بسم الله الرحمن الرحيم
يأمر ديننا الحنيف - وكذلك سائر الأديان السماوية - بوجوب الإيمان بجميع أنبياء الله ورسله، ووجوب تعظيمهم وإجلالهم اعترافاً بفضلهم، وامتثالاً لأمر الله - عز وجل - بذلك، حيث قال - سبحانه -: (( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَينَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبرَاهِيمَ وَإِسمَاعِيلَ وَإِسحَاقَ وَيَعقُوبَ وَالأسبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيٌّونَ مِن رَبِّهِم لا نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ, مِنهُم وَنَحنُ لَهُ مُسلِمُونَ ))(البقرة: 136)، فجميع أنبياء الله - عز وجل - في نظر المسلم مستحقون للتعظيم والإجلال، بل إن القرآن يصرح أن الكفر بنبي واحد هو كفر بجميع الأنبياء، قال - تعالى- (( كَذَّبَت عَادٌ المُرسَلِينَ ))(الشعراء: 123) وعادٌ إنما كذبت بنبي واحد هو هود - عليه السلام -، ولكن لما كانت دعوة الأنبياء واحدة كان التكذيب بواحد منهم تكذيب بجميع الأنبياء.
هذا هو موقف المسلم من أنبياء الله ورسله، أما اليهود فلهم مع الأنبياء شأن آخر، فكم من نبي آذوه، فقد آذوا موسى - عليه السلام - واتهموه بأنه آذر ( أحد خصيتيه منتفخة )، وبأنه قتل هارون - عليه السلام -، وكم من نبي قتلوه فقد سعوا عند الرومان لقتل عيسى، وقتلوا يحيى - عليهما السلام -، أما اتهامات اليهود للأنبياء بالفحش والأخلاق السيئة فقد ملؤوا التوراة بها، ولذلك فلا غرو أن يقف اليهود - وهم أهل الدناءة والخسة - من نبي الإسلام موقف المكذب به، الناكر لنبوته، كونه جاء بفضحهم، وبيان كفرهم، فضلاً على أنه لا ينتمي إليهم من جهة النسب، ما دفعهم إلى مناصبته العداء، ومحاربته سراً وجهراً، وقد سطر الله - عز وجل - بعض مواقف اليهود من النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلم الناس مدى حقدهم وعداوتهم لنبي الإسلام، مع معرفتهم به وتيقنهم منه قال - سبحانه -: (( وَلَمَّا جَاءَهُم كِتَابٌ مِن عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُم وَكَانُوا مِن قَبلُ يَستَفتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعنَةُ اللَّهِ عَلَى الكَافِرِينَ ))(البقرة: 89)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: إن يهوداً كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه \".
ووصف الله - عز وجل - معرفة اليهود بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها معرفة تضاهي وتشابه معرفتهم بأبنائهم فقال - سبحانه -: (( الَّذِينَ آتَينَاهُمُ الكِتَابَ يَعرِفُونَهُ كَمَا يَعرِفُونَ أَبنَاءَهُم وَإِنَّ فَرِيقاً مِنهُم لَيَكتُمُونَ الحَقَّ وَهُم يَعلَمُونَ ))(البقرة: 146)، ولم تكن تلك المعرفة إلا نتاج النبوءات المتكررة التي امتلأت بها التوراة، والتي وُصِف النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلالها وصفاً دقيقاً في خَلقِه وخُلُقِه، بل وُصف البلد الذي يبعث فيه، والبلد الذي يهاجر إليها، وهذا نستنتجه من قدوم عدد من أحبار يهود إلى المدينة النبوية قبل البعثة ينتظرون بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقدمه، ويوصون اليهود باتباعه والإيمان به، ونستدل على ما ذكرنا بشهادة الحبر اليهودي الذي أسلم عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - عندما شهد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اليهود يجدونك عندهم في التوراة، لكن هل لنا أن نتساءل أمام هذه الدلائل، أين تلك النبوءات الكثيرة التي تتحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتوصي اليهود باتباعه، أين تلك الدلائل الوفيرة من التوراة اليوم، إن الجواب لا يتطلب عناءً كبيراً إذا علمنا مبلغ تدخل اليهود في التوراة زيادة ونقصاً، تحريفاً وتغييراً، حتى أضحت كثير من تلك النبوءات في عداد المفقودات، ولكن أبى الله إلا أن يتم حجته على اليهود من كتابهم، فأبقى - سبحانه - من النصوص في التوراة ما يدل على البشارة بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، بعد أن أعمى أعين المحرفين عنها، فمن تلك البشارات:
1- ما جاء في سفر التثنية (الفصل الثامن عشر، الجملة 18): (أقيم لهم نبياً من وسط أخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه )، وهذه النبوءة لا يعترف اليهود أنها واردة في النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدعيها النصارى لأنفسهم، ونحن نقول: إن النبوءة تحتوي على وصف لا يوجد إلا في نبي الإسلام محمد - صلى الله عليه وسلم -، هذا الوصف هو قوله (وأجعل كلامي في فمه)، فهي إشارة صريحة إلى معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن الكريم، كلام الله - عز وجل -، حيث أمر الله نبيه أن يبلغ كلامه إلى الخلق، وهذا معنى النبوة أجعل كلامي في فمه، فضلاً على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو أشبه بموسى من عيسى كون الاثنين أي موسى ومحمداً قد ولدا ولادة طبيعة من أب وأم، فضلاً على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - يشبه موسى كونه بعث بشريعة جديدة بخلاف عيسى فإنه بعث مجدداً لشريعة موسى - عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه -.
2- ومن البشارات أيضاً ما جاء في التوراة في الفصل (32) الجملة (2): (وجاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من ساعير، وتلألأ قدما من فاران، جاء معه عشرة آلاف قديس، ومن يده اليمنى برزت نار شريعة لهم)، وفاران هي مكة كما تدل على ذلك نصوص أخرى من التوراة، ولم يبعث أي من أنبياء بني إسرائيل من مكة حتى يقال: إن النبوءة تنطبق عليه، وثمة وصف آخر يدل على أن المراد بالنبوءة هو النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - لا محالة، وهو كونه يجيء ومعه عشرة آلاف قديس، وهذا العدد هو عدد الصحابة - رضي الله عنهم - الذين دخل بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة، وأما وصف الشريعة بالنارية فهي دلالة على ظهورها وقوتها، وهو ما ينطبق تماماً على الشريعة الإسلامية، فقد كتب الله لها من الظهور والقوة بحيث خمدت أمامها كل الشرائع، فهذه صفات ثلاث وردت في النبوة جميعها متحققة في نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
3- ومن ذلك ما جاء في إصحاح إشعيا (الإصحاح 21 الآيات (13): (وحي من جهة بلاد العرب، في الوعر في بلاد العرب)، فما أصرح هذه النبوة في الدلالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهي تحدد جنسيته وهو كونه عربياً، ومكان بعثته وهي بلاد العرب، فأي صراحة أبلغ من هذه الصراحة.
ومع صراحة هذه النبوة، وقرب غيرها من الصراحة في البشارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإن المرء ليعجب من إنكار اليهود وجحودهم لنبوة سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -، بعد كل تلك الدلائل النقلية من كتبهم، لكنه الكبر والإعراض عن قبول الحق، هو الذي يحول بينهم وبين الخضوع له، نسأل المولى - عز وجل - أن يعرفنا طريق الحق، وأن يرزقنا اتباعه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد