحاب الأخدود، فأصبحت هذه سنة يتوارثها السحرة كابراً عن كابر، ويحرص عليها الكهنة جيلاً بعد جيل، حتى تكتمل عدتهم في جهنم.



أسباب تفشي هذه الظاهرة الخبيثة في هذه العصور يرجع إلى عدة أسباب، أهمها:

1. الجهل.

2. ضعف اليقين والتوكل على الله.

3. ضعف الوازع الديني.

4. حب الدنيا وإيثار ذلك على الآخرة الباقية.

5. عدم تطبيق عقوبة حد الساحر.

6 التهاون في أداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

7. انتشار الفكر الصوفي في مجتمعات المسلمين، حيث ما من ساحر إلا وهو ينتسب إلى طريقة من الطرق الصوفية.

8. انتشار الممارسات الشركية.

9. المداومة على الأوراد والأحزاب البدعية.

10. الفساد العقدي، وتجاهل إصلاحه والاهتمام به.

مثل هذه الظواهر الخبيثة لا يمكن أن تنتشر وتتفشى في مجتمع تسوده عقيدة التوحيد، وينتشر فيه العلم الشرعي، وتقام فيه الحدود الشرعية، ويتآمر فيه الناس بالمعروف ويتناهون عن المنكر.



روى ابن الجوزي بسنده إلى قيس بن الحجاج قـال: (لما فُتحت مصـرُ أتى أهلها عمرَو بن العاص، حين دخل بؤونة من أشهر العجم ـ القبطية ـ فقالوا له: أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها. فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إذا دخلت ثنتا عشرة ليلة من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أباها، وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل. قال لهم: إن هذا لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا بؤونة، وأبيب، ومسرى لا يجري قليلاً ولا كثيـراً، حتى هموا بالجلاء عنها. فلما رأى ذلك عمرو بن العاص كتب إلى عمر - رضي الله عنه - بذلك، فكتب إليه عمر: \"إنك قد أصبت، لأن الإسلام يهدم ما كان قبله\"، وكتب بطاقة داخل كتابه، وكتب إلى عمرو: \"إني قد بعثتُ إليك بطاقة داخل كتابي فألقها في النيل\"، فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص أخـذ البطاقـة، فإذا فيها: \"من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد، فإن كنتَ تجري من قِبَلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك\"º فألقى البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج، لأنها لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل، فلما ألقى البطاقة أصبحوا يوم الصليب، وقد أجراه الله ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة، فقطع الله تلك السٌّنة السوء عن أهل مصر إلى اليوم).



أرجو أن تقارن أخي المسلم بين حالنا وحال سلفنا الصالح تجاه هذه الممارسات الشركية، لتعلم البون الشاسع والفرق الواسع بيننا وبينهم في قوة اليقين والتوكل، وفي صدق الاعتماد على الله - عز وجل -.

وبعد..

فهذا بحث عن السحر، عن تعريفه، وحقيقته، وأنواعه، وحكم تعليمه وتعلمه والاشتغال به، وعن حد الساحر، وما يتعلق بذلك، والله أسأل أن يرينا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا الناصح الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين.



تعريف السحر:

السحر عمل شيطاني، يتعاون فيه شياطين الجن مع إخوانهم من شياطين الإنسº فهو عزائم ورقى، منه ما يؤثر في القلوب والأبدان، فيمرض، ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ومنه ما دون ذلك.



قال أبو العباس القرطبي - رحمه الله -: (والسحر عند علمائنا: حيل صناعية يتوصل إليها بالتعلم، والاكتساب، غير أنها لخفائها ودقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، فيندر وقوعها، وتستغرب آثارها لندورها، ومادته الوقوف على خصائص الأشياء، والعلم بوجوه تركيبها، وأزمان ذلك، وأكثره تخيلات لا حقيقة لها، وإيهامات لا ثبوت لها، فتعظم عند من لا يعرفها، وتشتبه على من لا يقف عليها، ولذلك قال - تعالى -: \"يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى\"، مع أنه كان في عين الناظر إليه عظيماً، وعن ذلك عبر الله - تعالى -بقوله: \"وجاءوا بسحر عظيم\"، لأن الحبال والعصي لم تخرج عن حقيقتها، وذلك بخلاف عصا موسى فإنها انقلبت ثعباناً مبيناً خرقاً للعادة، وإظهاراً للمعجزة).



السحر له حقيقة وتأثير:

السحر له تأثير وحقيقة، كما أخبر ربنا - سبحانه وتعالى -، وكما هو مشاهد، ولهذا فقد أمرنا بالاستعاذة منه، قال - تعالى -: \"ويتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله\"، وقال: \"ومن شر النفاثات في العقد\"، ولا ينكر ذلك إلا جاهل، معاند، مكابر.



قال أبو العباس القرطبي: (ولا ينكر أن السحر له تأثير في القلوب بالحب والبغض، وبإلقاء الشرور، حتى يفرق الساحر بين المرء وزوجه، ويحول بين المرء وقلبه، وبإدخال الآلام، وعظيم الأسقام، إذ كل ذلك مدرك بالمشاهدة، وإنكاره معاندة، وعلى ما قررناه فالسحر ليس يخرق عادة، بل هو أمر عادي يتوصل إليه من يطلبه غالباً، غير أنه يقل ويندر).



حكم تعلم هذا النوع من السحر، والاشتغال به، والتصديق بذلك:

من اشتغل بتعليم وتعلم هذا النوع من السحر الذي يُفَرَّق فيه بين المرء وزوجه، ويتسبب في حدوث الآلام والأسقام، في القلوب والأبدان، أو ذهب إلى هؤلاء وصدقهم فيما يقولون، واعتقد فيما يفعلون، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، أي كفر بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.



الأدلة على كفر السحرة:

الأدلة على كفر السحرة من القرآن والسنة وأقوال السلف الصالح كثيرة، منها:

1. قوله - تعالى -: \"وما يعلِّمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر\".

2. وقوله - تعالى -: \"وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا\".

3. وقـــوله - تعالى -: \"ويؤمنون بالجبت والطاغوت\"، قال عمر: الجبت السحر، والطاغوت الشيطان.

4. وقـــال - صلى الله عليه وسلم -: \"اجتنبوا السبع الموبقات\" أي المهلكات، وذكر منهن: \"السحر\"، الحديث.

5. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: \"من عقد عقدةً ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه\".

6. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد\".

7. وعن حفصة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً\".

8. وعن عمران بن الحصين مرفوعاً: \"ليس منا من تطيَّر أو تُطير له، أو تكهَّن، أو تكهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد\".

قال الحافظ ابن حجر رحمه لله: (وقد استدل بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر، وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها، وهو التعبد للشياطين والكواكب، وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلمه أصلاً. قال النووي: عمل السحر حرام، وهو من الكبائر الموبقات بالإجماع، وقد عده النبي - صلى الله عليه وسلم - من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفراً، ومنه ما لا يكون كفراً بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر، وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه، ولا يقتل، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عُزِّر).



حد الساحر:

ذهب الجمهور: أبو حنيفة، ومالك، ورواية عن أحمد إلى أن الكافر زنديق يقتل ولا يستتاب، وقال الشافعي: لا يقتل الساحر بمجرد السحر، إلا إذا ثبت أنه قتل بسحره.

والراجح ما ذهب إليه الجمهور، وذلك:

1. لِمَا خرج البخاري في صحيحه عن بجالـة: \"أن عمر كتب إليهم أن اقتلوا كل ساحر وساحرة\".

2. زاد عبد الرزاق في رواية بجالة: \"فقتلنا ثلاث سواحـر\".

3. ولِمَا خرجه الترمذي في سننه مرفوعاً وموقوفاً عن جندب قال: \"حد الساحر ضربة بالسيف\".

4. وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها.

والراجح والله أعلم أنه لا فرق بين الساحر المسلم والمعاهد، ولا يرد على ذلك عدم قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - للبيد بن الأعصم، لأنه كان لا ينتقم لنفسه.

قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (واستدل بهذا الحديث على أن الساحر لا يقتل حداً إذا كان له عهد، وأما ما أخرجه الترمذي من حديث جندب رفعه قال: \"حد الساحر ضربة بالسيف\"، ففي سنده ضعف، فلو ثبت لخص منه ما له عهد.



إلى أن قال:

قال ابن بطال: لا يقتل ساحر أهل الكتاب عند مالك والزهري إلا أن يقتل بسحره فيُقتل، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وعن مالك إن أدخل بسحره ضرراً على مسلم لم يعاهد عليه نقض العهد بذلك فيحل قتله، وإنما لم يقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - لبيد بن الأعصم لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ولأنه خشي إذا قتله أن تثور بذلك فتنة بين المسلمين وبين حلفائه من الأنصار، وهو من نمط ما راعاه من ترك قتل المنافقين، سواء كان لبيد يهودياً أو منافقاً على ما مضى من الاختلاف فيه. قال: وعند مالك أن حكم الساحر حكم الزنديق، فلا تقبل توبته، ويقتل حداً إذا ثبت عليه ذلك، وبه قال أحمد، وقال الشافعي: لا يقتل إلا إن اعترف أنه قتل بسحره، فيقتل به، فإن اعترف أن سحره قد يقتل، وقد لا يقتل، وأنه سحره، وأنه مات، لم يجب عليه القصاص، ووجبت عليه الدية في ماله لا على عاقلته، ولا يتصور القتل بالسحر بالبينة، وادعى أبو بكر الرازي في \"الأحكام\" أن الشافعي تفرد بقوله إن الساحر يقتل قصاصاً إذا اعترف أنه قتل بسحره، والله أعلم).



وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ معلقاً على حديث جندب: (رواه الترمذي وقال: الصحيح أنه موقوف.. وقد رواه ابن قانع والحسن بن سفيان من وجهين عن الحسن عن جندب الخير: أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات. وقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول، فذكره. قوله: \"حد الساحر ضربة بالسيف\"، روي بالهاء و بالتاء وكلاهما صحيح. وبهذا الحديث أخذ أحمد، ومالك، وأبو حنيفة، فقالوا: يقتل الساحر، وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وابن عمر، وحفصة، وجندب بن عبد الله، وجندب بن كعب، وقيس بن سعد، وعمر بن عبد العزيز، ولم ير الشافعي عليه القتل بمجرد السحر إلا إن عمل في سحره ما يبلغ الكفر به، قال ابن المنذر: وهو رواية عن أحمد، والأول أولى للحديث والأثـر عن عمر، وعمل به الناس في خلافته من غير نكير.



إلى أن قال: وظاهره أنه يقتل من غير استتابة، وهو كذلك المشهور عن أحمد، وبه قال مالك، لأن علم السحر لا يزول بالتوبة، وعن أحمد يستتاب، فإن تاب قبلت توبته، وبه قال الشافعي، لأن ذنبه لا يزيد على الشرك، والمشرك يستتاب وتقبل توبته، ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم).



قلت: هذا قياس مع الفارق، فإن سحرة فرعون تابوا على يدي رسولين كريمين، وقد أوحى الله لهما بصدق هؤلاء، فلا يمكن أن يقاس على ذلك.



أخطر أنواع السحر الحل والعقد، أو الصرف والعطف:

من أخطر أنواع السحر التي يُكفر فاعلها ما يعرف بالحل والعقد، أو الصرف والعطف، والصرف هو أن يُصرَف الرجلُ والمرأةُ عن محبة الآخر، والعطف هو أن يُجعل أحدُهما يميل ويعطف على الآخر بوسائل شيطانية محرمة.



وقد نص الله - سبحانه وتعالى - على ذلك على لسان الملكين اللذين أنزلهما لتعليم السحر، تعليم تحذير وتخويف، بدليل قولهما: \"إنما نحن فتنة فلا تكفر\"، فقال: \"ويتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه\".



هل يجوز لمن عُقد أن يذهب به إلى ساحر ليحله؟ أو ينشر عنه؟

ذهب أهل العلم في ذلك مذهبين، منهم من أجاز للمعقود إن لم يجد من يحله أن يذهب لساحر يحله، لأن الضرورات تبيح المحظورات، ومنهم من منع من ذلك البتة.



وممن أجاز ذلك سعيد بن المسيب، ومنع منه الحسن البصري - رحمهما الله -.



ترجم البخاري - رحمه الله - في صحيحه تحت باب \"هل يستخرج السحر؟ \": (وقال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: رجل به طِبُّ ـ أو يؤخذ عن امرأته ـ أيحل عنه أو يُنشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه).



قال الحافظ ابن حجر معلقاً على ترجمة البخاري السابقة: (كذا أورد الترجمة بالاستفهام إشارة إلى الاختلاف، وصدَّر بما نقله عن سعيد بن المسيب من الجواز إشارة إلى ترجيحه.



وقال الحافظ عن أثر سعيد: وصله أبو بكر الأثرم في \"كتاب السنن\" من طريق أبان العطار عن قتادة، ومثله من طريق هشام الدستوائي عن قتادة بلفظ \"يلتمس من يداويه\"، فقال: إنما نهى الله عما يضر، ولم ينه عما ينفع\"، وأخرجه الطبري في \" التهذيب\" من طريق يزيد بن زريع عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى بأساً إذا كان بالرجل سحر أن يمشي إلى من يطلق عنه، فقال: هو صلاح، قال قتادة: وكان الحسن يكره ذلك، يقول لا يعلم ذلك إلا ساحر، قال: فقال سعيد بن المسيب: إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع. وقد أخرج أبو داود في \"المراسيل\" عن الحسن رفعه: \"النٌّشرَة من عمل الشيطان\"، ووصله أحمد وأبو داود بسند حسن عن جابر. قال ابن الجوزي: النٌّشرَة حل السحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر. وسئل أحمد عمن يطلق المسحور، فقال: لا بأس به. وهذا هو المعتمد، ويجاب عن الحديث والأثر بأن قوله: \"النٌّشرَة من عمل الشيطان\"، إشارة إلى أصلها، ويختلف الحكم بالقصد، فمن قصد بها خيراً كان خيراً، وإلا فهو شر، ثم الحصر المنقول عن الحسن ليس على ظاهره لأنه قد ينحل بالرقى والأدعية والتعاويذ، ولكن يحتمل أن تكون النشرة نوعين).



نوعا النٌّشرة

النٌّشرة، وهي حل المسحور، نوعان:

1. نُشرة محرمة، وهي التي تكون برقي وعزائم شركية.

2. نُشرة جائزة، وهي التي تكون بالتعوذات والأدعية المباحة، وعليه تتنزل الأحاديث والآثار السابقة، ويمكن التوفيق بينها.



علاج المسحور:

يكون بإحدى طريقتين هما:

أولاً: باستخراج السحر وإبطاله

وهذا يكون بالآتي:

1. الدعاء والتضرع إلى الله - عز وجل -، فإن الله قادر على أن يبطل عمل المفسدين، كما حدث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما سحره اليهودي المنافق لبيد بن الأعصم، قالت عائشة - رضي الله عنها -: \"سُحر النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إنه يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله ودعاه، ثم قال: أشعرتِ يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زريق. قال: في ماذا؟ قال: في مُشطٍ, ومشاطةٍ, وجف طلعة ذكر. قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان. قال: فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أناس من أصحابه إلى البئر فنظر إليها وعليها نخل، ثم رجع إلى عائشة، فقال: والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين. قلت: يا رسول الله، أفأخرجته؟ قال: لا، أما أنا فقد عافاني الله وشفاني، وخشيت أن أثَوِّر على الناس منه شراً. وأمر بها ودفنت\".



قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - تحت عنوان:

أنفع علاجات السحر

(ومن أنفع علاجات السحر: الأدوية الإلهية، بل هي أدويته النافعة بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السِّفلية، ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار والآيات والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها، وكلما كانت أقوى وأشد كانت أبلغ في النشرة، وذلك بمنزلة التقاء جيشين، مع كل واحد منهما عدته وسلاحه، فأيهما غلب الآخر قهره وكان الحكم له، فالقلب إذا كان ممتلئاً من الله مغموراً بذكره، وله من التوجهات والدعوات، والأذكار، والتعوذات، ورد لا يخل به يطابق فيه قلبه لسانه، كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له، ومن أعظم العلاجات له ما يصيبه).



وقال منكراً وراداً على منكري حادثة سحره - صلى الله عليه وسلم -: (قد أنكر هذا طائفة من الناس، وقالوا: لا يجوز هذا عليه، وظنوه نقصاً وعيباً، وليس الأمر كما زعموا، بل هو من جنس ما كان يعتريه - صلى الله عليه وسلم - من الأسقام والأوجاع، وهو مرض من الأمراض، وإصابته به كإصابته بالسم، ولا فرق بينهما، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: \"سُحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إن كان ليخيل إليه أنه يأتي نساءه ولم يأتهن\" وذلك أشد ما يكون من السحر.

قال القاضي عياض: السحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل، يجوز عليه - صلى الله عليه وسلم - كأنواع الأمراض مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته، وأما كونه يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من صدقه، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طرؤه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث لسببها، ولا فضِّل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أنه يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له).



2. الذهاب إلى ساحر لاستخراج ما به من سحر، وهذا يكون بالنٌّشرة المحرمة، ومن أهل العلم من أباح ذلك، ومنهم من منع منه للآثار السابقة، ولهذا أباح بعض أهل العلم تعلم السحر لفك المسحورين، وليحولوا بين المسحورين وبين السحرة، ولا شك أن من كانت نيته الإصلاح وأنس من نفسه الكفاءة جاز له ذلك.



قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأحد أمرين، إما لتمييز ما فيه كفر من غيره، وإما لإزالته عمن وقع فيه، فأما الأول فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد، فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء بمجرده لا تستلزم منعاً، كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان، لأن كيفية ما يعمله الساحر إنما هي حكاية قول وفعل، بخلاف تعاطيه والعمل به، وأما الثاني فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلاً، وإلا جاز للمعنى المذكور).



قال ابن القيم - رحمه الله -: (النٌّشرة حل السحر عن المسحور، وهو نوعان: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان ـ وعليه يحمل قول الحسن ـ فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور، وقد أباح سعيد بن المسيب وغيره من أهل العلم ذهاب من اضطر ولم يجد من يحله إلى هؤلاء السحرة، والله أعلم.



3. النشرة المباحة: وتكون كما قال ابن القيم بالرقى، والتعوذات، والدعوات، وأدوية مباحة، وهي جائزة بل تستحب لمن استطاع أن ينفع أخاه المسلم.



نماذج للنشرة المباحة:

من أمثل النشرة المباحة ما يأتي:

أ. روى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله - تعالى -، تقرأ في إناء فيه ماء، ثم يصب على رأس المسحور:



* الآية التي في سورة يونس: \"ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين. ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون\".



* وقوله: \"فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون\"، إلى آخر الآيات الأربع.



* وقوله: \"إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى\".



ب. وقال ابن بطال في كتاب وهب بن منبه: (أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر، فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ثم يغتسل به، يذهب عنه كل ما به، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله).



ثانياً: عن طريق الحجامة واستفراغ الدم من مكان الألم

قال ابن القيم - رحمه الله -: (الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر، فإن للسحر تأثيراً في الطبيعة وهيجان أخلاطها، وتشويش مزاجها، فإذا ظهر أثره في عضو، وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو نفع جداً.

وقد ذكر أبو عبيد في \"غريب الحديث\" له ـ بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: \"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم على رأسه بقرن حين طبَّ\"، قال أبو عبيد: معنى \"طب\" أي سُحِرَ.



إلى أن قال: وقد أشكل هذا على من قلَّ علمه، وقال: ما للحجامة والسحر؟ وما الرابطة بين هذا الداء وهذا الدواء؟ ولو وجد هذا القائل أبقراط أو ابن سينا أو غيرهما قد نص على هذا العلاج لتلقاه بالقبول والتسليم، وقال: قد نص عليه من لا نشك في معرفته وفضله.



فاعلم أن مادة السحر الذي أصيب به النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهت إلى رأسه، إلى إحدى قواه التي فيه، بحيث كان يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء ولم يفعله، وهذا تصرف من الساحر في الطبيعة والمادة الدموية، بحيث غلبت تلك المادة على البطن المقدم منه، فغيرت مزاجه عن طبيعته الأصلية، والسحر مركب من تأثيرات الأرواح الخبيثة، وانفعال القوى الطبيعية عنها، وهو سحر التمريحات، وهو أشد ما يكون من السحر، واستعمال الحجامة في ذلك المكان ـ الذي تضررت أفعاله بالسحر ـ من أنفع المعالجة، إذا استعملت على القانون الذي ينبغي).



من أنواع السحر :

أنواع السحر كثيرة جداً وما قارب الشيء فله حكمه، مثل:

1. الكهانة.

2. العيافة.

3. الطرق.

4. الطيرة.

5. علم النجوم.

6. قراءة الفنجال.

7. العقد في الخيط.

8. العرافة.

9. الودع.

10. الأبجد.

فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"من أتى كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد\".

وعن قبيصة - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"إن العيافة والطَرق والطيرة من الجبت\".

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر\".



فالكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل الذي يخبر عما في الضمير.



والعراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق، ومكان الضالة، ونحو ذلك.

والعَرَّاف قيل هو الكاهن.



قال شيخ الإسلام ابن تيمية: العراف اسم الكاهن، والمنجم، والرمَّال ونحوهم. وقال أيضاً: والمنجم يدخل في اسم العراف.



والعيافة: زجر الطير.



والطرق: الخط، يخط بالأرض ـ قال أبو السعـادات: هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء.

وأخيراً اعلم أخي المسلم أنك لن تتمكن من تعلم السحر والاشتغال به حتى يسلب إيمانك، وتبيع آخرتك بدنياك، فالسحر عمل شيطاني، والشيطان لن يعينك على شيء إلا على حساب دينك وإيمـانك، بأن تترك فرضاً من الفرائض، أو تقترف كبيـرة من الكبائـر، أو أن تشـرك بقــول، أو عمل، أو اعتقاد، نحو أن تهين المصحف، أو تصلي لغير القبلة، أو تذبح باسم غير الله، أو نحو ذلكº فعليك أن تتعظ بغيرك، وعليك أن لا تُتبع نفسك هواها وتتمنى على الله الأماني، وأن ترضى بما قسمه الله لك.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply