بسم الله الرحمن الرحيم
سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه عن قوله - صلى الله عليه وسلم - تفترق أمتي ثلاثة وسبعين فرقة. ما الفرق؟ وما معتقد كل فرقة من هذه الصنوف؟ فأجاب:
الحمد لله. الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم، ولفظه ( افترقت اليهود على إحدى و سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. و افترقت النصارى على ثنتين و سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. و ستفترق هذه الأمة على ثلاث و سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) . وفي لفظ ( على ثلاث و سبعين ملة) . وفي رواية قالوا يا رسول الله من الفرق الناجية قال ( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم و أصحابي) . وفي رواية قال ( هي الجماعة يد الله على الجماعة) . ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة و هم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم. (و الغريب أنه خرج في هذا العصر من يسمي نفسه بأهل السنة و الجماعة مع تضليلهم لعامة المسلمين. فتأمل كيف سموا فرقتهم بالجماعة مع أنها لا تمثل و لا حتى 0. 2% من المسلمين. )
و أما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق و البدع و الأهواء. و لا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبا من مبلغ الفرقة الناجية فضلا عن أن تكون بقدرها. بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة. وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع، فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة. (و من الملاحظ هنا أن جميع الفرق الضالة – تقريباً - تشترك في أمر واحد و هو زعمهم أن أغلب المسلمين على ضلال. بل يريد بعضهم أن يقنعنا بأن فرقتهم التي لا تتجاوز نسبة صغيرة جداً من المسلمين هي على الصواب و باقي المسلمين على ضلال!)
وأما تعيين هذه الفرق فقد صنف الناس فيهم مصنفات وذكروهم في كتب المقالات. لكن الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة هي إحدى الثنتين والسبعين لا بد له من دليل، فإن الله حرم القول بلا علم عموما وحرم القول عليه بلا علم خصوصا، فقال - تعالى -{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} وقال - تعالى - {يا أيها الذين آمنوا كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون} وقال - تعالى -{و لا تقف ما ليس لك به علم}. وأيضا فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة ويجعل من حالفها أهل البدع، وهذا ضلال مبين، فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي {لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}. فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر.
و ليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة. بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله. فمن جعل شخصا من الأشخاص غير رسول الله من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة -كما يوجد ذلك في الطوائف من اتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك- كان من أهل البدع والضلال والتفرق. (و هذا أهم مَعلِمٍ, نعرف فيه الفرق الضالة. فما أكثر الفرق التي ينتسب أصحابها لشيخ لهم يسمونه إمام أهل السنة و الجماعة، فيجعلون من أحبه و وافقه من أهل السنة و الجماعة، و خالفه كان من أهل البدع. فيضللون جمهور المسلمين من الذين لا يقرون بإمامة شيخهم. و لا شك أن هذه الفرق على ضلال مبين. نسأل الله السلامة).
وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله. وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها (و تأمل شدة حرص أهل السنة على التمييز بين الحديث الضعيف و الصحيح، و بين إصرار بعض مبتدعة الصوفية و غيرهم على الأخذ بالمناكير التي توافق أهوائهم). وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعا لها تصديقا وعملا، وحبا وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها، الذين يروون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة. فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم و جمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول. بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه. وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، يردونه إلى الله ورسوله.
ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف. فما كان من معانيها موافقا للكتاب والسنة أثبتوه وما كان منها مخالفا للكتاب والسنة أبطلوه. ولا يتبعون الظن وما تهوى الانفس، فإن اتباع الظن جهل واتباع هوى النفس بغير هدى من الله، ظلم وجماع الشر الجهل والظلم، قال الله - تعالى -{وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} إلى آخر السورة. وذكر التوبة لعلمه - سبحانه وتعالى - أنه لا بد لكل إنسان من أن يكون فيه جهل وظلم ثم يتوب الله على من يشاء. فلا يزال العبد المؤمن دائما يتبين له من الحق ما كان جاهلا به ويرجع عن عمل كان ظالما فيه وأدناه ظلمه لنفسه كما قال - تعالى -{الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} وقال - تعالى -{هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور} وقال - تعالى -{الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور}. ومما ينبغي أيضا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات: منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة. ومنهم (الكلام هنا عن الأشاعرة) من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة، ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه فيكون محمودا فيما رده من الباطل وقاله من الحق، لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق وقال بعض الباطل. فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها. ورد بالباطل باطلا بباطل أخف منه. وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة (أهل الكلام من أهل السنة و الجماعة هم الأشاعرة الذين ردوا على المعتزلة).
ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون كان من نوع الخطأ. والله - سبحانه وتعالى - يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك. ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها: لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة. بخلاف من والى موافقه، وعادى مخالفه، وفرق بين جماعة المسلمين، وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات. (فخلاصة الأمر أن الأشاعرة نوعان: من رد على الرافضة و المعتزلة لكنه لم يضلل متبعي مذهب السلف و هؤلاء من أهل السنة و الجماعة و إن كانوا على خطأ. و نوع ممن ضلل متبعي السلف و فرق جماعة المسلمين فهؤلاء أهل بدعة و لا شك. )
ولهذا كان أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع الخوارج المارقون. وقد صح الحديث في الخوارج عن النبي من عشرة أوجه خرجها مسلم في صحيحة وخرج البخاري منها غير وجه. وقد قاتلهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فلم يختلفوا في قتالهم كما اختلفوا في قتال الفتنة يوم الجمل وصفين. إذ كانوا في ذلك ثلاثة أصناف صنف قاتلوا مع هؤلاء، وصنف قاتلوا مع هؤلاء، وصنف أمسكوا عن القتال وقعدوا. وجاءت النصوص بترجيح هذه الحال (اشترك من الصحابة في الجمل و صفين ثلاثين صحابياً فقط بينما اعتزل أكثر من ألف صحابي الفتنة من أساسها. لذلك نقطع بأن أقرب الناس للحق في ذلك الوقت هم الذين اعتزلوا الفتنة). فالخوارج لما فارقوا جماعة المسلمين وكفروهم واستحلوا قتالهم، جاءت السنة بما جاء فيهم، كقول النبي ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة) وقد كان أولهم خرج على عهد رسول الله فلما رأى قسمة النبي -صلى الله عليه وسلم - قال ( يا محمد اعدل فإنك لم تعدل) فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم - ( لقد خبت وخسرت إن لم أعدل) فقال له بعض أصحابه ( دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق) فقال ( إنه يخرج من ضئضىء هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم) الحديث...فكان مبدأ البدع هو الطعن في السنة بالظن والهوى، كما طعن إبليس في أمر ربه برأيه وهواه.(و ما أكثر ما نشاهده اليوم ممن يسمون بالمفكرين الإسلاميين و هم مجموعة من الماسونيين و اليساريين و العلمانيين تستروا باسم الإسلام ليطعنوا في السنة برأيهم كجمال عمارة الذي يدعو بصراحة لإحياء فكر المعتزلة)
وأما تعيين الفرق الهالكة فأقدم من بلغنا أنه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط ثم عبدالله بن المبارك، وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين. قالا أصول البدع أربعة: الروافض والخوارج والقدرية والمرجئة. فقيل لابن المبارك والجهمية؟ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد (أقول و الأرجح هنا إلحاق مرجئة العصر بالجهمية لتطابق أقوالهم في مسألة الإيمان). وكان يقول إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية (و السبب أن كلام اليهود و النصارى كفر واضح بخلاف قول الجهمية الذي قد ينطلي على كثير من العوام، كما انطلى كلام مرجئة العصر على كثير من الصالحين في هذا العصر). وهذا الذي قاله اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم. قالوا إن الجهمية كفار فلا يدخلون في الإثنتين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام وهم الزنادقة. وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم بل الجهمية داخلون في الإثنتين والسبعين فرقة، وجعلوا أصول البدع خمسة. فعلى قول هؤلاء يكون كل طائفة من المبتدعة الخمسة اثنا عشر فرقة. وعلى قول الأولين يكون كل طائفة من المبتدعة الأربعة ثمانية عشر فرقة. وهذا يبني على أصل آخر وهو تكفير أهل البدع. فمن أخرج الجهمية منهم لم يكفرهم فإنه لايكفر سائر أهل البدع، بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق والعصاة، ويجعل قوله هم في النار مثل ما جاء في سائر الذنوب، مثل أكل مال اليتيم وغيره، كما قال - تعالى -{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا}. ومن أدخلهم فيهم فهم على قولين: منهم من يكفرهم كلهم، وهذا إنما قاله بعض المستأخرين المنتسبين إلى الأئمة أو المتكلمين. وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة ونحو ذلك (المرجئة أي مرجئة الفقهاء كالأحناف و ليس كمرجئة العصر الذين هم شر من الجهمية في الإيمان. أما الشيعة المفضَِلة لعلي على غيره فلم يبقى منها إلا الزيدية في اليمن). ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع من هؤلاء وغيرهم خلافا عنه أو في مذهبه. حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه وعلى الشريعة. ومنهم من لم يكفر أحدا من هؤلاء إلحاقا لأهل البدع بأهل المعاصي. قالوا فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحدا بذنب فكذلك لا يكفرون أحدا ببدعة. والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير الجهمية المحضة الذين ينكرون الصفات وحقيقية قولهم أن الله لا يتكلم ولا يرى ولا يباين الخلق ولا له علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا حياة بل القرآن مخلوق وأهل الجنة لا يرونه كما لا يراه أهل النار وأمثال هذه المقالات.
وأما الخوارج والروافض ففي تكفيرهم نزاع وتردد عن أحمد وغيره (و هذا فيه تفصيل حسب أقوالهم. فمن فسق منهم الصحابة فلا شك في كفر من توقف في تكفير مثل هذا، كما أفتى شيخ الإسلام في كتابه الصارم المسلول). وأما القدرية الذين ينفون الكتابة والعلم فكفروهم، ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال. وفصل الخطاب في هذا الباب بذكر أصلين:
أحدهما: أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقا. فإن الله منذ بعث محمدا وأنزل عليه القرآن وهاجر إلى المدينة صار الناس ثلاثة أصناف: مؤمن به، وكافر به مظهر الكفر، ومنافق مستخف بالكفر. ولهذا ذكر الله هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة ذكر أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتين في الكفار، وبضع عشر آية في المنافقين. وقد ذكر الله الكفار والمنافقين في غير موضع من القرآن كقوله {ولا تطع الكافرين والمنافقين} وقوله {إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا} وقوله {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا} وعطفهم على الكفار ليميزهم عنهم بإظهار الإسلام. وإلا فهم في الباطن شر من الكفار كما قال - تعالى -{إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} وكما قال {ولا تصل على احد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله} وكما قال {قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون}. وإذا كان كذلك فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق، فهذا كافر. ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية، فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة. وأول من ابتدع الرفض كان منافقا (عبد الله بن سبأ اليهودي). وكذلك التجهم فإن أصله زندقة ونفاق. ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنية المتفلسفة وأمثالهم يميلون إلى الرافضة والجهمية لقربهم منهم (و من الملاحظ أن الرافضة و الباطنية يشتركون في تمجيد الصوفية، حتى قال العلامة ابن خلدون: لولا التشيع لما كان هناك تصوف). ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنا وظاهرا، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق. ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقا أو عاصيا. وقد يكون مخطئا متأولا مغفورا له خطأه. وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه. (و هذا بالطبع لا يمنع أن نحكم عليهم إجمالاً -و ليس تعييناً- بأنهم مرتدون). فهذا أحد الأصلين.
والأصل الثاني: أن المقالة تكون كفرا كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح ذوات المحارم، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب، وكذا لا يكفر به جاحده، كمن هو حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام. فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيء مما أنزل على الرسول إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول. ومقالات الجهمية هي من هذا النوع، فإنها جحد لما هو الرب - تعالى -عليه ولما أنزل الله على رسوله. وتغلظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه: أحدها أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنة والإجماع كثيرة جدا مشهوره، وإنما يردونها بالتحريف. الثاني: أن حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وإن كان منهم من لا يعلم أن قولهم مستلزم تعطيل الصانع. فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله فأصل الكفر الإنكار لله. الثالث: أنهم يخالفون ما اتفقت عليه الملل كلها وأهل الفطر السليمة كلها.
لكن مع هذا قد يخفى كثير من مقالاتهم على كثير من أهل الإيمان حتى يظن أن الحق معهم لما يوردونه من الشبهات، ويكون أولئك المؤمنون مؤمنين بالله ورسوله باطنا وظاهرا. وإنما التبس عليهم واشتبه هذا كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة. فهؤلاء ليسوا كفارا قطعا بل قد يكون منهم الفاسق والعاصي، وقد يكون منهم المخطىء المغفور له، وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه به من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه. وأصل قول أهل السنة الذي فارقوا به الخوارج والجهمية والمعتزلة والمرجئة: أن الإيمان يتفاضل ويتبعض كما قال النبي ( يخرج من النار من كان في قلبه مثال ذرة من إيمان) وحينئذ فتتفاضل ولاية الله وتتبعض بحسب ذلك.
وإذا عرف أصل البدع فأصل قول الخوارج أنهم يكفرون بالذنب. ويعتقدون ذنبا ما ليس بذنب. ويرون ابتاع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب وإن كانت متواترة. ويكفرون من خالفهم. ويستحلون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي، كما قال النبي فيهم ( يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان) ولهذا كفروا عثمان وعليا وشيعتهما، وكفروا أهل صفين الطائفتين في نحو ذلك من المقالات الخبيثة. (و من حيل الخوارج المعاصرين أنهم يدعون عدم تكفير الدعاة لكنهم يجعلونهم من أهل البدع، و هذا عندهم شر من الكفار الأصليين).
وأصل قول الرافضة أن النبي -صلى الله عليه وسلم - نص على علي نصا قاطعا للعذر. وأنه إمام معصوم ومن خالفه كفر. وإن المهاجرين والأنصار كتموا النص وكفروا بالإمام المعصوم واتبعوا أهواءهم وبدلوا الدين وغيروا الشريعة وظلموا واعتدوا. بل كفروا إلا نفرا قليلا إما بضعة عشر أو أكثر. ثم يقولون إن أبا بكر وعمر ونحوهما ما زالا منافقين. وقد يقولون بل آمنوا ثم كفروا. وأكثرهم يكفر من خالف قولهم ويسمون أنفسهم المؤمنين ومن خالفهم كفارا، ويجعلون مدائن الإسلام التي لا تظهر فيها أقوالهم دار ردة أسوأ حالا من مدائن المشركين والنصارى. ولهذا يوالون اليهود والنصارى والمشركين على بعض جمهور المسلمين ومعاداتهم ومحاربتهم، كما عرف من موالاتهم الكفار المشركين على جمهور المسلمين، ومن موالاتهم الإفرنج النصارى على جمهور المسلمين، ومن موالاتهم اليهود على جمهور المسلمين. ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق كزندقة القرامطة الباطنية وأمثالهم. ولا ريب أنهم أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة، ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة. فجمهور العامة لا تعرف ضد السني إلا الرافضي، فإذا قال احدهم أنا سني فإنما معناه لست رافضياً.
ولا ريب أنهم شر من الخوارج. لكن الخوارج كان لهم في مبدىء الإسلام سيف على أهل الجماعة. وموالاتهم الكفار أعظم من سيوف الخوارج: فإن القرامطة والإسماعيلية ونحوهم من أهل المحاربة لأهل الجماعة، وهم منتسبون إليهم. و أما الخوارج فهم معروفون بالصدق، والروافض معروفون بالكذب. والخوارج مرقوا من الإسلام، وهؤلاء نابذوا الإسلام. (و الغريب في هذا العصر أن كثيراً من الجماعات الإسلامية -كالإخوان المسلمين- تتبرأ من الخوراج لكنها توالي الروافض! فتأمل يا رعاك الله)
وأما القدرية المحضة فهم خير من هؤلاء بكثير وأقرب إلى الكتاب والسنة. لكن المعتزلة وغيرهم من القدرية هم جهمية أيضا، وقد يكفرون من خالفهم ويستحلون دماء المسلمين فيقربون من أولئك.
وأما المرجئة (و لعل شيخ الإسلام يقصد المرجئة الذين رفضوا أن يشهدون لعلي و عثمان بجنة أو نار، و ليس مرجئة الفقهاء) فليسوا من هذه البدع المعظلة، بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة. وما كانوا يعدون إلا من أهل السنة حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة. ولما كان قد نسب إلى الإرجاء والتفضيل قوم مشاهير متبعون، تكلم أئمة السنة المشاهير في ذم المرجئة المفضلة تنفيرا عن مقالتهم، كقول سفيان الثوري من قدم عليا على أبي بكر والشيخين فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وما أرى يصعد له إلى الله عمل مع ذلك أو نحو هذا القول، قاله لما نسب إلى تقديم على بعض أئمة الكوفيين. وكذلك قول أيوب السختياني من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، قاله لما بلغه ذلك عن بعض أئمة الكوفيين. وقد روى أنه رجع عن ذلك. وكذلك قول الثوري ومالك والشافعي وغيرهم في ذم المرجئة لما نسب إلى الإرجاء بعض المشهورين.
وكلام الإمام أحمد في هذا الباب جار على كلام من تقدم من أئمة الهدى ليس له قول ابتدعه، ولكن أظهر السنة وبينها وذب عنها وبين حال مخالفيها وجاهد عليها وصبر على الأذى فيها لما أظهرت الأهواء والبدع. وقد قال الله - تعالى -{و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون}. فالصبر واليقين بهما تنال الإمامة في الدين (و بهذا نرد على من رفض أن يلقب الشهيد سيد قطب بالإمام). فلما قام بذلك قرنت باسمه من الإمامة في السنة ما شهر به. وصار متبوعا لمن بعده كما كان تابعا لمن قبله. وإلا فالسنة هي ما تلقاه الصحابة عن رسول الله وتلقاه عنهم التابعون ثم تابعوهم إلى يوم القيامة، وإن كان بعض الأئمة بها أعلم وعليها أصبر والله - سبحانه وتعالى - أعلم وأحكم والله أعلم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد