بسم الله الرحمن الرحيم
لمعرفة الحكم الشرعي لتنظيم النسل لابد من الرجوع إلى لآيات الكريمة التي تنص على ذلك نصا أو إشارة، ثم الاستناد إلى أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في الموضوع، وأخيرا الاسترشاد بآراء فقهائنا الأجلاء الذين يستنبطون الأحكام الفقهية من مصادر التشريع الإسلامي.
وفي مسألة \"تنظيم النسل\" أو \"تنظيم الأسرة\"، أو \"منع الحمل\"º \"وباستقراء آيات القرآن يتضح أنه لم يرد فيه نص يحرم منع الحمل أو الإقلال من النسل\"، إنما الذي نص عليه صراحة هو تحريم قتل الأولاد لسبب من الأسباب، قال - تعالى -: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيراً) (الإسراء: 31)، وقال - تعالى -: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرّموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين) (الأنعام: 140)، وقال- تبارك وتعالى -: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) (الأنعام: 151).
أي أن النصوص القرآنية جاءت دالة على تحريم قتل الأولاد وهم أحياء، وليس \"منع الحمل\" من هذا القبيل، فتنظيم النسل معناه \"أن يستعمل الزوجان أو أحدهما طريقة تمنع من الحمل في وقت دون وقت\"، وهو في معنى \"العزل\" الذي وردت في إباحته أحاديث كثيرة، في ردّ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - على أسئلة كثير من الصحابة رضوان الله عليهم في الموضوع، و\"العزل\" هو \"الإنزال خارج الفرج\"، أو هو بصورة أوضح \"النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج\". فالمراد منه منع دخول ماء الرجل إلى رحم المرأة حتى لا يلقح البويضة، ومن ثم عدم حصول تلقيح وحمل.
وفي الأسباب الداعية للعزل مسوغات كثيرة مما ورد في أسئلة الصحابة رضوان الله عليهمº فمنهم من قال: \"فأردنا أن نستمتع ونعزل\"، وقال آخر: \"اشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة وأحببنا العزل\"، وقال آخر: \"الرجل تكون له المرأة ترضع فيصيب منها ويكره أن تحمل منه، والرجل تكون له الأمة فيصيب منها ويكره أن تحمل منه\"، وقال آخر: \"إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل\".
إن المتأمل في الأحاديث المتقدمة الذكر يلحظ أن العزل كان هو الوسيلة المعروفة والمنتشرة بين العرب بغرض تنظيم النسل، وهذا يعني أن فكرة \" تنظيم النسل\" فكرة قديمة الطرح، متجددة الطرق والكيفيات، فالصحابة أنفسهم لم يتحرجوا من بسط هذا الموضوع أمام النبي - صلى الله عليه وسلم -، مبررين الدواعي التي تدعوهم للاستفسار.
فالفكرة موجودة، إنما الحكم الشرعي هو الذي لم يشرع بعد، فهذا الصحابي جابر بن عبد الله يقول \"كنا نعزل والقرآن ينزل\"، وفي رواية أخرى \" كنا نعزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغ ذلك نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فلم ينهنا\"، ومؤدى قول جابر \"فعلناه في زمن التشريع ولو كان حراما لم نقر عليه\".
فإباحة \" تنظيم النسل\" تأخذ حكمها من حكم \"العزل\" إذا كان مباحا، والفقهاء استنبطوا حكم العزل استنادا إلى هذه الأحاديث، وغيرها كثير في باب النكاح في كتب السنة، ولأن الأحاديث يفيد ظاهرها المنع، والحل في الوقت نفسهº فإن الفقهاء انقسموا إلى فرق، منهم من يرى إباحته شرط رضا الزوجة، ومنهم من يرى كراهته، ومنهم من يحرمه كلية. وجمهور الفقهاء يرى كراهة العزل عموماº وجوازه شرط رضا الزوجةº وهو الأمر الذي يتضح أكثر فأكثر عند ملاحظة فتاوى الفقهاء في مدى جواز شرب المرأة لدواء مانع للحمل، أو كما يعرف في عصرنا الحالي بموانع الحمل.
فتاوى بعض الفقهاء في استعمال موانع الحمل:
سئل الإمام العز بن عبد السلام عن استعمال أدوية منع الحمل، فأجاب: \"وليس للمرأة أن تستعمل ما يفسد القوة التي يتأتى بها الحمل\".
وأما الإمام ابن النجار الحنبلي فقد أفتى بجواز ذلك وقال: \"ولرجل شرب مباح يمنع الجماع، ولأنثى شربه لإلقاء نطفة، وحصول حيض\". ولمثل هذا القول ذهب صاحب الإنصاف.
ومن الحنفية من أفتى بجواز سد فم الرحم، وقيل شرط إذن الزوج.
وأما الأئمة المالكية فقد نقل الخلاف بينهم في هذه المسألة مما نقله الشيخ عليش حين قيل له: ما قولكم في استعمال دواء لمنع الحمل أو وضع شيء في الفرج حال الجماع، هل يجوز؟ قال الشيخ عليش: \"لا يجوز استعمال دواء لمنع الحمل\".
وأكثر الفقهاء المعاصرين على القول بجواز استعمال موانع الحمل بغرض تنظيم النسل، والمباعدة بين الولادات، لا تحديدا، بل توقيتا، وحتى يرتفع الحرج الداعي أصالة لمنع الحمل المؤقتº ومنهم الشيخ محمد بن صالح العثيمين، والدكتور وهبة الزحيلي، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، وغيرهم من العلماء الأفاضل.
وأما الهيئات العلمية ودور الإفتاء فهي كثيرة، والعمل بفتواها هو الذي ترتاح إليه نفوس كثير من الخلق، لما تضمه من علماء اجتمعوا على جواز أمر ما، فهذه هيئة كبار علماء المملكة العربية السعودية تقرر \"بأنه لا يجوز تحديد النسل مطلقا، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق لأن الله - تعالى -هو الرزاق ذو القوة المتين، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، أما إذا كان منع الحمل لضرورة محققة ككون المرأة لا تلد ولادة عادية … أو كان تأخيره لفترة ما لمصلحة يراها الزوجان فإنه لا مانع حينئذ من منع الحمل أو تأخيره عملا بما جاء في الأحاديث الصحيحة وما روي عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم من جواز العزل…\".
ومن المبادئ التي قررتها هيئة الإفتاء المصرية في موضوع تنظيم النسل\" جواز تنظيم النسل أمر لا تأباه نصوص السنة الشريفة، قياسا على جواز العزل في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويباح استعمال الوسائل الحديثة لمنع الحمل مؤقتا، أو تأخيره مدة..بالوسائل التي يبقى معها الزوجان صالحين للإنجاب\".
والذي يترجح في مسألة \"تنظيم النسل\" الجواز على رأي عامة الفقهاء، بالشروط المعينة والمحددة، إذا كانت المسوغات لا تخرج عن:
1. الخشية على حياة الأم أو صحتها.
2. الخشية من وقوع حرج دنيوي قد يفضي إلى حرج ديني كارتكاب الحرام والمحظور.
3. الخشية على الأولاد أن تسوء أخلاقهم أو تضطرب صحتهم، كما أفتى به الإمام ابن عابدين.
4. الخشية على الرضيع من حمل جديد.
وهذه الإباحة مشروطة بموافقة كلا الزوجين على هذا الأمر، لا أن يستبد القانون ويتحكم في تنظيم النسل، بالدعوة إليه والإجبار عليه في أحيان أخرى.
تنظيم الأسرة وعلاقته بحفظ النسل.
عرفت أن مسوغات تنظيم الأسرة ومنع الحمل عند العلماء المبيحين له، لا تخرج عن الخوف على الأم من وقوع ضرر بها، أو نزول حرج عند تربيتها للأولاد، أو خوف على الرضيع من حمل جديد. وهي مسوغات ترجع على النسل ابتداء قبل أن ترجع بالفائدة على الوالدينº فخشية الوالدين على أولادهما من الزمن الفاسد أن تضطرب تربيتهم، وتسوء أخلاقهم، هو سبب يرجع بالأصالة إلى حفظ النسل إبقاء واستدامة، بحيث يوجد أولاد بطريق شرعي ولكنهم سيئو الأخلاق والسلوك، وهو ما يخالف حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: \"تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة\".
كما أن كثرة الأولاد وهم في سن متقاربة توقع المرأة في حرج رعايتهم وتربيتهمº وأما الخشية على الرضيع من حمل جديد، فحتى لا يتأذى من عدم كفايته وأخذ كامل حقه من الرضاعةº لأن المرضعة الحامل يتوزع غذاؤها بينها وبين رضيعها والجنين الذي تحمله في بطنها، ولا يمكن أن يأخذ كل منهم حقه الكامل. فرفعا للحرج دعا المولى- تبارك وتعالى -الوالدة إلى إتمام رضاعة ابنها حولين كاملين، هذه المدة التي أفتى د. القرضاوي أنها مدة التباعد بين الولادات، فقد قال: \"نقرر أن المدة المثلى في نظر الإسلام بين كل ولدين هي ثلاثون أو ثلاثة وثلاثون شهرا لمن أراد أن يتم الرضاعة\".
فإذا كان \"تنظيم الأسرة\" وسيلة لحفظ النسل إبقاءً واستدامة، إلا أنه مشروط أن لا يعود على مقصده بالإبطال، فالقاعدة الأصولية (كل تكملة لها- من حيث هي تكملة- شرط، وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال)، فشرط تنظيم النسل عدم هدم النسل بالكلية، فليس \"تنظيم الأسرة\" قطع أصل النسل حتى يقال إنه بقطع النسل ينتفي مقصد الزواج الأصليº بل إن حقيقته هي ضبط وتنظيم وتباعد بين الولادات، لا تحديد للعدد الذي يجب على الأسرة إنجابه من الأطفال، وليس تعقيما يراد به منع إيجاد النسل بالكلية، وإلا كيف أباح المصطفى - صلى الله عليه وسلم - العزل، وناقش قضاياه مع الصحابة رضوان الله عليهم.
فالمسوغات الداعية لطرح فكرة (ضبط النسل) لم تدع لتحديد أو منع النسل الدائم وهدم مقصد إيجاد النسلº بل إنها دعت لرفع الحرج على بعض الأفراد مصداقا لقوله - تعالى -: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة: 185)، وقوله أيضا: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج: 78)، \"والمنع الفردي للنسل ترك للأفضل أو مكروه، وإذا وجد موجبه عند الفرد كان مباحا على مقدار هذه الرخصة الفردية\".
ولا توجد رخصة جماعية مثل قيام قانون يجبر كل الأفراد القيام بالتنظيم، \"ومعلوم في الشرع أن الرخص لا تعمم، فكيف يجعل من الرخصة حكما عاما للأمة\"º وليس من حق الحاكم أن يأمر ويجبر أفراد المجتمع بأسره على تنظيم أسرهم، وتحديد عدد أطفالهم، على اعتبار أن (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة)، كما دعت لذلك الوثيقة، في الضغط على الحكومات للقيام بهذا الأمر، لأجل أن يتحدد لكل دولة عدد سكانها بما يتوافق وإمكاناتها الاقتصادية!
فحقيقة \"تنظيم الأسرة أو النسل\" أنها مقيدة بشروط وضوابط حددّها الفقهاء، وليس لأي كان الخروج عما قيدت به.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد