بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع/ توقيع معاهدة \'آمد كرمان\' كنجاح للثورة اليونانية في تمزيق الدولة العثمانية
الأحداث/ من ضمن أهم الأسلحة التي يستخدمها أعداء الإسلام في حربهم المقدسة ضد الأمة الإسلامية دعواهم الباطلة أن المسلمين يضطهدون غير المسلمين في بلادهم المسلمة، وأن حقوق الأقليات ضائعة في بلاد المسلمين، وأن المسلمين يهدرون حق \'الآخر\' ويستخدمون هذا السلاح كورقة ضغط على الحكومات للحصول على تنازلات وتراجعات من الأمة المسلمة، والعجيب أن الناظر لأحوال هؤلاء الأقليات أو ما يسمى بالآخر يجده لا يشعر أبدًا أنه مواطن في بلده الذي ينتمي إليه وولد فيه بل دائمًا يطبق عقيدة الولاء والبراء، فيشعر بالغربة في بلده ويربط نفسه مع بني دينه مهما نائت بهم الديار، بل إن الآخر هذا لا يتردد مطلقًا في خيانة وطنه من أجل خدمة دينه ووحدة صليبه، والتاريخ مليء بأمثال تلك الوقائع والأحداث التي تبرهن على موقف الآخر من قضية المواطنة والولاء والبراء.
المسألة الشرقية:
لما وصلت الدولة العثمانية لمرحلة الضعف ودخلت طور الاندحار والانحطاط أحاطت بتلك الدولة العتيقة عدة متغيرات أثرت فيها وسرعت وتيرة سقوطها هذه المتغيرات وهي:
1] النهضة العلمية والصناعية التي قامت بالقارة الأوروبية وساهمت في رقيها وتقدمها.
2] حالة الجمود العلمي والتخلف الحضاري الذي أصاب الدولة العثمانية وجعلها لا تواكب مسيرة التقدم وتتخلف عن عدوتها التقليدية أوروبا.
3] اتفاق الدول النصرانية الأوروبية كلها رغم خلافاتها الداخلية على العمل ضد الدولة العثمانية والتفاهم على تمزيقها وتقسيمها، وهو ما عرف في كتب التاريخ لتلك الحقبة بالمسألة الشرقية.
هذه المتغيرات في الخارج والداخل أفرزت حالة من الهزيمة النفسية والانبهار بأوروبا عند الطبقة المثقفة في الدولة العثمانية، وأصبح تقليد الأوروبيين هدفًا لكثير منهم في العادات والتصرفات مع تشجيع من الأفعى اليهودية التي كانت تتحرك تحت ثياب الدولة العثمانية خاصة يهود الدونمة الذين ذابوا وسط المجتمع المسلم ظاهرًا وبقوا على كفرهم وحقدهم على المسلمين باطنًا وقد تبوءوا أرفع المناصب في الدولة وولاؤهم وعملهم لبني دينهم وللإسهام في تمزيق الدولة العثمانية.
الخطأ العثماني:
كان من أهم الأسباب التي أدت لضعف الدولة العثمانية وترهل جسدها الكبير الذي كان ينبغي أن يكون هو في ذاته مصدر قوة وهو الخلل والانحراف الذي وقع في مفهوم الجهاد في سبيل الله، وهي أصل الفكرة التي قامت عليها الدولة العثمانية وبدأت قوية وفتية بسبب تبنيها للجهاد في سبيل الله، والخطأ الذي وقع فيه العثمانيون هو تركهم لأهالي البلاد المفتوحة على ما هم فيه من عقائد ولغات وعادات وضلالات والاكتفاء بأخذ الجزية والخراج ولم ينشطوا لنشر الإسلام بين أهالي البلاد المفتوحة ولم يهتموا بشأن الدعوة الإسلامية في تلك الربوع ولم يفتحوا مدارس لنشر اللغة العربية هناك.
هذا الخطأ العثماني جعل أهالي البلاد المفتوحة على علاقة وثيقة ببني جلدتهم ودينهم وعقيدتهم في أوروبا وجعل رابطة العقيدة والولاء مع باقي نصارى أوروبا أشد من سابقه وزاد الطين بلة سماح العثمانيين لأبناء تلك البلاد للذهاب والخروج لباقي بلدان أوروبا للتعليم والتلقي مما زاد من حالة البعد والشقاق بين هذه البلاد والدولة العثمانية الأم وكان أوضح مثال على هذا الخطأ العثماني بلاد اليونان.
اليونان على طريق الثورة:
عرفت بلاد اليونان بحضارات قديمة من أكبر الحضارات وأعمقها أثرًا في العالم القديم وعرفت حضارتها بالحضارة الإغريقية أو الهيلنية واشتهرت بالفلاسفة الكبار أمثال أرسطو وأفلاطون وفيثاغورث، وكانت بلاد اليونان معروفة عند المسلمين الأتراك ببلاد المورة أو شبه جزيرة المورة، وقد فتحها السلطان محمد الفاتح سنة 863هـ ومن يومها أصبحت اليونان إمارة عثمانية ولكن أهلها لم يكفوا عن الثورة مرة بعد مرة ولكن في كل مرة كانت تبوء الثورة بالفشل.
بدأت أعراض الثورة تظهر على الشعب اليوناني مرة أخرى من جديد بعدما خرج أبناء البلاد للدراسة بأوروبا وعادوا محملين بالشحن المعنوي والدعم المادي من زعماء النصارى في أوروبا الذين كانوا حريصين على تمزيق الدولة العثمانية وإعادة تكوين الإمبراطورية البيزنطية القديمة التي أزالها السلطان محمد الفاتح يوم أن فتح القسطنطينية سنة 857هـ.
بدأت أولى خطوات الثورة بتكوين جمعيات سرية على شكل شبكة كبيرة ممتدة داخل بلاد اليونان وخارجها وذلك كله تحت إشراف البطريركية الأرثوذكسية الرومية باستانبول ويقود هذا التنظيم السري البطريرك \'جريجوريوس\' صاحب الرسالة الشهيرة في كيفية هدم الدولة العثمانية والتي وجهها لبطرس الثاني قيصر روسيا ألد أعداء العثمانيين وكان هذا البطريرك معينًا من قبل الدولة العثمانية وله أملاك وأموال كثيرة ونفوذ كبير بسبب هذا التعيين من قبل العثمانيين وهكذا حال أعداء الدين يقابلون الإحسان بالإساءة والإنعام بالنكران.
اندلاع الثورة:
هكذا بدأت الثورة تجهز الشعب اليوناني للعصيان، وكانت أول شرارة للثورة عندما قام \'جرمانوس\' أسقف \'باتراس\' ورئيس تنظيم الجمعية السرية في المورة بحمل علم عليه صورة مريم العذراء بزعمهم وأخذ يصيح \'يا أيتها الأمة اليونانية هيا أفيقي واقتلي الأتراك\' فاندلعت الثورة الشاملة سنة 1821م يقودها رجال الكنيسة والقساوسة.
كان الثوار قد حددوا ليلة عيد الفصح للهجوم على الحاميات العثمانية فوصلت الأخبار للعثمانيين فانسحبوا سريعًا من قلاعهم وحصونهم قبل انقضاض الثائرين عليهم، وخلال ثلاثة أسابيع استطاع الثائرون السيطرة على بلاد المورة كلها وكان القساوسة قد حولوا الكنائس والأديرة لمخازن للمدافع والذخيرة وملاجئ للثائرين، وكون القساوسة شبكة اتصال قوية مع روسيا، وأرسل المطران \'باليا بادرا\' برسالة لقيصر روسيا يقول فيه: \'من أجل التخلص من الأتراك تمامًا يجب أن تقوم روسيا بمساعدة الشعب المتمرد\'.
إعدام الخائن:
قلنا من قبل أن البطريرك \'جريجوريوس\' كان هو المحرك الأول للثورة والمدبر لها، وكان صاحب عقلية ذكية ونفس مملؤة بالثورة، وقد حامت عليه شبهات كثيرة بخصوص قيادته للثورة مما دفعه لأن يصدر مرسومًا ضد الثائرين سماه \'بيان الحرمان\' ليدفع عن نفسه الشكوك والتهم باشتراكه في الثورة.
استطاعت المخابرات العثمانية أن تأتي بمعلومات مؤكدة بأن \'جريجوريوس\' هو الذي قد وضع خطة الثورة وقادها بنفسه وقد اندهش الخليفة \'محمود الثاني\' المشهور بتسامحه مع النصارى عندما عرف الخبر وأصدر أوامره بتفتيش مقر البطريرك، وتمت المداهمة بمنتهى الدقة والإحكام وعثرت الدولة على وثائق خطيرة تكشف أبعاد الثورة وقادتها وتحركاتها وكافة ترتيباتها والمراسلات الخارجية مع دول أوروبا خاصة إنجلترا وفرنسا وروسيا.
لم يستطع البطريرك أن ينكر شيئًا مما نسب إليه، واعترف بقيادة الثورة وأصدر السلطان \'محمود الثاني\' قراراً بعزل البطريرك من منصبه ثم إعدامه، وقد نفذ حكم الإعدام يوم عيد الفصح عند الروم الأرثوذكس، وتم تعيين \'أويانيوس\' بطريرك مكانه، وتتبعت الدولة العثمانية قادة التمرد فأعدمت بعضهم وأمنت البعض الآخر، وأصبح البطريرك الجديد واسطة بين المتمردين والحكومة العثمانية وعفت الحكومة عن كثير من الثائرين وعاملتهم بالحسنى لعل ذلك يهدئ الثورة، ولكن لم تفلح هذه الإجراءات السلمية في التعامل مع ثائرين لبغضهم وحقدهم، فقد استمرت الثورة مشتعلة وذلك بتحريض من إنجلترا وفرنسا وذلك لحاجة في نفوسهم يخططون لها ويدبرون.
مؤامرة الصليب:
لم يكن لأوروبا الصليبية هدف من إذكاء ثورة اليونان إلا تمزيق جسد الدولة العثمانية والحصول على أكبر قدر من المكاسب لصالح أوروبا على حساب المسلمين، وكان والي مصر محمد علي هو مخلب القط الذي استخدمته أوروبا في طعن الإسلام والخلافة العثمانية وقد أدى دوره على الوجه الأكمل بالديار المصرية وبالحجاز عندما قمع الحركة السلفية لصالح أوروبا الصليبية، ولكنه قد شب عن الطوق واستفحلت قوته وراودته نفسه أن يعمل دون إذن أسياده الأوروبيين فقرروا تقليم أظافره وإضعافه ليعود مرة أخرى رهن الإشارة وتحت الطلب.
أوصت إنجلترا وفرنسا الخليفة \'محمود الثاني\' أن يعهد لمحمد علي والجيوش المصرية بإخماد ثورة اليونان، وخدعت إنجلترا صنيعتها محمد علي وأوهمته بأنه سيكون أكبر زعيم في المنطقة ويستطيع أن يحقق طموحاته لأن يكون هو خليفة المسلمين وسلطانهم، وتم نسج خيوط المؤامرة الصليبية بمنتهى المكر والخداع وراجت على الخليفة والوالي.
عهد محمد علي لابنه الأكبر وقائد جيوشه الأسد الضاري \'إبراهيم\' بقيادة الحرب على اليونان وتوجهت الأساطيل الحربية إلى اليونان سنة 1823م فاستولت على نافرين سنة 1824م، ثم دخلت أثينا سنة 1825م ـ 1240هـ، ونجحت الجيوش المصرية العثمانية المشتركة في قمع الثورة وإخمادها تمامًا باليونان وهنا أظهرت أوروبا حقدها الصليبي وأعلنت حمايتها لليونان وأعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية وشعر الخليفة العثماني \'محمود الثاني\' بحراجة الموقف فوافق على معاهدة \'آمد كرمان\'.
أجبرت الدولة العثمانية على توقيع هذه المعاهدة في 28 صفر سنة 1242هـ مع روسيا الصليبية، وكان من أهم بنود هذه المعاهدة السماح لروسيا بالملاحة في البحر الأسود ومرور سفنها من المضائق العثمانية دون تفتيش وإعطاء امتيازات جديدة وبنود أخرى، والعجيب أن المعاهدة قد عقدت في الأساس بسبب التمرد اليوناني الصليبي إلا أنها لم تذكر شيئًا عن اليونان ولا أهلهاº لأن الهدف الأساسي هو إضعاف الدولة العثمانية وتمزيقها، وأما مسألة اليونان فسوف تحسمها معركة نادرين كما سنعرف إن شاء الله.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد