هذه الأسباب ليست محصورة فقط في الفترة التي ندرسها، ولكنها قد ازدادت قوتها وآتت ثمارها كاملة في تلك الفترة. ونحن نذكر بعض هذه الأسباب:
1- الأحوال السيئة التي كانت تعيشها الأمة الإسلامية، والواقع المرير الذي كان يعيشه المسلمون في تلك الفترة، من انتشار التخلف والظلم والطغيان والفقر والمرض والجهل، كل ذلك جعل الناس يرتمون في أحضان الصوفية، التي لا تقوم بأكثر من التربيت عليهم، والتخدير لهم، وجعلهم يعيشون في غير واقعهم الذي فروا منه.
(لقد ضاق العالم الإسلامي بالحياة الدنيا وكره ما تنطوي عليه من ألوان الشر وضروب الظلم، وانتهت الرغبة في إصلاح الدنيا عند نفر من أهله، بتصور مملكة باطنية وراء الدنيا التي تعيش في رحابها وتكرع من آثامها وشرورها.
وكان طبيعياً بعد أن أقام هذه الدولة في مخيلته، أن يبحث لها عن حكام عدول يتولون إدارتها والإشراف على أحوالها، ثم يخرج من هذا إلى تصنيف هؤلاء الحكام، فصنفهم بطريقة تعسفية في طبقات تختلف باختلاف المصنفين، ويتزعمها القطب وتليه فئات من الأوتاد والأبرار والنقباء والنجباء والأبدال...وغير ذلك ممن يشرفون على مختلف مظاهر الحياة في هذه المملكة الباطنية، ويسيرون دفتها وينظمون أمورها ويعوضون الناس خيراً عما يلقونه من شر دنياهم... )([1]).
فالأحوال السيئة التي عاشها المسلمون في الماضي، جعلتهم يقبلون على التصوف، ويلتفون حول رجاله، علهم يجدون عندهم خلاصاً مما نزل بهم من ظلم فادح، أو يجدون عندهم حلولاً لمشكلاتهم المستعصية من فقر مدقع، أو مرض مستفحل، وعاهة مزمنة.
وهنا يبرز سؤال مهم وهو: لماذا كان الإقبال شديداً على المتصوفة دودن غيرهم؟ أو بعبارة أخرى: لماذا كان اللجوء إلى المتصوفة دون الفقهاء والمتكلمين؟ وليس من داع للإطالة في الجواب، فإن الجفاف الذي أصاب مناهج الفقه والعقيدة، وبالتالي انعكاس ذلك على علمائهما كان حائلاً بينهم وبين الجماهير المحرومة المضطهدة، التي كانت تتطلع إلى من يقف بجانبها ويساندها في المحن التي تعصف بها، ولكن الفقهاء والمتكلمين كانوا منهمكين في مسائل جافة، وأطروحات عقيمة، على الأقل بالنسبة لهذه الجماهير المحرومة ولا يلتفت أحد منهم إليهم، أو يحاول الوقوف معهم في ما يتعرضون له من أزمات، بينما كان المتصوفة ينشرون عقائدهم ودعاياتهم التي لم يكن فيها من الجفاف ما كان عند الفقهاء والمتكلمين، بل هي على العكس تماماً، حيث تتوافق مع رغبات العامة وما يحلمون به من حياة هنيئة، وعيش رغيد.
ومن ذلك ادعاء الصوفية: (بأن الزهد في طلب الدنيا والاستهانة بملاذها والإعراض عن شهواتها، إذا صحبه الانقطاع للعبادة والتجرد للذكر والتهجد والعمل بما يرضي الله، تكفل بأن يسلم صاحبه إلى حضرته، ومتى اتصل الفقير بربه، أخذ عنه العلم والحكمة والدين والثراء وكافة ما يشاء من مطالب الدنيا رأساً من غير واسطة، واستمد منه - تعالى- القوة التي ترفعه عن كافة البشر وتجعل في مقدوره إتيان الخوارق والكرامات)([2]).
وتهافت الناس إلى زوايا الصوفية وشيوخها، هاربين من الجحيم الذي يعيشون فيه، ليجدوا عندهم خلاصاً وفكاكاً مما كان يقع عليهم كما يتوهمون. وكان كلما ازداد الواقع مرارة، تسارع الناس إلى الصوفية، وأمعنوا في تصديق تلفيقاتها وأكاذيبها.
هذا بالإضافة إلى تبني كثير من علماء الكلام والفقه للتصوف واقتداء العوام بهم، واستخدام هؤلاء المتصوفة أساليب شيطانية تقوم على خداع الناس وإخضاعهم بالترغيب لمن ينساق خلفهم والترهيب من مخالفتهم.
وباختصار فإن غياب العلماء الربانيين عن الساحة الإسلامية، جعل الجماهير المسلمة تتدفق إلى رحاب الصوفية، وتنزلق في دركاتها، لأنه لم يكن في الساحة غيرها.
2- أمن أهل الطريق وطمأنينتهم في أزمنة الشدة: في القرون المتأخرة وخاصة القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، كانت حياة المسلمين مضطرمة بالفتن والأزمات، وعرضة لكثير من ضروب الطغيان وصور الظلم، وكان أضطراب الأمن وانعدامه سمة من سمات تلك العصور، حيث تزهق الأرواح لأسباب تافهة بل دون أسباب في بعض الأحيان، وفي هذه الأجواء الحالكة، والظروف العصيبة، كان أرباب التصوف يحيون حياة هادئة يرفرف عليها الأمن والاطمئنان، بعيدة عن غوائل الفتن التي كانت تغتال الأفراد، وتصيب المجتمعات.
فكثيراً ما كان يقوم الناس في الأزمات بارتداء ملابس المجاورين لينجوا بأنفسهم من الأخطار التي كانت ستنالهم خلال تلك الأزمات لو كانوا من عامة الناس([3]).
و(قد كان الفقراء أروح بالاً وأكثر طمأنينة من الفلاحين في حقولهم والتجار في متاجرهم والصناع في مصانعهم، فقد كانوا في أمان من تطبيق القوانين... وكانوا في أغلب فترات الظلم الفادح في نجاة من هذه الشرور كلها، لأن الجنود([4]) كانوا يخافون بأسهم، ويخشون سلطانهم الروحي، ويؤمنون باتصالهم باللهº فيتزلفون إليهم ويطلبون الرضا منهم، فأقبل بعض الناس على دخول الطريق مدفوعاً بما سيصيبه في رحاب الزوايا من اطمئنان البال واستقرار الحال)([5]).
3- الترف في معيشة أرباب الطريق: بالإضافة إلى الأمن والطمأنينة النجاة من ضغط الحياة يومذاك لا يجهدون أنفسهم في احتراف عمل يكسبون قوتهم من ورائه، بل كانوا يعيشون في الزوايا، طاعمين كاسين، على نفقة المحسنين والأثرياء، بدعوى التفرغ للذكر والانقطاع للتهجد والتجرد لعبادة الله. ومن أطرف مفارقات هذا العصر أن يكون هؤلاء الزهاد الذين يدعون التقشف والقناعة بالتافه من شئون العيش، أرغد عيشاً وأترف حياة من الفلاحين والتجار وأرباب الحرف... )([6]).
وبسبب المعيشة التي كان يتمتع بها أرباب الطرق في زمن الشدة والجوع اتكالاً على الأوقاف والهبات التي كانت تنهال عليهم، رغب الناس في طرقهم، والعيش في زواياهم، ليظفروا بذلك المستوى من المعيشة الذي لم يكن متوفراً لغيرهم من قطاعات المجتمع الأخرى.
4- حب الأتراك العثمانيين للدروشة والتصوف: (كان الأتراك يحبون التصوف ويميلون إلى تقديس أهله والإيمان بصدق ولايتهم)([7]).
ويذكر الجبرتي أن الأتراك يميلون إلى الدراويش وذلك حين تحدث عن تجديد التكية البكتاشية التي قام بتجديدها رجل من الدراويش، بعد أن طلب مساعدة الوالي التركي في مصر حسن باشا، الذي لبى طلبه على الفور، وسارع بتقديم الأموال اللازمة لذلك. وصار ذلك الدرويش كما يقول الجبرتي: (من أخصائه لكونه من أهل عقيدته)([8]).
ومن ذلك إعفاء العثمانيين لأتباع بعض الطرق الصوفية من الخدمة العسكرية([9])، وجعل الناس يبادرون بالانضواء إلى تلك الطرق، فرازاً من مشاق تلك الخدمة المضنية.
(لقد كانت الصوفية قد أخذت تنتشر في المجتمع العباسي، ولكنها كانت ركناً منعزلاً عن المجتمع، أما في ظل الدولة العثمانية، وفي تركيا بالذات، فقد صارت هي المجتمع وصارت هي الدين، وانتشرت -في القرنين الأخيرين بصفة خاصة- تلك القولة العجيبة: من لا شيخ له فشيخه الشيطان! وأصبحت -بالنسبة للعامة بصورة خاصة- هي مدخلهم إلى الدين وهي مجال ممارستهم للدين!!)([10]).
إن التصوف في العصر العثماني كان في اعتبار الناس زبدة الدين وخلاصته، وقد شاع واستفحل أمره، واستشرى داؤه، واستبد بعواطف الناس، وكان أكبر العوامل في توجيه حياتهم في هذا العهد وما بعده([11]).
وقد كان كثير من سلاطين بني عثمان يقومون برعاية الصوفية، ويفيضون عليها من عطفهم وحدبهم، حتى جاء السلطان عبد الحميد الثاني إلى عرش السلطنة في ظروف عصيبة، والمؤامرات تحاك للأمة، والكوارث والمحن تحيط بها من كل مكان، ودعاة القومية والتفرقة يبثون دعواتهم في سائر البلاد، فدعا كما هو معروف إلى الجامعة الإسلامية، والرابطة الدينية، وكانت الصوفية هي محور الجامعة التي نادى بها عبد الحميد الذي نشأ صوفياً.
(وقد أفاد عبد الحميد من نزعته الصوفية -بدون شك- فاستقطب الدراويش، وتقرب إلى العامة والبسطاء، كما أكرم العلماء وشيوخ الطرق الصوفية، وقرب النابغين من رجالات هذه الفرق)([12]).
ويمكن القول بأن السلطان عبد الحميد اعتمد على الصوفية في دعوته إلى الجامعة الإسلامية لما رآه من انتشارها ونفوذها بين الناس، كما أن ذلك الاعتماد والتبني قد زاد من انتشار الصوفية وتغلغلها في أوساط المسلمين.
وعلى العموم يمكننا مطمئنين أن نطلق على ذلك العصر الذي نحن بصدد دراسته أنه عصر الصوفية، فقد أطبقت على العالم الإسلامي من أدناه إلى أقصاه، ولم تبق مدينة ولا قرية إلا دخلتها([13]).
يقول أحد مفكري الهند: (لم تكن في الهند إلا فكرة التصوف الباطل، ولم تخل قرية أو مدينة من الزوايا).
ويقول أيضاً: (ومن أكبر البليات في الهند أن العامة والخاصة كلهم كانوا مصطبغين بصبغة التصوف، حتى بلغ بهم الأمر إلى أنهم ما كانوا يقبلون شيئاً إلا إذا كان مسكوباً في قالبه)([14]).
ومثل هذا يقال في أغلب البلدان الإسلامية إلى حد كبير. وحسبنا أن نعلم، أن عدد أتباع الطريقة الشاذلية وحدها قد بلغ عام (1982م) أكثر من أربعين مليوناً([15])، وقد بلغ أتباع الطريقة التجانية في نيجيريا وحدها أكثر من عشرة ملايين شخص، وذلك عام (1401هـ- 1981م)([16]).
(المقالة مستلة من رسالة الإنحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر للدكتور علي بن بخيت الزهراني)
----------------------------------------
([1]) التصوف في مصر إبان العصر العثماني (ص: 124) د. توفيق الطويل. مطبعة الاعتماد. الناشر مكتبة الآداب بالجماميز. ط (1365هـ- 1946م).
وانظر حول ذلك: الحكومة الباطنية (ص: 36- 49) موضوع (رئيس الحكومة الباطنية: القطب الغوث)، وموضوع (أعضاء الحكومة الباطنية) (ص: 50- 62) للصوفي الدكتور حسن محمد الشرقاوي.
وقد ذكر أن مؤلفه هذا حاز إعجاب شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود، وليس ذلك بغريب على شيخ الأزهر الراحل الذي يعد من كبار زعماء الصوفية في العصر الحاضر.
وفي الكتاب حشد من المغالطات والأباطيل ويخرج القارىء له بأن الصوفية بخرافاتها وانحرافاتها هي الإسلام، وذلك بعد أن سلك صاحبه سبل التأويل، وأغضى عن كل عيوب الصوفية التي نفاها في كثير من المواضع.
([2]) التصوف في مصر إبان العصر العثماني (ص: 55).
([3]) عجائب الآثار (2/12).
([4]) كان الجنود العسكريون هم مصدر أغلب الثورات والفتن والأزمات في تلك الفترة.
([5]) التصوف في مصر إبان العصر العثماني (ص: 152- 154).
([6]) المصدر السابق (ص: 154).
([7]) المصدر السابق (ص: 154).
([8]) عجائب الآثار (2/28).
([9]) تاريخ معرة النعمان (1/260).
([10]) واقعنا المعاصر (ص: 155).
([11]) التصوف في مصر إبان العصر العثماني (ص: 11).
([12]) السلطان عبد الحميد الثاني والخلافة الإسلامية (ص: 121) موفق المرجة. الناشر مؤسسة صقر الخليج للطباعة. الكويت (1984م). مطابع دار الكويت للصحافة (الأنباء).
([13]) إلا إذا استثنينا نجداً وملحقاتها.
([14]) الدعوة السلفية في شبه القارة الهندية (ص: 114).
([15]) ذكر هذه الإحصائية الدكتور زكي بدوي مستشار المركز الإسلامي بلندن والأمين العام للمجلس الأعلى للشاذلية. انظر: السلطان عبد الحميد والخلافة الإسلامية (ص: 122).
([16]) التجانية (ص: 45) علي بن محمد الدخيل الله. دار طيبة، الرياض.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد