بسم الله الرحمن الرحيم
الحديث عن مفهوم التصوّف الإسلاميّ يقتضي منا الحديث عن جذره اللغويّ، وتأصيله من الناحية التاريخيّة، وتتبع مساراته، ودراسة مضمون الإنتاج المعرفيّ لهذا الاتجاه في حقل المعرفة الإسلاميّة، كما يقتضي التنقيب عن مضامينه الروحيّة والعقليّة، وتتبع مدى أصالة انتمائه إلى حقل العلوم والمعارف الشرعيّة، ومدى علميّة ما يطرحه المتصوفة من رؤى عن الله - عز وجل -، ثم عن الكون والحياة والإنسان، وتحليل المنهج الصوفيّ في المعرفة والتلقي، مع مراعاة أدوات المعرفة الصوفيّة وموقع العقل والبداهة منها، وقبل ذلك تعاملها مع الوحي كمصدر مركزيّ للمعرفة، ودور العقل في التعامل مع المعطيات والحقائق، واستكناه حقيقة القول بأولويّة المعرفة اللدنّية، أو الذاتيّة، والتجربة، والتذوق في الوصول إلى الحقيقة، ومدى قابليّة هذا المنهج الصوفيّ إن صح تسميته منهجًا- للتعميم، ليكون عامًا للناس كلهم، وسبيلا موصلاً ومفضلاً على العقل والبرهان.
إنّ البحث في هذا المستوى يحتاج إلى اطلاع واسع، وتأمل دقيق في التجربة الصوفيّة، لذا فإنّ مقالنا هذا لن يهتم بالجذر اللغويّ كثيراً، وإثبات مدى الأصالة الشرعيّة تاريخياً لهذا المنهج الصوفيّ- وإنما سننظر إليه كظاهرة سلوكيّة وعباديّة وتأمّلية.
ومن هذا الوجه، فالتصوّف من حيث هو ظاهرة سلوكيّة وعباديّة، وتطهير للنفس الإنسانيّة وتأمل وفكر في الوجود، أصيل في الإسلام. فالتربية الروحيّة في المجتمع الإنسانيّ وصياغة شخصيّة الإنسان في ظلها لكي تحفظ توازنها أمام مغريات الحياة، كانت من المهمات الواضحة للوحي (القرآن والسنة).
فالقرآن الكريم قائم أساساً على الدعوة إلى الله - تعالى -وعبادته، وتطهير النفس الأمّارة بالسوء، وبيان سبل الاستقامة والسلوك الموزون في الحياة.
وإنّ الإيمان العقليّ المجرد بخالق الكون ثم بالقيم والفضائل التي تنبعث من هذا الإيمان لا يمكن أن يجعل من الإنسان يقظ الحس، رقيق الوجدان، مستقيم السلوك، رباني المشاعر، متطلعاً إلى رضوان الله بشوق وانتظار.
ونحن إذا قرأنا القرآن الكريم وجدنا آيات كثيرة تدعو الإنسان إلى الجانب الروحيّ من حياته، ضمن الإطار العام في الكيان الإنسانيّ المتكامل.
فقول الله - تعالى -: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) [الحجر: 99]، وقوله - عز وجل -: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا) [السجدة: 16]، وقوله - تعالى -: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) [الشمس: 9-10]، وآيات كثيرة شواهد على اهتمام الإسلام بتربية الروح وتعويد النفس على الطاعة عن طريق العبادة الشاملة في الحياة كلها.
ولقد أحدثت التربية النبويّة الشريفة تغييراً كلياً في النفوس، وأيقظت الأرواح، ووجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - صحابته وأمته من بعده إلى تأمل كتاب الله، فأشرقت قلوب صحابته، واقتدوا به - صلى الله عليه وسلم - في عدم إعطاء حياة الشهوات أكثر من حجمها، وعدم التذلّل لها، وتميّز من بينهم جمع من خالص أصحابه، كانوا -كما وُصِفوا- رهبانًا بالليل فرساناً بالنهار، استغرقوا في العبادة والصلاة وقراءة القرآن والكفاح اليومي على نهج النبوّة والاقتداء الكامل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم ورث هؤلاء الصّحابة في مسلكهم في العبادة كبار التابعين وتابعيهم، واستمر هذا الاتجاه الذي سمّي بالزهد في المجتمع الإسلاميّ، نتيجة تطور أوضاعه.
إذ كلما استبدت المغريات المادية بالناس، وكثرت الآثام، وظهرت المفاسد، وانتشرت المظالم، علت الدعوة إلى محاربة النفس الأمّارة بالسوء.
وكان الوعّاظ وأهل الزهد والإرشاد ينبهون الناس إلى الثغرات الروحيّة في الحياة وكيفيّة معالجتها، وكانوا ينطلقون من منطلقات قرآنيّة.
وبقي الاتجاه الروحي على صفائه الإسلاميّ، حتى بعد تطوره إلى فكر، واتخاذه مصطلح \"التصوّف\" بوضوح ابتداء من القرن الثالث الهجريّ، حيث انقلب التصوّف إلى علم قائم بذاته، سمّي بعلوم الخواطر أو الأحوال أو المكاشفات(1).
يقول ابن خلدون:
\"هذا العلم من علوم الشريعة الحادثة في الملّة. وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصّحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحقّ والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله - تعالى -والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذّة ومال وجاه، والانفراد في الخلوة للعبادة. وكان ذلك عامًّا في الصّحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفيّة والمتصوفة\"(2).
وعندما بدأ الصوفيّة يتعمّقون في حقائق الدين ولا يكتفون بظاهرها فحسب ظهر الفكر الصوفيّ كأحد مظاهر الفكر الإسلاميّ، هذا التطوّر الذي عده ابن خلدون بسبب تطوّر حركة المجتمع الإسلاميّ وامتداده، ونشوء ظواهر جديدة كالترف والبذخ، والإقبال على الدنيا.
فكان التطوّر الروحيّ الذي انتهى إلى علم التصوّف كما تطوّر الاتجاه العقليّ النظريّ إلى علم الكلام والفلسفة، وتطوّر الاتجاه العمليّ إلى الفقه وأصول الفقه والمدارس الفقهيّة المعروفة.
كان في الفكر الصوفيّ في مبتدأ أمره قائمًا على الكتاب والسنة، ملتزمًا بضوابط الشرع، عند أمثال معروف الكرخي (ت 255هـ) والحارث المحاسبي (ت 243هـ) وسير السقطي (ت 253هـ) والجنيد البغدادي (ت 298هـ) وغيرهم.
ذلك أنّه كان يقوم على التأمّل العميق في التوحيد والعبوديّة التّامة لله - تعالى- عن طريق تصفية القلب، واستقامة السلوك، ومجانبة الدواعي النفسانيّة، والتعلّق بالعلوم المستنبطة من الكتاب والسنة.
يقول الجنيد البغدادي - رحمه الله -: \"إنّ من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يُقتدى به في هذا الأمر (أي التصوّف) لأنّ عملنا هذا مقيّد بالكتاب والسّنة\"(3).
ولقد تبلور فكر صوفّي إسلاميّ عميق في هذه المدرسة الصوفيّة، حول حقيقة العبادة والتوحيد واتباع السلوك الصحيح إلى الحقّ تبارك وتعالى، ووصف مراتب النفس وتصفيتها، وأمراض القلوب وشفاءها، وحقيقة هذه الحياة وموقع الإنسان فيها، والخلاص من الرذائل، ونبذ العبوديّة للدنيا، ومعرفة مظاهر الشرك الخفيّ ومراتبها.
غير أنّ هذا الفكر الصوفيّ السليم الذي تضبطه ضوابط القرآن الكريم والسّنة النبويّة، لم يستطع أن يسيطر على عالم التصوّف، بل ظهرت منذ \"الجنيد\" بوادر انحرافات واضحة، تمثلت في شَطَحات الحلاج التي كانت نتيجة الغنوصيّة الشرقيّة (الهنديّة والمجوسيّة...) التي دخلت المجتمع الإسلاميّ، ودعت إلى الحلول عند الحلاج، والإشراق عند السهروردي الزنديق المقتول، ووحدة الوجود عند ابن الفارض والجيلي وابن سبعين وابن عربي، هذا الأخير الذي قال بوحدة الأديان وأوّل الحقائق الشرعيّة تأويلا منكرًا، ودعا إلى نظريّة الاتحاد بين الخالق والمخلوق، وغيرها(4).
هذه النظريّات لم تكن تجربة روحيّة إسلاميّة، بل كانت مظهرًا واضحًا لدراسات فلسفيّة حلوليّة وغنوصيّة لا علاقة لها بروحانيّة الإسلام عند المتصوّفة الأُوَل المستقيمين من المتمسكين بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وضوابط فهمهما الصحيح.
ولا يعني وجود هذا الانحراف أنّ ساحة الفكر الإسلاميّ الصوفيّ خلت من التيار الصوفيّ المنضبط بضوابط الشّرع، بل استمر عند القشيري وعبد القادر الجيلاني، والشيخ زروق وغيرهم. الذين حاربوا تيار الإشرافية، ووحدة الوجود، والإباحية، ودعَوا إلى كتاب الله - تعالى -وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
غير أنّ ما يمكن ملاحظته من الناحية المعرفيّة والمنهجيّة أنّ التصوّف يقوم على الذّوق والتجرِبة الذاتيّة، وما يسمى \"بالكشف\"، وهذا يشكّل حاجزًا كبيرًا أن يكون المنهج الصوفيّ منهجًا مشتركًا بين الناس يمكن التحقّق منه ومن علميّته، إذ إنّه لا يقوم على النظر العقليّ ولا على الحِسّ، وهذا ما يشترك فيه الناس جميعًا، وإنما يقوم هذا المنهج على التجربة الذاتيّة والمجاهدة وسلوك طريق الأحوال والمقامات، وهي فضلاً عن غرابتها من الناحية الشرعيّة، فإنها غير قابلة للتعميم، ولا يمكن البرهنة على صدقها، ولذلك تبقى قاصرة عن التعميم. وقد يمكن أن تكون صادقة ومقبولة عند صاحبها، ولكن لا تعتبر قانوناً عاماًّ يحتكم إليه الجميع، ويتصف بالموضوعيّة وإمكان المحاججة كما هو الشأن في مناهج علم الحديث أو الفقه أو التاريخ أو أصول الفقه مثلاً.
وبالرغم من أن الفكر الصوفيّ في العصر الحديث حاول أن يصطبغ بصبغة تجديديّة على أيدي كثير من الصوفيّة العلماءº أمثال العلاّمة محمد إقبال والشيخ عبد الحليم محمود والشيخ فريد الدين شهيدي الهندي وغيرهم، إلا أنّ ما طرحه \"إقبال\" مثلاً من تجديد الفكر الديني في الإسلام، وبالأساس التصوّف، مازال يواجه أسئلة تقدح في صميم المنهج الصوفيّ القائم على البداهة والذاتيّة والعلم الذاتي غير المكتسب بالطرق المتعارف عليها والمعهودة بين أهل العلم، بحيث إذا ما قورن بضوابط الشرع أو العقل يواجه بأسئلة كثيرة على المستوى المعياري، والمستوى المعرفي (الابستمولوجي)، والمستوى الوجودي (الأنطولوجي).
ذلك أنّ اعتبار التجربة الذوقيّة والإلهام المصدر الحقيقي للمعرفة، ليس له في الحقيقة معنى منطقيًّا. فما هو معيار اختبار هذه التجربة الباطنيّة؟ وما هو المبرر العلمي لصرف ظواهر النصوص الشرعيّة وإعطائها معاني تخالف قواعد التأويل العربّي من الناحية اللغويّة باعتبار أنّ العربيّة لغة الوحي، كما تعطّل الحدود وتسقط الرسوم وتؤدّي إلى التحلّل من العبادة؟
كما أنّه من المتّفق عليه بين كل المسلمين أنّ العبادة الأصل فيها الحضر إلا إذا دلّ الشرع الحكيم عليها وعلى تشريعها. من هنا فإنّ اختراع المتصوّفة لأحوال وطرق ومسالك لم تؤثر عن صاحب الشرع يجعلهم في موقف مناقض لأصل التوحيد، والدخول في الابتداع.
كما أنّ القول بالإلهام كمصدر للمعرفة، أمر غير مضبوط، وفيه طعن لخاتميّة الرسالة المحمديّة التي اكتملت بوفاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -.
أخيراً نقول: إنّ التصوّف لا يعدو أن يكون خطًّا فكريًّا، وُلد مبكّرًا في المجتمع الإسلاميّ، ومرَّ بمراحل وتطوّرات هامّة، وأثناء تطوّره تشكّلت فيه مدرستانº مدرسة التصوّف السّني التي يمكن اعتبارها \"مدرسة تربية الرّوح، وتزكية النفس، وتطهير القلب، وهذه تحتاج إلى قليل من المراجعة ليستفاد منها في ميدان علم النفس والتربية والاجتماع والسلوك\".
أمّا المدرسة الثانية، فهي مدرسة التصوّف الفلسفي التي اخترقتها تيارات الإشراق والغنوصيّة والحلول والأفلاطونيّة، فابتعدت عن معايير العقل فضلاً عن الوحي. وهذه الأخيرة هي التي قالت بالحلول، والاتحاد، والفَيض، ووَحدة الوجود، والحقيقة الباطنيّة، وأسقطت ظاهر الشريعة من الاعتبار، وهذه تحتاج إلى نقد وتفكيك ومواجهة علميّة، لهدم ما يبدو فيها من تناسق علميّ ومنطقيّ على غير أساس متين.
والله أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
----------------------------------------
(1) محمد جلال شرف، دراسات في التصوف الإسلامي، ص28.
(2) عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، ج3/ص1063، تحقيق: علي عبد الواحد واف.
(3) الجنيد البغدادي، نقلا عن كتاب \"دليل الباحثين إلى المفاهيم النفسية في التراث\"، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ج1/ ص270.
(4) محمد الغزالي، تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل، ص 60 وما بعدها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد