بسم الله الرحمن الرحيم
1 - لعلماء الهند المسلمين جهود رائعة وعناية مخلصة بعلوم الشريعة الإسلامية بعامة وفي الحديث بخاصة.
ومنذ أكثر من نصف قرن، قال السيد محمد رشيد رضا، - رحمه الله -: (... ولولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر، لقضي عليها بالزوال من أمصار الشرق.
فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز، منذ القرن العاشر للهجرة، حتى بلغت منتهى الضعف في أوائل هذا القرن الرابع عشر).
ولئن بدأت علوم الحديث الشريف تأخذ مكانتها اللائقة في جامعاتنا اليوم: دراسة وفهماً والتزاماً فإن الوفاء يقتضي أن نشير إلى جهود الرواد والسابقين الذين كان لهم فضل في توجيه المسلمين إلى هذا الجانب، من خلال التعريف بعالم من هؤلاء العلماء، ودراسة واحد من كتبه التي يجمع فيها بين الدراسة الحديثية والفقهية، على طريقة كثير من علمائنا - رحمهم الله - وهذا العالم هو العلامة أبو الحسنات اللكنوي (1264 - 1304 هـ)، وكتابه هو (إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام).
2- مما بين أفغانستان والهند، تنقلت أسرة اشتهرت بالعلم والعلماء والصلحاء، واستقرت في مدينة (دهلي).
وكان منها: محمد بن عبد الحليم بن محمد أكبر بن المفتي أحمد أبي الرّحم، الذي ينتهي نسبه إلى الصحابي أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه-.
وفي عام 1264 هـ، رزقه الله - تعالى - بولده (عبد الحي) وكنيته (أبو الحسنات) واشتهر بلقب (اللكنوي)، نسبة إلى مدينة (لَكنَو) أو (لكهنو).
ومنحه الله - تعالى -منذ نشأته- قوة الحفظ، فحفظ القرآن الكريم وله من العمر خمس سنوات، وكان يحفظ - كما يقول عن نفسه - جميع الوقائع التي تقع له كالعيان.
وتنقل بين عدد من البلاد في الهند مع أبيه الذي كان مدرساً في (باندا) ثم انتقل إلى (جونفور)، وفيها شرع في تحصيل العلم وعمره إحدى عشرة سنة حتى فرغ من قراءة الكتب المدرسية في علوم كثيرة.
وتابع تعليمه بعد وفاة والده، ونال إجازات علمية كثيرة، وتصدر للتدريس ولازمه في (حيدر آباد) مدة من الزمن.
وكان شغوفاً بذلك منذ عنفوان الشباب، بل من زمن الصبا، فلم يقرأ كتاباً إلا درسه فيما بعد، وجمع بين العلم والتعليم والتربية، وكتب له في تدريسه القبول والرضى.
وقد بلغ أبو الحسنات مكانة في العلم والخلق ألهجت الألسنة عليه بالثناء، يشير إلى ذلك ما قاله العلامة الكبير عبد الحي اللكنوي في كتابه (نزهة الخواطر): (...
تبحر في العلوم، وتحرى في نقل الأحكام، وحرر المسائل، وانفرد في الهند بعلم الفتوى، فسارت بذكراه الركبان، بحيث أن، علماء كل إقليم يشيرون إلى جلالته.
وله في الأصول والفروع قوة كاملة، وقدرة شاملة، وفضيلة تامة، وإحاطة عامة.
وفي حسن التعليم صناعة لا يقدر عليها غيره.
وكان إذا اجتمع بأهل العلم، وجرت المباحثة في فن من فنون العلم لا يتكلم قط، بل ينظر إليهم ساكتاً، فيرجعون إليه بعد ذلك.
فيتكلم بكلام يقبله الجميع، ويقنع به كل سامع.
وكان هذا دأبه على مرور الأيام، لا يعتريه طيش ولا خفة في شيء كائناً ما كان.
فقد كان من عجائب الزمن، ومن محاسن الهند، وكان الثناء عليه كلمة إجماع، والاعتراف بفضله ليس فيه نزاع).
والرجل الذي يبلغ هذه المنزلة يأنف من العصبية المقيتة والتبعية الذليلة، فلا يرضى أن يقوده غيره - تقليداً أعمى - من حيث لا يبصر طريقه.
فقد تفقه على مذهب أبي حنيفة في الفروع والأصول - وهو المذهب المنتشر في تلك الأصقاع - ولكنه كان غير متعصب في المذهب، ويتبع الدليل، ويترك التقليد إذا وجد في المسألة نصاً صريحاً مخالفاً للمذهب.
وكتبه وتحقيقاته لكثير من المسائل، شاهد صادق على ذلك، - رحمه الله تعالى -.
قال في كتابه (النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير ص 48): ومن مِنَحِه - تعالى -أنه رزقني التوجه إلى فن الحديث وفقهه، ولا أعتمد على مسألة ما لم يوجد لها أصل من آية أو حديث.
وما كان خلاف الحديث الصحيح أتركه، وأظن المجتهد فيه معذوراً، بل مأجوراً.
ولكنني لست ممن يشوش العوام الذين هم كالأنعام، بل أتكلم بالناس على قدر عقولهم).
وكان سالكاً طريقاً وسطاً بين الإفراط والتفريط في مسائل الخلاف، فهو ليس ممن يختار التقليد البحت بحيث لا يترك قول الفقهاء، وإن خالفته الأدلة الشرعية.
ولا ممن يطعن عليهم ويهجر الفقه بالكلية! وهو شديد الاعتداد بالحديث وأهله - يرحمهم الله - أجمعين- فيقول في كتابه الذي سنعرض له بعد قليل، ص 228: (ومن نظر بعين الإنصاف وغاص في بحار الفقه والأصول، متجنباً عن الاعتساف، يعلم علماً يقيناً: أن أكثر المسائل الفرعية والأصلية التي اختلف فيها العلماء، فمذهب المحدثين فيها أقوى من مذاهب غيرهم.
وإني كلما أسير في شعب الاختلاف أجد قول المحدثين فيه قريباً من الإنصاف.
فلله درّهم، وعليه شكرهم! كيف لا، وهم ورثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، حقاً، ونواب شرعه صدقاً.
حشرنا الله في زمرتهم، وأماتنا على حبهم وسيرتهم.
وأمثال هذه الكلمات كثيرة تجدها مبثوثة في تضاعيف كتبه، مما يدل على اعتداده القوي بالدليل، وعدم تعصبه للمذهب، مع سعة إطلاعه وكثرة تنقيبه، وإنصافه لمن يخالفه في الرأي والمسألة.
3 - تلكم لمحات سريعة موجزة عن اللكنوي، أما كتابه (إمام الكلام.. ) فهو واسطة العقد بين مؤلفات كثيرة في القراءة في الصلاة، قبل اللكنوي وبعده.
وقد تعددت مناهج المؤلفين واختلفت طريقة بحثهم في المسألة، تحريراً وتأصيلاً ورداً مما لا مجال للإفاضة فيه الآن.
ولكن يحتاج القارئ المتبصر إلى بحث فقهي حديثي لهذه المسألة يستقصي فيه الأدلة بأنواعها، وينزل كل دليل منزلته، دون أن يأخذ ببعض الأدلة ويهمل بعضها الآخر، فيجمع أطراف المسألة كلها، ويخرج بنتيجة وحكم يؤيده الدليل الصحيح.
ولعل هذا الكتاب، الذي نعرض في هذه الصفحات، يحقق ذلك فيما أحسب: رتب المؤلف كتابه على مقدمة، وثلاثة أبواب، وخاتمة.
الباب الأول:
وعقده المؤلف لاختلاف علماء الأمة عن الصحابة، التابعين الأئمة المجتهدين، ومن بعدهم من فقهاء الملة.
وجعله في فصلين: الفصل الأول:
الآثار الواردة عن الصحابة -رضوان الله عليهم-، وساق فيه الروايات الكثيرة عنهم، والمروية في كتب الصحاح والسنن والآثار والمصنفات، وأيد ذلك بنقول كثيرة تبين أن المسألة خلافية، عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي والحازمي وغيرهم...
والفصل الثاني:
أقام المؤلف بحثه على (تنقيح المذاهب) على ثلاثة أصول أو مسالك: أ- الأول: أنه لا يقرأ خلف الإمام بحالٍ,، لا في السرية ولا في الجهرية، وهو مسلك فقهاء الحنفية ومن وافقهم.
ب- الثاني: يقرأ الفاتحة في السرية والجهرية كلتيهما.
وهو مسلك الشافعية.
ج- الثالث: يقرأ في السرية دون الجهرية.
وهو مسلك المالكية والحنابلة.
وتحت كل مسلك من هذه المسالك مذاهب ومسائل متفرقة، عرض لها المؤلف وناقشها مع الأدلة.
كما ناقش ما كتبه الشوكاني في (نيل الأوطار) بدليل قوي وحجة ناصعة وعبارة عفيفة.
الباب الثاني:
وفيه عرض المؤلف أدله أصحاب المساك الثلاثة السابقة من المذاهب الأربعة، ووجه الاستدلال بكل دليل.
مع ذكر ما يقوي هذه الأدلة أو يرد عليها ويضعفها.
ومن البحث في ذلك تعلم وجه استدلال كل مذهب بالدليل من النصوص الشرعية والإجماع والمعقول.
وقد اشتمل هذا الباب على ثلاثة فصول: الفصل الأول:
في دلائل الحنفية، ومن وافقهم على مذهبهم، وهي بأنواعها خمسة أصول وهي الاستدلال بالكتاب والسنه والآثار عن الصحابة والإجماع والمعقول.
وعقّب ذلك برأي الإمام البخاري - رحمه الله -، وأجاب عن اعتراضاته، بما يلتقي مع ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية كذلك، مما هو في ملحق الكتاب.
وفي هذا البحث كلام طويل عن السكتات في الصلاة، من حيث عددها ومكانها وما الذي يشرع منها.
الفصل الثاني:
وعقده لعرض أدلة أصحاب المسلك الثاني، وفيه بحث ثلاثة أصول أو أدلة: الأول: دليل الكتاب الكريم (فَاقرَءُوا مَا تَيَسَّرَ..
) وقوله - تعالى -: (واذكُر رَّبَّكَ فِي نَفسِكَ...
) والثاني: استدلوا فيه بآثار عن الصحابة في تجويز القراءة، مما روي عن عمر، وابن عمر، وأبي بن كعب، وأبي هريرة، وحذيفة، وعلي، وعائشة، وغيرهم، - رضي الله عنهم - أجمعين.
وفي الأصل الثالث: استدل بالمعقول من وجوه، أولها: أن القراءة ركن يشترك فيه الإمام والمأموم، والثاني: أن الإمام لا يتحمل عن المأموم شيئاً من الفرائض غير القراءة فلا يتحمل القراءة كذلك.
وفي الأصل الرابع: استدلوا بحديثي: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج) و (.. لا تفعلوا إلا بأم الكتاب).
وقد أطال النفس في هذا الأصل وما وجه إليه من اعتراضات، ورد ذلك كله بوجوه كثيرة، تخللها مبحث طويل في رواية محمد بن إسحاق وتوثيق العلماء لروايته.
ثم حرر النزاع حول مسألتين هما: ركنية الفاتحة في الصلاة، وقراءة المقتدي لها.
الفصل الثالث:
وهو فصل موجز لأدلة أصحاب المسلك الثالث، فلا حاجة للإطالة، فهم قد أخذوا من كل مسلك بطرف، وردّوا بأدلة هذا على ذاك.
الباب الثالث:
وفيه ضبط المذاهب السابقة إجمالاً والإشارة إلى دليل كل منها تفصيلاً مع ترجيح يقبله أصحاب النظر الصحيح، استهله بما ورد في ركنية الفاتحة، مبينّاً أصل ومبنى الخلاف في المسألة.
ترجيح:
ثم يخلص إلى القول بعدم افتراض القراءة على المؤتم مطلقاً، واستحباب قراءة الفاتحة أو سنيّتها في السرية، ولما لم يثبت استحباب سكتات الإمام، لم يقولوا بالقراءة في السكتة، كما ذهب إليه جمع من المحدثين.
الخاتمة والملاحق:
وختم الكتاب بحكم قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة مرجحاً دليل من قال باستحباب القراءة فيها.
وزاد من قيمة الكتاب ملحقان اثنان: أحدهما لشيخ الإسلام ابن تيمية حول القراءة، والثاني لحافظ المغرب ابن عبد البر، - رحمهما الله -، وقد بلغ الملحقان أكثر من خمسين صفحة.
- 4 - وبعد، فهذا الكتاب حديث وفقه، يتصل بأعظم ركن من أركان الإسلام بعد الشهادتين، يدرب القارئ على الاستدلال والمناقشة، ويأخذ بيده في دراسة الفقه على بصيرة، وفي تضاعيفه تجد كثيراً من المسائل الحديثية والأصولية وغيرها.
وقد صدر هذا الكتاب بطبعة جديدة، فيها عمق الموضوع مع جمال الإخراج، وزوده المحقق بمقدمة عن الموضوع والمؤلفات ثم ترجمة المؤلف.
وأضاف إليه تعليقات ونصوصاً، وخرج أحاديثه وترجم لبعض أعلامه، وصنع لها فهارس تعين على الإفادة منه.
وهذا لا يمنع من إبداء ملاحظة هامةº فالكتاب عليه حاشية للمؤلف نفسه، التقط منها المحقق بعض الفوائد وأثبتها في الكتاب، ولو طبع الكتاب كاملاً لكان أكثر فائدة، وإن كان سيؤدي إلى زيادة حجم الكتاب إلا إن كان القصد مصروفاً إلى الكتاب نفسه دون حاشيته.
ووفق الله العاملين والمخلصين والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد