بسم الله الرحمن الرحيم
العصرانية هي أي وجهة نظر في الدين، مبنية على الاعتقاد بأن التقدم العلمي والثقافة المعاصرة، يستلزمان إعادة تأويل التعاليم الدينية التقليدية على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية السائدة(1).
فالعصرانيون اعتمدوا منهج التفكير الفلسفي العقلي، وكانت القيمة الأساسية فيه للعقل كمصدر للمعرفة.
ويعتمد المذهب العقلي على تفسير كل شيء في الوجود من خلال العقل... ويتعامل أصحاب هذا المنهج مع النصوص الشرعية عن طريق التأويل وفقاً لمعطيات العقول، مع تقديم العقل على النقل.
أما المدرسة العصرانية ذات النزعة المادية:
فقد أضاف روادها إلى الانحرافات السابقة انحرافات جديدة، إذ اعتمدوا منهج التفكير المادي (الوضعي)، الذي ينظر إلى العالم الخارجي، باعتباره يمثل الحقيقة الكبرى الكاملة، وأن هذه الحقيقة الموضوعية، ذات وجود مستقل عن الإنسان.
وفي المنهج المادي: يكون التعامل مع النصوص الشرعية بإلغاء دلالتها، والحصول على المعرفة من مصادر وضعية، مثل: التاريخ والسير في الأرض، لمعرفة: كيف بدأ الخلق؟! والاعتماد على سنن الأنفس والآفاق، وقوانين الطبيعة والاجتماع، وقد تبنى أصحاب هذه المدرسة آراء المعتزلة والقدرية في القول بالمشيئة، وتبنوا نظرية داروين والمذهب الوضعي للفيلسوف (كانت)، كما أنهم أظهروا إعجابهم بالنتائج التي توصلت إليها الماركسية.
يقول الشيخ جودت سعيد: \"الوجود الخارجي - أي المادي - هو الحقيقة الثابتة، التي نرجع إليها عند الاختلاف والصور الذهنية قابلة للنقصان\"(2).
ويقول الطبيب خالص جلبي: \"الواقع الخارجي والسير في الأرض هو الأساس، وليس السير في الكتاب والسنة؟! وإن الاستغناء بالكتاب عن الواقع هو الذي قاد العالم الإسلامي إلى كارثة مروعة\"(3).
بينما يقول - سبحانه وتعالى- في كتابه العزيز: فلا وربك لا يؤمنون حتى\" يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65) {النساء: 65}.
ويعتبر (جودت سعيد) من أبرز دعاة المذهب المادي المعاصر، فهو يدعو إليه منذ أكثر من ثلاثين سنة، من خلال الخطاب الإسلامي، في كتبه ومقالاته وندواته.
وسار على هذا الطريق الطبيب (خالص جلبي) تلميذه وزوج أخته، وتكاد تكون آراؤه رجع الصدى، لآراء شيخه جودت.
وسوف نتحدث عن أبرز منطلقات هذا التيار في هذه المقالة وما يتبعها إن شاء الله - تعالى -، في حلقة ثانية.
إيمانهم بنظرية داروين:
وهي نظرية خطيرة، تناقض العلم الصحيح، وتتنكر للأديان السماوية، فهي تعتمد على \"أن أصل الحياة خلية، كانت في مستنقع أو بحر، قبل ملايين السنين، ثم تطورت هذه الخلية، ومرت بمراحل عديدة منها: مرحلة القرد، الذي تطور ليكون منه هذا الإنسان\".
وهذه العملية كلها من فعل الطبيعة \"وأن الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق\".
\"وقد وجدت اليهودية في داروين فرصة سانحةº لتقويض عقائد (الأمميين)، وإزالة ما بقي من أثر للدين في حياة الناس\". \"فحين يكون الإنسان حيواناً، أو امتداداً لسلسلة التطور الحيواني، فأين مكان العقيدة في تركيبه؟ وأين مكان الأخلاق؟ وأين مكان التقاليد الفكرية والروحية والاجتماعية؟! \"(4).
وقد رفض العالم الإسلامي هذه النظريةº لأن داروين وضع تصوراً غريباً لنشوء الحياة، وقد رد عليها عدد من العلماء الغربيين، وعلماء الدارونية الحديثة \"كما أن العلم تبرأ من هذه النظرية، وأبطل الأساس الذي تقوم عليه، وقد جرى تعديل أفكار (داروين) مرات عديدة، تحت اسم (الدارونية الحديثة\"(5).
لكن المنهزمين والمبتدعة، يرفضون إلا التبعية الذليلة ومجانبة حقائق الشرع والعلم الصحيح.
وقد بذل (جودت سعيد وخالص جلبي) جهوداً مضنية في كتاباتهم لتقريب نظرية التطور هذه إلى المسلمين، تحت شعار العلمية الزائفة(6).
يقول الدكتور (خالص جلبي): \"لقد فتح داروين الطريق لمعرفة سر الحياة، وأصل الإنسان بشكل عام، وهذا بدوره شق الطريق إلى مجموعات جديدة من فضاءات المعرفة.. لقد تركت الدارونية بصماتها على الفكر الإنساني من خلال علم الاجتماع، على الشكل الذي طوره البريطاني (سبنسر)\"(7).
وعندما سئل (جلبي) عن مدى قناعته بنظرية داروين قال: \"أتعجب منكم، وأنا أتحدث لكم في علم (الأنثروبولوجيا) فمثلي ومثلكم كالأخرس الذي يريد أن ينقل عن آخر مهمة الكلام... ومثل طالب الحضانة الذي تقرأ على رأسه فيزياء الكم\"(8).
فجلبي يزعم أن المسلمين إلى اليوم، ليسوا في مستوى مناقشة مقولة داروين، مع نزعة الاستعلاء والتجهيل للآخرين.
وكان جودت سعيد - وما يزال - من أكبر المبشرين بنظرية دارون هذه.
فهو يستغرب من العالم الإسلامي رفضة لنظرية داروين ويعنف المسلمين الذين ترسخت في أذهانهم فكرة معينة لنشوء الخلق \"من خلال الوقوف عند حرفية النصوص المقدسة - كتاباً وسنة - وليس من خلال السير في الأرض، فأهملوا فكرة نشوء الخلق، ولم يلتفتوا إلى الآية الواضحة التي تحدد مصدر المعرفة: كيف بدأ الخلق من السير في الأرض\"(9).
قال - تعالى -: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق 20 {العنكبوت: 20}.
أصل الحياة البشرية: بين نصوص الشرع والنظرة المادية:
لمعرفة أصل الحياة البشرية يرى الشيخ جودت سعيد سؤال التاريخ والسير في الأرض، والتنقيب خلال الآثار والحفريات ويمثل هذا المنهج خروجاً على النصوص الشرعية، وتعطيلاً لآيات القرآن الكريم، التي تتحدث عن بدء الخلق، خلق الإنسان وخلق السموات والأرض.
ويخالف أصول التفسير لآيات القرآن لدى علمائنا الثقات، كما يخالف حقائق العلم الموضوعية بعيداً عن الهوى والتبعية.
فمن الحقائق المهمة أن آدم - عليه السلام - هو أول البشر وأن الله خلقه من طين. يقول جل من قائل: خلق الإنسان من صلصال كالفخار 14 وخلق الجان من مارج من نار 15 {الرحمن: 14، 15}.
وقال - سبحانه -: إن مثل عيسى\" عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون 59 {آل عمران: 59}.
وآدم - عليه السلام - كان نبياً يوحى إليه، فهل يعقل أن أبا البشر، أو أحد أبنائه وأحفاده المؤمنين بالله، كان يمشي عرياناً، كما يدعي أصحاب نظرية التطور؟!
يقول جودت سعيد: \"إن الكون قبل عشرة آلاف سنة، كان الإنسان يعيش في الكهف، كان يمشي على قدميه فقط، وقد بدأ خلقه ضعيفاً، تطارده الحيوانات ليتغذوا به، وهو يطاردها ليتغذى بها، وأن هذا الإنسان كان عرياناً... وأن آخر المخلوقات كان أرقاها، والآن استطاع أن يفهم، وصار مصيره في يده\"(10).
ويقول أيضاً: \"إن الآثار العظيمة التي كشفها الناس في أثيوبيا، تدل على الهيكل العظمي (لوسا) منذ ثلاثة ملايين أو أربعة ملايين سنة، لأن الحجر يتكلم بهذا، وبعلم لا ينكره أحد، فإذا بهذا العالم بدأ يأخذ معلوماته من واقعه، وكان الناس قبل ذلك يأخذون المعلومات بطريقة الوحي من السماء\"(11).
فالمصدر الذي تستقى منه المعلومات عن الإنسان الأول هو القرآن الكريم، فهو المصدر الحق الذي لا مرية فيه.
فآدم - عليه السلام -: \"نبي مكلم من الله - سبحانه وتعالى-\"(12) فكيف بهذا النبي يمشي عرياناً، وكذلك أبناؤه المؤمنون قال - تعالى -: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى\" ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون 26 {الأعراف: 26}.
وكيف يعتمد أتباع المذهب المادي على الحفريات والتقاط الآثار، لمعرفة بداية خلق الإنسان ونشأة الحياة؟
وقد خالف أتباع النزعة المادية علماء المسلمين في تفسير الآية الكريمة: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على\" كل شيء قدير 20 {العنكبوت: 20}.
قال القرطبي - رحمه الله -: \"أولم يروا كيف يبديء الله الثمار فتحيا ثم تفنى، ثم يعيدها أبداً، وكذلك سائر الحيوان، أي فإذا رأيتم قدرته على الإبداء والإيجاد، فهو القادر على الأعادة\" ثم يقول: \"قل لهم يا محمد، سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق على كثرتهم وتفاوت هيئاتهم، واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، انظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم، كيف أهلكهم لتعلموا بذلك كمال قدرته\"(13).
وقال الإمام محمد بن جرير الطبري - رحمه الله - تعالى -: \"يقول الله - تعالى - ذكره لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: قل يا محمد للمنكرين للبعث بعد الممات، الجاحدين الثواب والعقاب: (سيروا في الأرض، فانظروا كيف بدأ الله الأشياء، وكيف أنشأها وأحدثها، وكما أوجدها وأحدثها ابتداء فلم يتعذر عليه إحداثها مبدئاً فكذلك لا يتعذر عليه إنشاؤها معيداً...)\"(14).
فمن خلال أقوال العلماء السابقة يتبين لنا الملاحظات التالية:
1- أن المخاطبين بهذه الآيات هم الملحدون بآيات الله والمنكرون للبعث بعد الموت، والخطاب دعوة للتفكير بمخلوقات الله الدالة على قدرته والاعتبار بالعاقبة كقوله - تعالى -: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين 69 {النمل: 69}. والآيات في لفت النظر إلى هلاك الأمم الكافرة والمكذبين بآيات الله كثيرة. قال - تعالى -: قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين 137 {آل عمران: 137}.
وقال - تعالى -: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين 42 {الروم: 42}.
فالآيات الكريمة توجه أنظار الخلق ليعتبروا بما آلت إليه الأمم الكافرة بعد قوة ومنعة، ثم دمر الله عليهم ديارهم فما ترى إلا آثارهم. قال - تعالى -: أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى\" عنهم ما كانوا يكسبون 82 {غافر: 82}.
2- إن المخاطبين بالآية التي استشهد بها جودت سعيد من سورة العنكبوت، هم المعاصرون للنبي - صلى الله عليه وسلم -، هذا ولم يصلنا أن النبي ترك المدينة وصار يبحث في الوديان أو البحار منقباً عن الآثار، ولم يقم بذلك أحد من الصحابة - رضي الله عنهم -، وهم أعلم بمراد النبي - صلى الله عليه وسلم -، الذي كان يعلمهم كل جزء من أمور دينهم مهما كان صغيراً، كما أننا لم نسمع أن أحداً من علماء المسلمين، فسر هذه الآية بالمعنى الذي ابتدعه جودت سعيد، فهل نأخذ بقوله، أم بقول هؤلاء؟! \"(15).
وجودت سعيد قد لا يقف على الكتاب والسنة، انظر إلى قوله: \"إن دلالة الكتاب أي القرآن يمكن أن تلغى إلغاء تاماً وكأنها غير موجودة، والذي سينبه المسلمين إلى هذا، ما جاء في الكتاب من الاهتمام بالتاريخ وأحوال البشر، وحوادث التاريخ، أي أن الذي سيعلمنا ليس القرآن، وإنما نفس حوادث الكون والتاريخ، فهي التي ستعلمنا، والمثل على ذلك: قل سيروا في الأرض 69 {النمل: 69}\"(16).
تبني نظريات علم الاجتماع الوضعي:
وهي من مصادر المعرفة، التي استلهمها الشيخ جودت سعيد وتلاميذه، وقد ظهر هذا المصطلح خلال كتابات (أوجست كانت)، الذي ينسب إليه إنشاء علم الاجتماع الوضعي - المادي - في أوربا.
وهو عالم اجتماع وفيلسوف فرنسي، عاش ما بين (1798 و 1857)، ويعتبر مؤسس الفلسفة الوضعية.
وسوف نلاحظ مدى التطابق بين أفكار جودت سعيد، وأفكار (كانت).
(فكانت) يؤكد على فكرة (مراحل التاريخ)، أو مفهوم التغيير الاجتماعي.
ويقسم الحياة البشرية إلى مراحل محددة، وأطلق على المرحلة التي عاش فيها الأنبياء، مرحلة الطفولة، تشبيهاً لها بأوصاف الأطفال الذين لم يبلغوا مرحلة الشباب والرشد(17).
وقد تبنى جودت سعيد معظم هذه الآراء، واعتمد على فكرة مراحل التاريخ، في تقرير أفكاره، كما جاء في مقدمة كتابه: (حتى يغيروا ما بأنفسهم)(18).
فهو يدعو إلى الاحتكام إلى التاريخ، باعتباره يمثل مصدر (العلم والمعرفة).
ولم ينسب جودت هذه الأفكار لأصحابها من علماء الاجتماع الوضعيين في الغرب، وإنما طرحها وكأنها من اخترعه وابتداعه، بينما هو يستمدها من هؤلاء جاهزة مرتبة، لا يعنيه من ذلك إلا إضفاء الصبغة الإسلامية عليها، بإضافة بعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، وقد يختار أحياناً كلمات من التوراة والإنجيل، وأحياناً يعرض أفكار (زرادشت)، ويظهر أنه لا فرق عنده!!
وقد تأثر الشيخ (جودت) بهذه الأفكار تأثراً شديداً ولم يعد يعنيه إلا بث هذه الأفكار، بأي أسلوب كان(19).
يقول جودت سعيد: \"إن العقل يمكن أن يتخذ أحد موقفين إزاء المشاكل، إما أن يفرض فيها، أنها تخضع لقوانين، وإما أنها لا تخضع لقوانين، أولا يمكن كشف قوانينها\"(20).
وقد طرح (كانت) أفكاره الوضعية، بنفس الأسلوب الذي صار يعتمده (جودت سعيد)، وذلك في قوله: \"الطريقة الوضعية تقوم على الإيمان بأن الظواهر خاضعة لقوانين، والطريقة الدينية تقوم على الاعتقاد بأنها غير خاضعة لقوانين\".
ويختار جودت هذه الأفكار المنحرفة، وينقلها بأسلوب غامض، لتكون ملائمة لأوضاع التخلف العلمي في ديار المسلمين - كما يزعم -، ويدعي أن المسلمين لا يأخذون بالأسباب ولا البحث عن العلل التي تسير من خلالها الأشياء، وهذا الأمر إن وجد بين المسلمين، فهو يقوم عند بعض الطوائف التي لا تتبنى المنهج الإسلامي... \"(21).
وجودت سعيد، يعتبر أن المرحلة المادية الحالية، هي مرحلة الرشد والنضج، وكذلك تلميذه خالص جلبي، الذي يردد أقوال شيخه (جودت سعيد)، ويتابع أقوال قدوتهم (أوغست كانت).
يقول الجلبي: (بقي الإنسان لفترة طويلة يطارد الوحوش، والوحوش تطارده، يأكلها وتفترسه، يعيش على الصيد وجمع الثمار... ثم كانت الثورة الزراعية قبل عشرة آلاف سنة، وبدخول مرحلة المجتمع الزراعي واستئناس الحيوان، تحرر الإنسان دفعة واحدة من الموت جوعاً، فسيطر على إنتاج غذائه، وبها دخل الإنسان مرحلة المدينة، وإلى انبثاق تقسيم العمل والتخصص فيه، على ما أشار إليه عالم الاجتماع (دركايم) في كتابه: (تقسيم العمل)(22).
فالتطور بهذا الشكل، ينبع من نظريات علماء الاجتماع الغربيين ومن وحي نظرية دارون التي تناقض الأديان السماوية، وقد كفرت الكنيسة دارون ابتداء، وقالت عنه: إنه زنديق مارق من الدين، لأنه ينفي الخلق المباشر من الله للإنسان)(23).
ومن الملاحظ أن تقسيمات التاريخ عند أصحاب المدرسة الوضعية، هي تقسيمات جاهلية ظنية، تهمل تاريخ النبوات وأثرها على حياة البشرية، لأن النظر الشرعي، يقتضي تقسيم تاريخ البشرية بحسب موقفها من الرسل إلى قسمين:
1- المؤمنون: الذين استجابوا للرسل، وأفردوا الله بالعبادة وأخلصوا له التوحيد، وأقاموا حضارتهم على هذا المنهج. ولهؤلاء ولتاريخهم سمات وخصائص، يجب ملاحظتها، وأخذها بعين الاعتبار عند تقسيم العصور التاريخية.
2- الكفار: الذين كذبوا الرسل، وأشركوا مع الله غيره فهؤلاء أقاموا تاريخهم وحضارتهم على هذا المنهج الكفري، ويشترك تاريخهم في سمات وخصائص نابعة من منهجهم ونظرتهم للكون والحياة(24).
فالتاريخ الإسلامي يقول: \"إن توحيد الله هو الأصل في حياة البشر، والشرك طارئ عليهم، وتعرفنا على تاريخ آدم - عليه السلام - وذريته إلى عهد نوح - عليه السلام -، يبين لنا أن البشرية كانت على التوحيد، ولا تعرف الشرك أبداً، وأول ما ظهر الشرك كان في القوم الذين بعث إليهم نوح - عليه السلام -\"(25).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: \"كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين\"(26).
فمصادر المعرفة عند أتباع المدرسة المادية، تضاد مصادر المعرفة عند أهل السنة والجماعة، وتعتمد على فلاسفة وعلماء عرف عنهم الإلحاد حتى في ديارهم، كداروين وأوغست كانت، وماركس، ولينين وكذا الفرق المنحرفة في تاريخ المسلمين، كما سيأتي بيانه.
الإعجاب بما توصلت إليه الماركسية من نتائج:
يكاد المسلم لا تنقضي دهشته من موقف الشيخ جودت سعيد وأتباعه، من حيث الإعجاب بالماركسية، وما توصلت إليه، مع أن الإنسان العادي بات يعرف ما تدعو إليه الماركسية من كفر وإلحاد.
وها هي الماركسية قد تمزقت في ديارها وظهر عوارها في جميع الميادين السياسية الاقتصادية والاجتماعية.
فجودت سعيد وخالص جلبي، لا يخفيان الإعجاب بالمنهج المادي وخصائصه حتى اليوم.
يقول الشيخ جودت سعيد، عندما تعرض لتفسير آية: إن الله لا يغير ما بقوم حتى\" يغيروا ما بأنفسهم 11 {الرعد: 11}، \"والفكر الماركسي، لبه ومبتداه ومنتهاه في إدراك محتوى هذه الآية، حيث لمحوا قدرة الإنسان على صنع التاريخ، والقيام بعملية التغيير، فهذا الضجيج الذي أحدثه الفكر الماركسي خلال أكثر من مائة عام إنما كان في تبنيهم لهذه الفكرة وإدراكهم لها\"(26).
فالشيخ جودت يشهد هنا للكفر الماركسي بالأصالة، ويصفه بالقدرة والتماسك، وكأنه يشعر الناس بأن مصدر الفكر الماركسي، ينهل من كتاب الله - تعالى -.
والأغرب من كل ذلك أن جودت سعيد، ما زال يدعو الشباب المسلم إلى هذا الفكر، ليقوم بعملية التغيير انطلاقاً من المبدأ الماركسي، حيث يقول: \"وكذلك إذا تذكرنا أنه علينا أن لا نبخس الناس أشياءهم، وأن الحكمة لا تضر من أي وعاء خرجت، فإن الاعتراف بجانب الصواب في النظرية الماركسية، لا يضرنا شيئاً، ولكن إذا رفضنا جانب الصواب بسبب جانب الكفر الذي عندهم، لا نكون مصيبين\"(27).
فالشيخ جودت يقرر هنا، أن النظرية الماركسية، تحوي صواباً يجب على المسلمين أن يأخذوا به!!
وماذا في هذا المنهج المناقض للفطرة البشرية، وقد سقط غير مأسوف عليه؟!!
ومن الملاحظ أن أصحاب هذه المدرسة المادية يسايرون النظريات الشيوعية في أهم مبادئها المادية وهي: الديالكتيكية، والمادية التاريخية.
يقول ستالين في كتابه: (المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية): \"تقوم المادية الفلسفية على مبدأ آخر، هو أن المادة والطبيعة والكائن الحي، هي حقيقة موضوعية موجودة خارج الإدراك، أو الشعور، بصورة مستقلة عنه، وأن الفكر هو نتاج المادة\".
وها هو جودت سعيد يقرر هذا المفهوم المادي، كما أخذ به الماركسيون بالضبط، فهو يقول: \"الوجود الخارجي - أي المادي - هو الحقيقة الثابتة، التي نرجع إليها عند الاختلاف، والصور الذهنية قابلة للنقصان\"(28).
وقد مر معنا قول خالص جلبي مؤكداً هذا المعنى عندما يقول: \"إن فكرة: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق 20 {العنكبوت: 20}. تعني أن الأمر هنا هو السير في الأرض، حيث تتحول الأرض والواقع إلى شواهد كتاب ينطق بحقائق لا توجد إلا فيه، فالأمر هنا هو السير في الأرض، وليس السير في الكتاب (أي القرآن) أي قراءة الواقع وليس قراءة النصوص، والظن بأن الاستغناء بالكتاب عن الواقع، هو الذي قاد العالم الإسلامي إلى كارثة مروعة\"(29).
فالواقع الخارجي هو الأساس لدى أصحاب هذه المدرسة، وليس النصوص الشرعية من قرآن كريم أو سنة نبوية.
ويساير أصحاب النظرة المادية الماركسيين في المادية التاريخية، فقد تابعهم جودت سعيد خلال دراسة لتاريخ المجتمعات، ومن ثم فقد اهتم بالتاريخ وجعله مصدراً من مصادر المعرفة الأساسية، وأصبح يقدمه على دلالة آيات الكتاب، كما جاء في قوله: \".... إن الذي سيعلمنا ليس القرآن وإنما حوادث التاريخ، والكون، فهي التي ستعلمنا\"(30).
قوانين سير المجتمع: (31)
هنا يحاول جودت سعيد إبراز جوانب أخرى من النظرية الماركسية، باكتشافهم لقوانين سير المجتمع فيقول: \"وكذلك الأمر الآن في النظرية الماركسية، من إثبات سنن الاجتماع، فإذا اهتدوا إلى سنن وآيات في سير المجتمعات، فإن ذلك لا علاقة له بنفي الإيمان... فعلينا أن نتأمل السنن التي يستخدمونها في تسخير المجتمع لهدفهم الذي اتخذوه ونكون في هذه الحالة قد حصل لنا المناعة التي نحن في حاجة إليها\"(32).
وعموماً فإن الشيخ جودت سعيد، لا يخفي رأيه في موضوع علم الاجتماع الغربي، حيث يجعل مؤلفاته كلها مرتعاً خصباً لتلك الأفكار، وينطلق في ذلك من قدرة الإنسان على إحداث التغيير، ومعرفة سنن التغيير، وهو يعترف صراحة أن هذه السنن هي من اكتشاف الماركسيين والعالم الغربي بشكل عام، حيث يقول: \"أما الكشف العلمي بأن هذه السنن تخضع لسلطان الإنسان، بشكل من الأشكال، فقد تنبه إليه في العصر الحديث إنسان محور (واشنطن - موسكو)، قبل غيره\"(33).
لقد تناسى جودت سعيد مآسي الشيوعية في البلاد التي خضعت لمظالمها، ولعل الشيخ قد سمع من آبائه وأجداده ما عانوه من الماركسيين قبل هربهم من سطوة الإرهاب الشيوعي الأحمر.
وعموماً فقد حذر علماء المسلمين من اتباع مناهج أهل الضلال وطرقهم المظلة \"ذلك أن النظر في كتب الإلحاد والكفر، والفسق والفجور، مخالف لطريق أهل الاستقامة، حيث كانوا ينهون أشد النهي عن النظر فيها للقراءة المجردة، لما تحتويه من الشبهات والكفريات، والاستهزاء بالدين وأهله، فكل هذا لا يجوز النظر فيه إلا لعالم متمكن، بقصد الرد على باطلها، والتحذير منها\"(34).
فما بالك بمن تبنى تلك الآراء الضالة، مشيداً بأصحابها، ويسعى جاهداً لنقل ذلك الغثاء إلى ديار المسلمين؟! فللمنهج أهمية كبيرة في مجالات التربية وميادين التغيير، ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتشدد مع أصحابه في أمر التلقي في شأن العقيدة والمنهج، بقدر ما كان يفسح لهم في الرأي والتجربة في شؤون الحياة العملية.
دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب فيه مواعظ من التوراة، وقال: هذه كنت أصبتها مع رجل من أهل الكتاب. قال: \"فاعرضها علي، فعرضتها فتغير وجهه تغيراً شديداً، ثم قال: \"لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النبيين وأنتم حظي من الأمم\"(35).
ذلك أن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم تحمل ابتداء معنى الهزيمة الداخلية... كما تحمل الشك في كفاية نهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعداً في طريق النماء والارتقاء.. كما أن أهل الكتاب لا يحرصون على شيء حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها... \"(35).
ــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- ينظر تفصيل ذلك: العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب ص: (5-6)، الطبعة الثانية.
2- كتاب (اقرأ وربك الأكرم) للشيخ جودت سعيد، ص: (55).
3- جريدة الرياض العدد (10188) في 16-5-1996م.
4- مذاهب فكرية معاصرة: الأستاذ محمد قطب، ص: (96-98).
5-6- ينظر النزعة المادية في العالم الإسلامي: الأستاذ عادل التل، ص: (185، 219).
7- جريدة الرياض العدد: (10405) في 9-8-1417ه.
8- ملحق الرسالة في جريدة المدينة في مقابلة مع جلبي ابتداء في 28-8-1423ه.
9- كتاب اقرأ وربك الأكرم ص: (153-154) دار الفكر المعاصر-بيروت.
10- ندوة تلفزيونية في دمشقº بالاشتراك مع الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
11- ندوة السويداء في شريط مسجل، بصوت جودت سعيد خلال الندوة، نقلاً عن الأستاذ عادل التل في كتابه: (النزعة المادية)، ص: (214-215).
12- مشكاة المصابيح، حديث (5737)، رواه الإمام أحمد، وصححه الشيخ الألباني.
13- تفسير القرطبي، ج(13-336).
14- تفسير القرطبي، ج(20-138).
15- النزعة المادية في العالم الإسلامي-عادل التل، ص: (192-193) بتصرف يسير.
16-رسالة انظروا، رقم (40)، ص(8)، جودت سعيد.
17- ينظر: النزعة المادية في العالم الإسلامي: للأستاذ عادل التل، ص: (78-83).
18- حتى يغيروا ما بأنفسهم: جودت سعيد، دار الفكر المعاصر، بيروت- 1414ه.
19- النزعة المادية لعادل التل، ص: (81).
20- حتى يغيروا ما بأنفسهم، ص: (31).
21- النزعة المادية في العالم الإسلامي، ص: (82)، عادل التل.
22- جدلية القوة والفكر والتاريخ: خالص جلبي، ص: (161)، بيروت ودمشق، 1420ه، ودركايم عالم اجتماع يهودي معروف.
23- مذاهب فكرية معاصرة، الأستاذ محمد قطب، ص: (95).
24- 25- المدخل إلى علم التاريخ: د. محمد بن صامل السلمي، ص: (45-46)، وص: (26).
26- اقرأ وربك الأكرم: جودت سعيد، ص: (219).
27- حتى يغيروا ما بأنفسهم: جودت سعيد، ص: (107)، طبعة 1993م.
28- اقرأ وربك الأكرم، جودت سعيد، ص: (55).
29- جريدة الرياض، العدد (10188) في 16-5-1996م.
30- رسالة انظروا رقم (40) اللغة والواقع، ص: (8).
31- ينظر النزعة المادية في العالم الإسلامي، ص: (94).
32- حتى يغيروا ما بأنفسهم، جودت سعيد، ص: (109).
33- المرجع السابق، ص: (52).
34- فاستقم كما أمرت: الشيخ عبدالعزيز الجليل، ص: (335).
35- أخرجه أحمد في المسند، ج(3-471)، والدارمي والبيهقي في الشعب ومجمع الزاوئد: (1-173)، وقال الشيخ الألباني بعد أن استقصى طرق الحديث: هو على أقل تقدير حديث حسن، انظر: إرواء الغليل: ج(6)، ص: (34-37).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد