التحليل النفسي للشخصية اليهودية


 

بسم الله الرحمن الرحيم



ازدهرت دراسة الجماعات لدوافع مختلفة، ففي البداية اقتصر الأمر على الرغبة بالاطلاع على التنوع الإنساني، وكان ذلك في فترة مبكرة من تاريخ الاجتماع الإنساني، تلا ذلك فترة سيطرت فيها رغبة البحث عن عيوب ونقائص المجموعات، هذه السيطرة التي عكست تنامي حدة الصراع بين المجموعات، ولعل في سخرية الجاحظ من أهل \"مرو\" وبخلهم دليل على ذلك كما على قدم الاهتمام بدراسة الجماعات وخصائصها المشتركة المميزة.

مهما يكن فإن البداية العلمية للبحث في هذا الموضوع يؤرخ لها بصدور كتاب \"نماذج من الثقافة\" الذي أصدرته الباحثة بينيديكت عام 1943م، وفيه خلصت إلى التأكيد على أن الثقافات التي درستها دمغت شخصيات الأفراد المنتمين إليها، وهذا التأريخ يصح في حال الحديث عن الانثروبيلوجيا الثقافية، إلا أن التطورات اللاحقة حولت دراسة الجماعات والشعوب إلى موضوع توظيف سياسي، وكان ذلك بمناسبة الحرب العالمية الثانية، وهي كانت عالمية بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، سواء بالمشاركة كطرف، أو كمسرح للمعارك، أو بالتأييد العلني أو الضمني.

وبما أن هذا الفرع قد شهد بدايته في الولايات المتحدة التي لم تنخرط في الحرب إلا عام 1941م فقد كان من الطبيعي أن تحتضن هذه الدراسات، يضاف إلى ذلك هجرة علماء النفس الأوروبيين إليها هرباً من الحرب، وأيضاً الطابع الانفتاحي الأميركي الباحث عن الدراية لا عن الجزء المسمى بالمعرفة منها، وهذا سبب السبقات التي تمكن هذا البلد من تحقيقها، مما تقدم نلاحظ تشعب الموضوع، واختلاف منطلقاته البحثية بما يضيق المجال بنا لعرضه، لذا نفضل الدخول إلى موضوعنا وهو التحليل النفسي للشخصية اليهودية.



1- بين اليهودية والإسرائيلية:

إن الحديث عن شخصية إسرائيلية يصطدم بجملة مخالفات للمنطق العلمي، ذلك أن المجتمع الإسرائيلي هو خليط من مجموعة متنوعة من الثقافات، وهو مجتمع مهاجرين بمعنى أنه ممكن التقسيم بحسب تاريخ الهجرة إليه، حيث نبدأ من طائفة السابرا وهم المولودين في فلسطين، وننتهي بطائفة اليهود الروس، وبعضهم لم يمض عام واحد بعد على قدومهم إلى إسرائيل، ومع أننا لا نريد الخوض في مسألة صراع الهوية الإسرائيلية إلا أننا مضطرون للإشارة إلى انعدام وجود هوية جامعة لهذا المجتمع، أو أقله عدم توصل الإسرائيليين للاتفاق على هوية موحدة لمجتمعهم، وهذا ما يدعونا إلى تسمية إسرائيل باتحاد الحارات اليهودية، فقد ترك اليهود حاراتهم في بلدانهم وجاؤوا كي يعيدوا إقامتها في إسرائيل، حيث نجد أن لكل حارة لغتها الخاصة - والحارة القوية تصدر صحفها بهذه اللغة وليس بالعبرية -، ونجد أن لها أيضاً أحزابها ومؤسساتها الاجتماعية الخاصة، ولو أخذنا المهاجرين الروس مثالاً لوجدنا أن ثلثيهم مشكوك بيهوديتهم، ولوجدنا أن صراعهم مع المتشددين قد بلغ حدود استعمال قنابل المولوتوف، ولوجدنا في المقابل أن لديهم حزبان ممثلان في الكنيست، وأن حجم هذا التمثيل في تزايد مستمر منذ بداية هجرتهم وحتى اليوم، فإذا ما نظرنا إلى خصائصهم الجمعية لوجدنا أنهم يشكلون نماذج صادقة للشخصية الروسية.

أما عن اليهود العرب فإن النكتة الإسرائيلية تقول: بأن أجنبياً سأل أشكينازياً: ما هو سر كراهيتكم العميقة للعرب؟ فأجاب الأشكينازي: لأنهم يشبهون اليهود العرب!.

فإذا ما نحينا جانباً البعد الإيديولوجي الرافض مبدئياً لفكرة التسليم بوجود قومية إسرائيلية (تدعمه في ذلك الأسباب المبينة أعلاه)º فإن محاولة التورط في دراسة شخصية إسرائيلية تأتي مخالفة لكل قواعد البحث العلمي، حيث تقوم الدراسة على البحث في الخصائص العامة المشتركة لدى الجماعة، ومن ثم يتم البحث في العناصر الثقافية التي استعارتها هذه الجماعة، وهذا غير ممكن التطبيق في الحالة الإسرائيلية، حيث العنصر الثقافي الوحيد الجامع هو اليهودية، بل أن هذا العنصر نفسه هو موضوع جدل مستمر، فالشكوك تطاول يهودية 90% من يهود العالم، حتى إن علمانيي إسرائيل يحاولون علمنة الديانة كي تتسع لعضوية أعضاء جدد يدعمون المشروع الصهيوني العلماني، لهذه الأسباب مجتمعة نجد من المستحيل رصد ما يمكن تسميته بالشخصية الإسرائيلية، مما يجبرنا على العودة إلى دراسة الشخصية اليهودية حيث سمات هذه الشخصية قد تكّون القاسم المشترك الوحيد بين يهود إسرائيل.

وحتى في حال ورود مصطلح الشخصية الإسرائيلية فإننا ننصح القارئ - وبناء على ما تقدم - بترجمة المصطلح إلى يهودية بدلاً من إسرائيلية.



2- الدراسات السابقة:

افتتح فرويد هذه الدراسات في كتابه(1) المعنون \"الطوطم والمحرم\" الذي استند فيه إلى الإنثروبولوجي فريزر، إلا أن تطرقه لتحليل الشخصية اليهودية تأخر لغاية (1914م) عندما نشر مقالته \"موسى ومايكل أنجلو\" التي نشرها دون توقيع، ثم نشر بعدها الجزئين الأول والثاني من كتابه \"موسى والتوحيد\" عام 1937م، أما القسم الثالث والأخير فنشره عام 1939م، حيث قدّم في هذا الكتاب تحليلات عميقة للشخصية اليهودية(2)، وإن كان بعضهم يرد دافع تأليفه لهذا الكتاب إلى محاولته التوحد بشخصية موسى، اللافت في هذا الكتاب هو إصرار فرويد على انتزاع موسى من اليهود في الوقت الذي يتعرضون فيه لملاحقة النازي؟، وهم قد أعطوا جملة إجابات لا يمكن اعتبار أحداها مقنعاً!، فإذا ما نظرنا إلى هذا الانتزاع على ضوء المعارف السيكاترية الراهنة لوجدنا أن هذا النكران هو مظهر تفككي (Dissociativ)، فإذا ما راعينا رغبة التوحد لدى فرويد أمكننا الاستنتاج بأن فرويد كان يعاني في هذه الفترة من هذا التفكك، وهذا تحديداً ما يجعله أقدر على تبيان عيوب الشخصية اليهودية المرفوضة من قبله، وهو رفض يمكن رده إلى الجرح النرجسي الذي أصابه لاضطراره بسبب يهوديته للهرب من فيينا إلى لندن.

ونؤجل عرض آراء فرويد في الشخصية اليهودية لنذكر أن بعض أتباعه من المحللين حذا حذوه لجهة توظيف التحليل في الدراسات الأنثروبولوجية، ومن هؤلاء نذكر يونغ الذي عني بدراسة الأساطير، ونشر كتاب \"الإله اليهودي\"، وأبراهام وريخلن، وروهايم، ونسجل لهذا الأخير ملاحظة قيمة إذ يقول(3):\"…ينبغي أن يكون للطابع القومي كينونة ثابتة عبر الأجيال ترتكز على تكرار نفس الموقف الطفولي\".

وإذا كنا في مجال استعراض الكتابات السابقة حول الموضوع فلا بد لنا من التوقف عند محطتين هامتين:

الأولى مقالة لمصطفى زيور - رحمه الله - بعنوان: \"أضواء على المجتمع الإسرائيلي - دراسة في التحليل النفسي\"(منشورة في الأهرام بتاريخ 8/8/1968م)، كما نتوقف عند مجموعة دراسات البروفسور قدري حفني التي بدأها برسالة جامعية بعنوان \"الشخصية الإسرائيلية - الاشكينازيم\"، ولنا عودة إلى هذه الدراسات.



3- فرويد يحلل الشخصية اليهودية:

توخياً للاختصار سنحاول إيجاز التحليل الفرويدي للشخصية اليهودية بنقاط محددة نختصرها كما يلي:

أ- أن الرواية اليهودية لقصة موسى لا تنسجم ومنطق الأمور، فالأصح هو أن يكون الفرعون قد حلم أن ابن ابنته سيكون خطراً عليه لذلك أمر بإلقائه في النيل، فوجده اليهود، وتعهدوا تربيته، وليس العكس كما تقول الرواية اليهودية، بذلك يكون فرويد من أوائل المشككين بالروايات التوراتية، وهو يدعم آراءه ببحوث مؤرخين جدد (لاحظ أن هذا المصطلح ليس جديداً كما يدعي المؤرخون الإسرائيليون الجدد) من أمثال ج.ه.بريستد، وماير وغيرهم.

ب- الرواية السابقة تؤكد مصرية موسى ولا عبرانيته، ويقول فرويد بأن ذلك يجب ألا يكون مدعاة للاستغراب، فنابليون مثلاً لم يكن فرنسياً!، إلا أن نفي فرويد ليهودية موسى يعني نفي أسطورة الشعب المختار ليهوديته.

ج- يتهم فرويد اليهود بقتل موسى - المصري - لأن العبرانيين لم يستطيعوا الارتقاء إلى مستوى الروحانية التي يتضمنها دين موسى، وهو يدعم هذا الرأي بالاستشهاد بكتابات المؤرخ اليهودي أ.سيلن.

ه- إن فرويد لا يشكك فقط بالتراث اليهودي بل هو يشكك أيضاً بالتوراة نفسها إذ يقول: \"… إن النص التوراتي الذي بين أيدينا يحتوي على معلومات تاريخية مفيدة، بل لا تقدر بثمن، لكن هذه المعطيات تم تحريفها بفعل مؤثرات مغرضة قوية، كما تم تجميلها شعرياً\"، وبهذا يؤسس فرويد لمعارضة قراءة التاريخ انطلاقاً من المرويات التوراتية، وهو يدعم رأيه هذا بتباعد الفترات الزمنية لتدوين أجزاء التوراة الذي لم يكتمل إلا بعد ظهور موسى بتسعة قرون!.



4 - زيور يحلل الشخصية اليهودية:

ركز مصطفى زيور في تحليله لهذه الشخصية على انقلابها من الاستكانة والذل والاختناق في الغيتوات (حارات اليهود) وبين تحولها إلى الشراسة والإرهاب عبر عصابات شتيرن وأرغون والهاغاناه وغيرها، ومن ثم عبر اتحاد هذه العصابات لتأليف جيش الدفاع الإسرائيلي، وهكذا تمحور بحثه حول إيجاد التعليل لهذا التحول، لذلك رأى زيور في تجربة الأسر النازي صدمة نفسية شجعت آلية توحد اليهودي بالجلاد النازي، وأورد دراسات تناولت الناجين من الأسر تبين معاناتهم من مظاهر مرضية مثل: النقص في الحس الاجتماعي والأخلاقي الذي يعبر عنه بنوع من الحذر التوجسي (الشك) وثيق الصلة بتوجس مرضى البارانويا، وكان هؤلاء الناجون إذا ما أتيحت لهم حرية التعبير عن عدوانيتهم يصلون إلى درجة الاندفاعات العدوانية المتوحشة، ويؤكد مينكوفيسكي هذه الوقائع لكنه يتبعها بالقول: \"… قد يكون الأمر انخفاضاً في المستوى الأخلاقي، لكن يجب الحذر في استخدام الألفاظ… وعلى أية حال فإن المستقبل لا يبدو بالضرورة ميئوساً منه، فقد استطاع الكثير من أطفال بوخنفالد أن يستعيدوا بعض الاتزان وخاصة في إسرائيل\".

ويعترض زيور على هذا التفسير الاعتباطي لمينكوفيسكي فيرى أن هذا الاتزان الظاهر إن هو إلا تنظيم جديد للتوحد بالمعتدي (أي مجرد تغيير في اتجاه العدوانية)، فقد استنسخ اليهود سلوك النازي في مذابح دير ياسين وغيرها، ويعطي زيور مثال مناحيم بيغن الذي اكتملت فيه معالم شخصية السفاح ليكون أبرز أمثلة التوحد بالمعتدي النازي، أما موشيه دايان فهو خير متقمص للعسكرية النازية، ولا يقصر زيور آلية التوحد بالمعتدي على خريجي المعتقلات النازية، بل هو يرى أن هذه الآلية قد انتشرت كالوباء بين اليهود عبر التعاطف مع الضحايا اليهود.

وينهي زيور تحليله بالتقرير بأن ما يجمع بين التجمعات اليهودية الإسرائيلية بالرغم من اختلافها في كل شيء إنما يتلخص بهذا التوحد بالمعتدي، الذي أتاح لليهود التحول من المذلة إلى الطغيان، ومن الخنوع إلى السفاحية، لذلك يستنتج المحلل الحاجة الإسرائيلية النفسية لممارسة العدوان، فشخصية المتوحد بالمعتدي تفقد تماسكها إن هي توقفت عن العدوان، لأنه يطمئنها مانعاً تفجر موجات القلق والرعب فيها.

وكأن لسان حالها يقول: ما دمت أنا المعتدي فلا خوف علي من الارتداد إلى ما كنت عليه: يهودياً تائهاً، رعديداً يفتك به الناس في كل مكان، من هنا يمكن استنتاج هشاشة الشخصية الإسرائيلية، وعدم قدرتها على تحمل أي إحباط، كون الإحباط يصيب هذه الشخصية بالتهاوي والتفكك، مهدداً بزوال الهوية الزائفة، لذلك فإن القادة الإسرائيليين مجبرين على تأمين أفضل مستويات الروح المعنوية ليهودهم(4).



5- حفني يدرس شخصية الإشكينازي:

تناول قدري حفني موضوعه من منطلق سيكولوجي معتمداً على الدراسات النفسية المنشورة حول التجمع الإسرائيلي الإشكينازي، ومعتمداً المحاور البحثية التالية:

1- الاضطرابات الطفلية.

2- القدرات العقلية.

3- الاضطرابات السلوكية.

4- العدوانية.

5- الانطوائية والتمركز حول الذات.

6- التشاؤم والتشكك.

7- انعدام الانفعال.

هذا وتكاد البحوث تتفق على عدم وجود فوارق ذات دلالة لدى أفراد هذا التجمع في معظم هذه المحاور، إذ يتركز الاختلاف حول المحاور السلبية وحدها وهي: العدوان، والانطواء، والشك، والتمركز حول الذات، والتشاؤم، والتشكك، والانفعال، وهذه الصفات السلبية يمكنها أن تفسر اضطراب الشخصية الإشكينازية وفشلها في الانفتاح حتى على بقية اليهود الإسرائيليين.

إن الجهد الذي بذله البروفسور حفني في هذه الدراسة ساهم في إثارة الإشكالية، وأذكى شجاعة مواجهة حقيقة الجماعات التي تعادينا، وهو أسّس بذلك لقائمة من الدراسات الهامة في المجال.



6- تحليل الشخصية اليهودية:

لو راجعنا توضيحات فرويد وإشاراته الصريحة للبارانويا اليهودية منذ ادعاء كون اليهود الشعب المختار للإله لوجدنا أن اليهود لم يكونوا بحاجة إلى النازي كي يتحولوا إلى البارانويا (جنون العظمة)، وعليه فإن الأسر النازي لم يفعل سوى إيقاظ البارانويا اليهودية الكامنة والمكبوتة في ذل الشتات اليهودي، والمقنعة بمظاهر الخنوع، ومع أننا لا ننكر آلية التوحد بالمعتدي التي ركز عليها أستاذ الأساتذة العرب - مصطفى زيور - إلا أننا نريد التذكير بأن تكرار المذابح اليهودية عبر التاريخ لم يكن من قبيل الصدفة، وهذا يردنا إلى مقولة المحلل النفسي اليهودي روهايم: \"ينبغي أن يكون للطابع القومي كينونة ثابتة عبر الأجيال، ترتكز على تكرار نفس الموقف الطفلي\"، حيث يمكننا اعتبار تكرار المذابح اليهودية مرتبطاً بهذا الموقف الطفلي.

وهو الموقف المعتاد لمريض البارانويا حيث يجيد البدء من موقف الخنوع، ثم يعمد إلى تعزيز موقعه تدريجياً حتى يصل إلى الموقع الذي يتلاءم مع تصوره المرضي، واجتياز هذه المراحل لا يمكنه أن يتم بدون تسخير كل أساليب الخداع الممكنة، لكن اليهودي يصر على الاستمرار في هذا الموقع المغتصب، وهو يملك إيمان مرضى البارانويا بأن هذا الموقع هو حق من حقوقه، فلا يتراجع عنه، لأن البارانويا تمنعه من مراجعة أساليبه الخاطئة بصورة موضوعية، ومن هنا إصراره على الموقع، وعدم ملكيته لمرونة التراجع عند الحاجة، فينتهي الأمر بذبحه، وسنعرض بالتفصيل للنمط السلوكي اليهودي المفسر لتكرار المذابح اليهودية عبر التاريخ في الفصول اللاحقة(5).

غاية القول: أن التوحد بالنازي ليس سوى حلقة من حلقات البارانويا اليهودية، وبذلك يشهد التاريخ اليهودي، وعليه فإني اسمح لنفسي بمعارضة زيور في نقطة ثانية من تحليله فهو يقول ما نصه: \"… لست أزعم أن الإسرائيليين هم طغمة من مرضى النفس، إن مثل هذا القول تنبو عنه الأمانة العلمية، ويعتبر انزلاقاً وراء التحقيق الوهمي للرغبات…\".

من جهتنا فإننا نتبنى هذا الزعم لأنه حقيقة نربأ بها عن أن تكون تحقيقاً وهمياً للرغبات، ولهذه الحقيقة أسانيدها التي لا تقبل الدحض، لذلك آثرنا عرض بعضها قبل أن نعرض لتحليلنا الشخصي للذات اليهودية.

ومن هذه الأسانيد نذكر التالية:

أ- تشير دراسة الباحث اليهودي (هالفي) التي يذكرها زيور إلى ارتفاع نسب الإصابة بالشيزوفرانيا (الفصام) بين اليهود وسكان الكيبوتزات منهم بشكل خاص، وإن كنا لا نؤمن بأن لمكان السكن علاقة بهذا المرض.

ب- تشير دراسة الباحث \"كينيون\"(6) إلى أن اليهود هم الأكثر عرضة للإصابة بهاجس المرض (الهايبوكوندريا الذي يستند إلى اضطراب شخصية من نوع البارانويا).

ج- إن المراجعة التاريخية للمذابح اليهودية تبين أن الجمهور المتأذي من اليهود هو الذي يشجع على المذبحة، بل إنه غالباً ما ينفذها بيده على غرار ما سمي ب\" ليلة الكريستال\".

د- إن انغلاق اليهود في حاراتهم على مدى العصور هو عنصر تشخيصي من الدرجة الأولى لتصنيفهم في خانة البارانويا(7).

ه- إن قدرة اليهودي على خيانة البلد الذي يحتضنه ويعطيه جنسيته ومواطنيته لصالح إسرائيل لهي دليل على فقدان اليهودي للحس الاجتماعي والأخلاقي(8).

و- إن رغبة اليهودي في الخلاص من الحماية الخانقة للغيتو هو الذي دفع ويدفع بعشرات الملايين من اليهود للذوبان في المجتمعات الأخرى، فبدون هذه الرغبة بالخلاص لكان عدد اليهود المعاصرين عشرات أضعاف عددهم الراهن(9).

ز- إن احتقار الأغيار (الشعوب غير اليهودية) هو من التعاليم التلمودية الأساسية غير القابلة للنكران أو التمويه(10).

ح- إن المبدأ الأساسي للعلاج السلوكي - المعرفي يركز على الأزمات التي يتعرض لها الشخص تكراراً لاعتباره أن لهذا التكرار سبب ما كامن في الشخص نفسه، وليس في الآخرين، فهل نطبق هذا المبدأ على الشخصية اليهودية؟(11).

ونكتفي بهذا القدر من الأسانيد لننتقل إلى عرض تحليلنا لنمط التربية اليهودية من وجهة تحليلية:



7- نمط التربية اليهودية وتحليله(12):

يعيش الطفل اليهودي أجواء أسرية مليئة بالأساطير والبطولات، والتراث المتعالي على الآخر، لكنه عندما يخرج من الأجواء السامية يجد نفسه محتقراً على عكس إيحاءات التفوق التي أمده بها الغيتو، وهذا التناقض يولد نوعاً من التمرد النرجسي الذي يدفع بالطفل - لاحقاً البالغ - اليهودي إلى خوض المنافسات العنيفة إثباتاً لذاته، وانتصاراً لإيحاءات تربيته.

في هذه المنافسات (الصراعات) ينظر اليهودي إلى اليهود الآخرين بوصفهم شركاء في المعاناة، وتمكن ملاحظة هذه القدرة التنافسية لدى أطفال اليهود من خلال المنافسة الدراسية، التي تتحول إلى ميدان للصراع، ولإثبات الذات لدى الأطفال اليهود، وذلك بحيث تحولت المدارس اليهودية - الإليانس مثلاً والجامعات - مثلاً هارفارد إلى رمز للتفوق الدراسي.

ولو نحن قرأنا هذه المنافسة على ضوء التحليل النفسي لتبين لنا أن الطفل اليهودي الذليل في المجتمع يحاول الدفاع عن \"هوية الأنا\" لديه، وهو لا يجد ولا يقبل وفق تربيته دفاعاً محايداً عن هذه الهوية، لذلك فهو ينخرط في هجوم عدواني مقنع (مستتر) على المجتمع الذي يحتقره، واستناداً إلى التراث اليهودي (الذي ربي الطفل على أساسه) فإن أقصر السبل وأهونها هو جمع قدر أكبر من المال، إذ أن للمال سلطة موازية تمكن صاحبه من اختراق سلطة المجتمع، أما بالنسبة للطفل فإن العلامات الدراسية هي بديل المال، وهي المساعدة له للحصول على الاعتراف، وبالتالي للتمرد على الاحتقار، وسواء تعلق الأمر بالمال أو ببدائله الرمزية فإن اليهود يسلكون سلوك جمع المال بغض النظر عن أسلوب هذا الجمع وعن أخلاقية هذا الأسلوب، تدعمهم في ذلك أسطورة دينية تقول بأن كل أموال الأرض هي ملك لليهود، فإذا ما خرج بعض اليهود على قاعدة تجميع الأموال فهم يفعلون ذلك لتحقيق سيطرة وسلطة بديلة عن سلطة المال، على هذا الأساس يمكننا الاستنتاج بأن محركات الطموح اليهودي هي محركات عصابية واضحة، وهذا ما تمكن ملاحظته عند فرويد ذاته.



8- الأساطير المحددة لشخصية اليهودي:

يمثل الإيمان اليهودي عنصر الارتباط الوحيد بين اليهود المعاصرين، وذلك بغض النظر عما إذا كان هذا الإيمان يقتصر على التبرع لإسرائيل (بوصفها تجمع شعب الله المختار)، أم كان يصل إلى حدود التمسك المتشدد بتعاليم التلمود، فإذا كان البعض لا يستسيغ مصطلح الإيمان بحجة وجود ملحدين يهودº فلا بأس من استخدام مصطلح التراث اليهودي كبديل.

حيث نجد غلاة المتشددين يعترفون بفضل اليهود العلمانيين والملحدين في دعم إسرائيل خلال أزمتها في حرب يوم الغفران، وأقله نجد قبولهم تهويد كل من ولد لأم يهودية مهما يكن ماضيه وممارساته السابقة، وإذا كنا نتناول الموضوع من وجهة تحليلية فإن علينا ألا نهمل مسألة الموت وهو منبع القلق الأساسي للإنسانية، ولا شك بأن الاعتقاد بالانتماء إلى الشعب المختار من قبل الرب يعطي شعوراً بالأمان تجاه قلق الموت، وذلك بغض النظر عن مستوى وعي الشخص لمثل هذا الشعور، وعليه فإن التعاليم اليهودية هي المحدد الرئيسي للأطر العامة للشخصية اليهودية، خصوصاً وأن اليهودية هي ديانة تحدد بدقة أطر الحياة اليومية لمعتنقها، وتضع القواعد الصارمة للسلوك اليومي للمؤمن.

ولنبدأ بمقطع من سفر الخروج (التوراة) وفيه: \"وعندما ترحل لن تكون فارغ اليدين* بل إن كل امرأة سوف تقترض من جارتها* ومن تلك التي تقيم في بيتها جواهر من الفضة وجواهر من الذهب وأثواباً* وسوف تضعها على أجساد أبنائك وبناتك* ولسوف تسلب المصريين*\"(سفر الخروج22:403 ).

وهذا المقطع يعكس سمة من السمات الرئيسية للشخصية اليهودية حيث تبرز نزعة التخصيص بحيث يكون اليهودي مسؤولاً أمام الإله عن الأذى الذي يلحقه باليهود الآخرين، لكن بإمكانه أن يغش أو يسرق، أو حتى يقتل غير اليهود دون أن يكون مسؤولاً أمام الرب، ودون أن يعتبر ذلك انتهاكاً لتعاليم الدين، وتترجم إسرائيل ذلك عملياً بتأمينها اللجوء والحماية لليهود الفارين من وجه العدالة في الدول الأخرى بما فيها الولايات المتحدة نفسها.

لكن النزعة اليهودية التخصيصية تتبدى بوضوح أكبر في التلمود الذي كتبه أحبار اليهود ليجعلوه دستور الحياة اليومية لليهود، ففي التلمود نجد النزعة المادية النفعية أكثر بروزاً ووضوحاً، ومنه نقتطف مثلاً:

يكرم الفقير لمهارته، والغني لثروته، الذهب والفضة يمكنان القدم من الثبات، الثروة والقوة يفرحان القلب، الموت أفضل من التسول، سبع صفات تلائم الأخيار ومنها الثروة، حين يقوم الإنسان بالصلاة عليه أن يتوجه في صلاته لصاحب الثروة والممتلكات لأنهما لا يتأتيا من العمل وإنما من الفضيلة، إن الخيرين يحبون أموالهم أكثر من أجسادهم، في وقت الشدة يتعلم الإنسان قيمة الثروة.

واستناداً إلى التوراة يقول نوبسنر: (أستاذ اللاهوت اليهودي في جامعة بارد الأميركية): بأن المملكة التي تهم اليهودي ليست قائمة في السماء، ولكنها تلك التي نتواجد فيها الآن، والتي تتطلب حفظ الحياة، وتقديسها، وتقديس حياة البيت والعائلة، إنها الحياة القائمة في الحاضر، إنها إلهنا، والآن في حياة الجماعة والمجتمع، لذلك فإن اليهود لم يكونوا يوماً قديسين جائعين، أو متقشفين لا يغتسلون، إنهم يقبلون على طيبات الحياة بحماس.

من جهته يعتبر ماكس فيبر أن موقف اليهود من فكرة العالم الآخر هو الذي حولهم للإقبال على عالم المال والأعمال، وصرفهم عن ركوب موجات الزهد، مما حولهم إلى أقلية متخصصة في التجارة والربا والصيرفة (ثم لاحقاً في البورصات).

وهذا النمط الفكري الحياتي أعطى لليهود خصوصية تأسست عليها طبقة اجتماعية وظيفية منسجمة مع وعي اليهودي لخصوصيته الدينية، وهذا ما جعل اليهود المعاصرين أعصياء على الذوبان في المجتمعات التي عاشوا فيها، ويرى العديد من الباحثين أن التعاليم اليهودية التي تمنع امتلاك الأرض، والعمل في الزراعةº قد لعبت دورها في منع الانصهار اليهودي.

ونعود إلى نوبسنر الذي يقدم تفسيراً لسؤال محير يتعلق بالموقف اليهودي من مفهوم الدين إذ يقول:… إننا نعلم من التاريخ اليهودي بأنه عندما يتضارب الدين مع المصالح الاقتصادية فإن الغلبة تكون للمصالح وليس للدين، وهذا يقودنا لاكتشاف الدور الوظيفي للغيتو إذ أنه كان ضرورة للمحافظة على هذه الطبقة التي شكلها اليهود بتقديمهم المادي على الحسي، وبعدم استعدادهم للمخاطرة بمصالحهم أياً كانت الأسباب والظروف، حتى يمكن التأكيد على استحالة استمرارية اللاوعي اليهودي الجمعي بدون الغيتو، فإليه يرجع الفضل في حماية اليهود من تأثير العناصر الثقافية الخاصة بمجتمعات شتاتهم، وهذا ما يفسر إصرار إسرائيل على الاعتزال، وإصرار مجموعاتها على حاراتها الخاصة، كما أنه يفسر خوف اليهودي العادي من السلام، ومن الذوبان في المحيط.

نهاية هل يمكن للتحليل النفسي أن يقدم لنا تفسيراً موجزاً لشخصية هذه ملامحها؟ وهل تبقى مقولة روهايم حول تكرار الموقف الطفولي ذات قيمة ودلالة؟

جوابنا هو: نعم، وباختصار فإن اليهودي يجد \"هوية الأنا\" داخل الغيتو ويفقدها خارجه، فيلجأ للتمرد النرجسي العدواني لمغالبة قلقة من تفكك \"هوية الأنا\"، وذلك بحيث يصبح كل ما هو خارج الغيتو (وبالتالي كل ما هو غير يهودي) موضوعاً سيئاً ومهدداً.

ومحاربة اليهودي للمواضيع السيئة غير محدودة بأية حدود، فمسؤوليته أمام الإله تقتصر على الأذى الذي يلحقه باليهود، وبالتالي فإن هذه المسؤولية لا تمتد إلى المواضيع السيئة كونها غير يهودية، كما أن جواز تقديم المصلحة على الدين يجعلنا نفهم استمرار قبول الملحدين، والمتحولين إلى أديان أخرى من اليهود.

وهذا ما يبرز من جديد \"نعمة الولادة اليهودية\"، ويجعلها القدسية شبه الوحيدة في الديانة اليهودية، أما عن السلوك السياسي للشخصية اليهودية، وانعكاس هذه السمات على السياسة الإسرائيلية فنؤجله إلى الفصول التالية.



هوامش ومراجع:

1- سيغموند فرويد: الطوطم والمحرم صدر بالألمانية عام 1913م، وترجمته منشرورات بايو إلى الفرنسية عام 1965م، وله عدة ترجمات عربية منها دار الطليعة العام 1983م.

2- سيغموند فرويد: موسى والتوحيد تم نشره بالألمانية عام 1939م، ثم ترجم إلى عدة لغات ومنها العربي بطبعات مختلفة، ومنها طبعة دار الطليعة.

3- Roheim G: Psychoanalysis and Anthropology, International University press, N Y, 1950

4- بناء على هذه الهشاشة، وعدم القدرة على تحمل الإحباطاتº تقوم إسرائيل باعتداءات دورية غير ذات هدف محدد سوى دعم مشاعر القدرة على العدوان وإثباتها.

5- انظر فصل سيكولوجية الخداع اليهودي على سبيل المثال.

6- مجموعة من الباحثين: بسيكولوجية الهيستيريا، والوساوس المرضية، دار النهضة العربية - بيروت 1990م.

7- سيغموند فرويد: حالة الرئيس شريبر.

8- تندرج في هذا الإطار سلسلة طويلة من العمليات التجسسية التي قام بها يهود أميركيون لصالح إسرائيل، وبعضها كان شديد الوطأة على الولايات المتحدة.

9- عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، القاهرة، 199.

10- سنورد لاحقاً في هذا الفصل والفصول التالية بعضاً من المقاطع التلمودية التي تشير إلى هذا الاحتقار.

11- يعتمد هذا المبدأ في كافة مذاهب العلاج المعرفي.

12- تمكن مراجعة مبادئ التربية في الغيتو اليهودي (بغض النظر عن البلد)، والمنطلقات التلمودية المحددة لهذه التربية الهادفة إلى ترسيخ بارانويا الاضطهاد، ومشاعر العظمة المرضية.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply