بسم الله الرحمن الرحيم
لا يحب المرء أن يظهر أمام الناس بمظهر المعرض عن قبول الحق والانقياد له، وذلك لما في الإعراض عن قبول الحق من المسبة والمنقصة، لذلك يلجأ المعرضون عن الحق إلى الاعتذار عن إعراضهم بالحجج الواهية، والأعذار الساقطة، حتى لا يظهروا بذلك الوصف المشين.
واليهود من أعظم الأمم إعراضاً عن الحق، ونفوراً عنه وعن العمل به، ولكنهم - وخشية من أن يظهروا في أعين متبعيهم بهذا الوصف - فقد اخترعوا لأنفسهم حجة يتمسكون بها، ويظهرونها لأتباعهم، ويدفعون بها عن أنفسهم صفة الإعراض والاستكبار عن قبول الحق، حيث عللوا موقفهم من شريعة الإسلام بأن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الشريعة الربانية ينسخ شريعة التوراة، قالوا: والنسخ على الله محال لأنه بداء، فالقائل به متهم لله بالجهل، ذلك أن الله - وهذا قولهم - إذا حكم بحكم فذلك الحكم هو المصلحة، فإذا نسخه وقضى بخلافه، فهذا يدل على أن الله بدا وظهر له فساد الحكم الأول، وهذا اتهام لله بالجهل وهو ممتنع، فدلَّ ذلك على امتناع النسخ في حق الله لما يلزم القائل به من المعنى الباطل، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم، فتعين القول بأن شريعة موسى هي الشريعة الحق، وما أتى بعدها فباطل وضلال، ومثل هذه الحجة الواهية - وإن زخرفت حتى بدت كالحق - إلا أنها سرعان ما تتهاوى عند معاول النقد والتمحيص، فقد أجاب العلماء على حجتهم تلك، فقالوا: أرأيتم أيها اليهود شريعة موسى - عليه السلام - التي تدَّعون التمسك بها، هل كان قبلها شيء من شرائع الله وأحكامه؟ فإن قالوا: لم يكن قبلها شيء فقد كذبوا بنص التوراة التي ذكرت أن من شريعة نوح القصاص، ومن شريعة إبراهيم - عليه السلام - الختان، وإن قالوا: كانت هناك شرائع، قلنا: أو ليس شريعة موسى جاءت ناسخة لتلك الشرائع، فكيف تجيزون لأنفسكم ما تحرمونه على غيركم:
أحرام على بلابله الدوح *** حلال للطير من كل جنس
ومن الأدلة على أن التوراة جاءت ناسخة للشرائع السابقة تحريم الأعمال الصناعية في يوم السبت، وقد كان العمل يوم السبت من المباحات، وهذا هو عين النسخ الذي ينكرونه ويزعمون أنه يلزم منه البداء، فهذه بعض أوجه إبطال قولهم، ثم نأتي على حجتهم التي استندوا عليها فنقول: البداء يأتي على ثلاثة معان:
1- البداء في العلم، وهو أن يظهر له خلاف ما علم، وهذا لا يقول به عاقل في حق الله - جل وعلا -، لتمام علمه وإحاطته بكل معلوم.
2- البداء في الإرادة، وهو أن يظهر له الصواب على خلاف ما أراد، وهذا أيضاً مستحيل على الله - عز وجل - لما يلزم عنه من نسبة الخطأ إليه - سبحانه -.
3- البداء في الأمر، وهو أن يأمر بشيء ثم يأمر بشيء آخر بعده بخلاف ذلك، فهذا ما نسميه نسخاً وليس هو بممتنع في حق الله - سبحانه -، ولا يلزم منه تجهيل الرب، ولا نسبة الخطأ إليه، ذلك أن اختلاف الحكم هنا ليس سببه أن الله قد ظهر له فساد ما كان يعلمه صالحاً فيلزم من القول به تجهيل الله - جل وعلا -، كلا ولكنَّ الحكم كان مصلحة في زمن ضمن ظروف وملابسات معينة، فلما انتفت تلك الظروف والملابسات لم تبق مصلحة في بقاء الحكم السابق، فينسخه الله - سبحانه - بحكم آخر يناسب ظروف وملابسات ذلك الزمن، وهذا من تمام حكمة الله - سبحانه -، وكمال علمه، وليس في القول به انتقاص للخالق - سبحانه -، ولا اتهام له بالجهل، وهذا ظاهر بيَّن، ولنضرب لذلك مثلاً يتضح به الكلام، فنقول: لقد حرَّم الله على بني إسرائيل أكل كلِّ ظفر، وحرم الله عليهم بعض شحوم البقر والغنم، كما قال - تعالى -: (( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ, وَمِنَ البَقَرِ وَالغَنَمِ حَرَّمنَا عَلَيهِم شُحُومَهُمَا إلا مَا حَمَلَت ظُهُورُهُمَا أَوِ الحَوَايَا أَو مَا اختَلَطَ بِعَظمٍ, ذَلِكَ جَزَينَاهُم بِبَغيِهِم وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ))(الأنعام: 146)، لكن هذا التحريم لم يكن لضرر في المأكول المحرم، وإنما كان عقوبة لبني إسرائيل على بغيهم كما نصت على ذلك الآية القرآنية السابقة، فهل من المناسب أن تعاقب الأمم اللاحقة بهذا التحريم بسبب ظلم بني إسرائيل وطغيانهم، إن الحكمة تقول ألا يؤخذ أحد بجريرة أحد، وألا تزر وازرة وزر أخرى، فهل في هذا عيب يلحق الخالق - سبحانه - بنسخه الحكم السابق، إن العقل يشهد بحسن ذلك النسخ، وأنه على مقتضى الحكمة والعدل.
ومثال آخر وهو تحريم إسرائيل (يعقوب) - عليه السلام - لحوم الإبل على نفسه، واقتداء بني إسرائيل به في ذلك، فهل من المناسب أن يبقى هذا التحريم سارياً حتى بعد مجيء رسول جديد بشرع جديد، وما الحكمة التي تجعل من نذر يعقوب - عليه السلام - شرعاً دائماً على سائر الأمم والشعوب!!.
ومن عجيب أمر اليهود الذين ينكرون النسخ، كيف أنهم وصفوا الله - عز وجل - بأقبح الأوصاف، حيث زعموا أنه ندم - سبحانه - على خلق الخلق، وشقَّ عليه لمَّا رأى كفر قوم نوح وإعراضهم، ولعمر الله إن ما ينكرونه من نسخ الشرائع أهون مما وصفوا الله به، ذلك أن نسخ الشرائع لا يدل على ظهور أمر كان خافياً عليه - سبحانه - كما أوضحنا ذلك - بخلاف دعواهم أن الله ندم على خلق الخلق لما رأى كفرهم، فإن ذلك تجهيل للحق - سبحانه -، ونفي لعلمه بما تؤول إليه أمور خلقه، فانظر إلى نفيهم النسخ - وهو حق - توصلاً إلى نفي شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن قبله عيسى - عليه السلام -، ثم انظر إلى وصف الرب جل جلاله بالندم، لتعلم مدى جرأة هؤلاء وكفرهم وتناقضهم، نسأل المولى - عز وجل - أن يثبتنا على دينه، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله مشتبهاً علينا فنضل، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد