الاستعداد لشهر رمضان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

اقتضت حكمة الله - جل وعلا - أن يجعل هذه الدنيا مزرعة للآخرة، وميداناً للتنافس، ومن فضل الرب - سبحانه - وكرمه أنه يجزي على القليل بالكثير، ويضاعف الحسنة، ويجعل لعباده مواسم تعظم فيها تلك المضاعفة، ويزيد للعامل فيها الثواب، ومن أعظم هذه المواسم وأجلها شهر رمضان، قال الله - تعالى -: \"شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون\" (185) (البقرة) لذا كان حرياً بالمسلم أن يحسن الاستعداد لهذا القادم الكريم لئلا يفوته الخير العظيم، أو لئلا ينشغل بمفضول عن فاضل، أو بفاضل عما هو أفضل منه، وقد كان سلف الأمة يحرصون من الأعمال على أفضلها، وأعظمها أجراً، وأحبها إلى الله، متأسين في ذلك برسول الله.

يقول الله - عز وجل -: \" إن سعيكم لشتى\" (4) (الليل) صدق الله، وإنه مما يتعلق بمواسم الخير وبخاصة شهر رمضان واستقباله واستعداد الناس له نرى التباين، حسب درجة العبد من الإيمان والصبر واليقين، ومنزلته من اليقظة، واغتنام ساعات العمر، فشهر رمضان من الناس من يستقبله بضجر على ما سيفقده من الأكل متى أراد والشرب متى أراد، ومنهم ممن وسع الله عليه من يستقبله بالسفر والهرب من بلاد المسلمين، ومنهم من يستقبله بالإكثار من أطعمه يخص بها رمضان، ومنهم من يستقبله بالفرح والاستبشار وحمد الله أن بلغه رمضان، وعقد العزم على أن يعمره بما يزيد حسناته، ويقربه إلى ربه، وهكذا كان يصنع سلف الأمة الصالح - رضي الله عنهم - حيث يؤثر عنهم أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم.

بم يستقبل رمضان؟

بالسرور والاستبشار، ونفس صافية تستقبل ما يرد عليها من غذاء الروح، فليبادر إلى:

1 التوبة الصادقة: حيث إن الذنوب سبب حرمان العبد من خيري الدنيا والآخرة، قال - تعالى -: \" وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير 30 \"(الشورى) ولا مصيبة أعظم من الحرمان من الأعمال الصالحة، ولهذا والله أعلم شرع في كثير من الأعمال الصالحة استفتاحها بالاستغفار كدخول المسجد، ودخول الصلاة: \"اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب\"...وكخطبة الحاجة في افتتاح خطبة الجمعة، والعيدين، والنكاح وغيرها \"إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره\".

2 عقد العزم الصادق: على اغتنامه، وعمارة أوقاته بالأعمال الصالحة، فمن صدق الله صدقه الله، وأعانه على الطاعة، ويسر له الخير، قال - تعالى -: \" فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم 21 \"(محمد).

3 دعاء الله بالعون على الطاعة: فالله - تعالى - يقول: \" وقال ربكم ادعوني أستجب لكم \" (غافر: 60) ومثل أن يتكرر هذا الدعاء: \"اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك\"، ويؤثر عن السلف أنهم كانوا يقولون إذا حضر رمضان: اللهم قد أظلنا شهر رمضان وحضر، فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه، وارزقنا فيه الجد والاجتهاد، والنشاط وأعذنا فيه من الفتن.

4 الإكثار من الأعمال الصالحة عموماً: حتى تتهيأ النفس وتستعد، ومن ثواب الحسنة... الحسنة بعدها ولعل هذا والله أعلم من حكم إكثار النبي الصوم في شعبان، ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت \"ما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان\".

 

مسائل وتنبيهات:

المسألة الأولى: تحقيق التعبد وتكميله: لابد من تحقيق التعبد في الصيام وغيره من العبادات وإلا أصبح عادة رتيبة، فليس للمرء من عمله إلا ما نوى، فابحث عما يحقق تعبدك ويكمله بشروط التعبد كلها (المحبة والخوف والرجاء) من تلاوة القرآن بالتدبر، وتذكر فضل ما تعمل وفضل ما تترك.

 

المسألة الثانية: في قوله (إيماناً واحتساباً): قال: \"من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.. ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه\"، وقال: \"من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه\"، انظر كيف تكرر قوله في الجمل الثلاث \"إيماناً واحتساباً\"، وجُعل قيداً لحصول ذلك الثواب العظيم: وهو مغفرة ما تقدم من ذنبه، ومعنى هذه الجملة: أن العبد إذا أدى العبادة إيماناً واحتساباً كانت سبباً عظيماً في زيادة إيمانه، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وإذا زاد إيمانه ازداد طاعة.

 

المسألة الثالثة: نداء لأئمة المساجد ودعاة الخير: حيث إن هذا الشهر الكريم تصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون في غيره، فضلاً من الله ومنَّة على عباده، ولذا ترى الناس أحرص على الخير، وأبعد عن الشر منهم فيما سواه، من أجل هذا فحرى بالداعين إلى الله أن يستفيدوا من هذا الخير ويغتنموا الفرصة في تعليم الناس ما جهلوا، وتذكيرهم ما نسوا، وأشكال ذلك متعددة، فمنها اختيار الدروس المناسبة كالوقت بعد صلاة العصر، وقبل صلاة العشاء، أو غيرها مما يناسب ومما قد يختلف من ناس إلى ناس، ومنها: إفادة الأهل والأقارب، وفي الحديث: \"خيركم خيركم لأهله\" (رواه الترمذي وابن ماجه)، وإنه لمن الغفلة أن يهتم المرء بالناس بإرشادهم ودعوتهم وينسى أقرب الناس إليه وأحقهم ببره، وأعجب من ذلك أن يكون اهتمامه بغيره على حساب نفسه.

 

المسألة الرابعة: تقديم الفرض على النفل: في الحديث القدسي أن الله - تعالى -قال: \"وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه\" (رواه البخاري)، ويدخل في هذه المسألة الحرص على فريضة العشاء أكثر من صلاة التراويح في تبكيره، وطمأنينته فيها وتدبره القراءة فيها وغير ذلك، دون تقصير أو نقص من شأن التراويح، هذا على سبيل المثال لا الحصر.

 

المسألة الخامسة: في الوتر والقنوت: بعض الأئمة يطيل في الدعاء طولاً قد يشق على المصلين أو على بعضهم، ومن العجب أنك ترى من الأئمة من يسرع في قراءته ويهزها هزَّاً، فإذا دعا تأنى، وكرر الدعاء وأطال فيه، فلأن يعتدل في الدعاء خير من أن يؤدي ببعض المسلمين إلى شيء من السأم والملل، إلا أن يتحرى مناسبة، كليلة يرجو أن تكون هي ليلة القدر أو ساعة رقت فيها القلوب، نحو ذلك والله أعلم.

 

المسألة السادسة: في اغتنام ساعات ثمينة يكثر التفريط فيها: هناك ثلاث ساعات ثمينة يكثر التفريط فيها وهي: أول ساعة من النهار (بعد صلاة الفجر) وآخر ساعة من النهار، ووقت السحر، أما أول ساعة من النهار فتفوت غالباً بالنوم، وأما آخر ساعة من النهار فبالانشغال بإعداد الإفطار والتهيؤ له، وساعة السحر تفوت أحياناً بطول الانشغال بالسحور، هذه أوقات فاضلة قال عنها ابن رجب - رحمه الله - في (المحجة في سير الدلجة) في شرح قول النبي : \"استعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة\": يعني أن هذه الأوقات الثلاثة تكون أوقات السير إلى الله بالطاعات، وهي آخر الليل وأول النهار وآخره، وقد ذكر الله هذه الأوقات في قوله - تعالى -: فاصبر على مايقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن ءاناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى 130 (طه) فهذه الأوقات الثلاثة منها وقتان وهما أول النهار وآخره يجتمع في كل من هذين الوقتين عمل واجب وعمل تطوع، فأما العمل الواجب فهو صلاة الصبح وصلاة العصر وهما أفضل الصلوات الخمس، وهما البردان اللذان من حافظ عليهما دخل الجنة، وأما عمل التطوع فهو ذكر الله بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وقد وردت في فضله نصوص كثيرة (وكان السلف لآخر النهار أشد تعظيماً من أوله).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply