بسم الله الرحمن الرحيم
المسألة الثانية: حكم لبس ثياب الكفار*:
وفيه أمران:
-الأمر الأول: لبس ثياب الكفار التي لا تلي عوراتهم.
-الأمر الثاني: لبس ثياب الكفار التي تلي عوراتهم.
الأمـر الأول:
حكم لبس ثياب الكفار التي لا تلي عوراتهم.
اختلف الفقهاء في حكم لبس المسلم للثياب التي استعملها الكفار مما لا تلي عوراتهم، كالعمائم الثياب الفوقانية والمعاطف ونحوها على ثلاثة أقوال هي:
القول الأول: أنه يجوز لبسها واستعمالها.
وهذا مذهب الحنفية (1)، والحنابلة (2).
القول الثاني: أنه يكره لبسها.
وهذا مذهب الشافعية (3).
القول الثالث: أنه لا يجوز لبسها.
وهذا مذهب المالكية (4).
الأدلــــة:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول:
أن الأصل في الثياب هو الطهارة فلا تثبت النجاسة بالشك (5).
الدليل الثاني:
\"أن التوارث جارٍ, فيما بين المسلمين بالصلاة في الثياب المغنومة من الكفرة قبل الغسل\" (6).
الدليل الثالث:
أن خبث الكفار في اعتقاده لا يتعدى إلى ثيابه فتبقى ثيابه على أصلها في الطهارة(7).
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول:
عن أبي ثعلبة الخشني قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إنا بأرض قوم من أهل الكتاب نأكل في آنيتهم، وأرض صيد أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم أو بكلبي الذي ليس بمعلم، فأخبرني ما الذي يحل لنا من ذلك، قال: أما ما ذكرت أنك بأرض قوم من أهل الكتاب، تأكلون في آنيتهم، فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها، وأما ما ذكرت أنك بأرض صيد، فما أصبت بقوسك فاذكر اسم الله عليه ثم كل، وما أصبت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كل، وما أصبت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل(8).
وجه الدلالة:
أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن استعمال أواني أهل الكتاب فيقاس عليه استعمال ثيابهم، ولبسها وأقل أحوال النهي الكراهة، فيكون استعمال ثيابهم ولبسها مكروهاً.
يناقش:
بأنه لا يسلم لكم هذا الاستدلالº لأن هذا الحديث لم يرد في الثياب وإنما ورد في الأواني فلا يصح قياس الثياب على الأوانيº لوجود الفارق بينها.
وعند التسليم بصحة قياس الثياب على الأواني فإنه يرد عليه الاعتراض من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:
أن السؤال كان عن الآنية التي يطبخون فهيا لحم الخنزير ويشربون فيها الخمر كما جاء في رواية أبي داود
الوجه الثاني:
أن النهي عن استعمالها مع وجود غيرها محمول على الاستحباب.
الوجه الثالث:
قال البيهقي: روى عن أبي ثعلبة الخشني ما دل على أن الأمر بالغسل قد وقع عند العلم بنجاسة آنيتهم.
الدليل الثاني:
أن هذه الثياب قريبة من موضوع الحدث فقد لا يتنزهون من البول (9).
يناقش:
بأنه لا يسلم لكم أن هذه الثياب قريبة من الحدثº لأنها لا تلي عوراتهم فهي بعيدة عن مواضع الحدث، وعلى هذا فإنها تبقى على أصلها وهو الطهارة.
الدليل الثالث:
أن الكفار لا يتورعون عن النجاسة ولا تسلم ثيابهم منها، وأدنى ما يؤثر ذلك الكراهة (10).
يناقش: بأنه يسلم لكم أنهم لا يتورعون عن النجاسة، ولكن ذلك يكون في الثياب التي تلي عوراتهم وهلي موضع النجاسة، دون الثياب التي لا تلي عوراتهم فهي بعيدة عن موضع النجاسة، فتبقى على أصلها وهو الطهارة ما لم يعلم يقيناً نجاستها.
أدلة القول الثالث:
الدليل الأول:
قال الله - تعالى -: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا)التوبة: 28.
وجه الدلالة:
أن الله - سبحانه وتعالى - بيَّن في هذه الآية نجاسة المشركين، ومعنى هذا أنهم نجس وكل ما يباشرونه من ثياب ونحوها فإنه يكون نجساًº لنجاستهم فلا يصح استعماله قبل غسله.
نوقش: بأن المراد بنجاسة المشركين في هذه الآية نجاسة اعتقادهم ودينهم المحرف، وليس المراد نجاسة أبدانهم وثيابهم وأوانيهم بدليل أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أدخلهم المسجد واستعمل آنيتهم وأكل طعامهم (11)
الدليل الثاني:
عن أبي ثعلبة الخشني قال: \" أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله إنا بأرض قوم من أهل الكتاب نأكل في آنيتهم، وأرض صيد أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم أو بكلبي الذي ليس بمعلم، فأخبرني ما الذي يحل لنا من ذلك، قال: أما ما ذكرت أنك بأرض قوم من أهل الكتاب، تأكلون في آنيتهم، فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها، وأما ما ذكرت أنك بأرض صيد، فما أصبت بقوسك فاذكر السم الله عليه ثم كل، وما أصبت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كل، وما أصبت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل \" (12).
وجه الدلالة:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن استعمال أواني الكفار إلاَّ عند عدم وجود غيرها فإنه يجب غسلها، فيقاس عليه استعمال ثيابهم ولبسها فيكون محرماً إلاَّ عند عدم وجود غيرها فإنه يجب غسلها.
يناقش هذا الدليل:
بما نوقش به الدليل الأول من أدلة القول الثاني في هذه المسألة (13).
الترجيــــح:
بعد النظر في هذه المسألة والاطلاع على الأقوال الواردة فيها ومعرفة أدلة كل قول منها، ومناقشة ما يحتاج منها إلى مناقشة، تبيّن لي والله أعلم بالصواب- أن القول الراجح هو القول الأول، وهو أنه يجوز لبس ثياب الكفار التي لا تلي عوراتهم واستعمالها، ولو كان ذلك قبل غسلهاº لأن الأصل فيها الطهارة، والنجاسة طارئة لا تثبت بالشك.
وذلك لقوة أدلته وسلامتها من المناقشة، ولضعف أدلة الأقوال الأخرى وعدم سلامتها من المناقشة، ولأن الأصل في الثياب الطهارة، والنجاسة مشكوك فيها، فلا يقدم المشكوك فيه على المتيقن، والله أعلم.
الأمــر الثــاني:
حكم لبس ثياب الكفار التي تلي عوراتهم
اختلف الفقهاء في حكم استعمال المسلم كملابسهم الداخلية التي تباشر أجسادهم (14) على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يحرم استعمالها.
وهذا مذهب المالكية (15)، ووجه عند الحنابلة ذهب إليه القاضي أبو يعلى (16).
القول الثاني أنه يكره استعمالها.
وهذا مذهب الحنفية (17)، والشافعية (18)، ورواية عند الحنابلة(19).
القول الثالث: أنه يجوز استعمالها.
وهذا القول رواية عند الحنابلة وهي المذهب (20).
الأدلــــة:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول:
عن أبي ثعلبة الخشني: \" أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا\" (21).
وجه الدلالة:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن استعمال أواني أهل الكتاب عند مباشرتها للنجاسة، كالخنزير والخمر عند وجود غيرها، وأمر بغسلها عند عدم وجود غيرها، مما يدل على نجاستها، فيقاس على أوانيهم ثيابهم التي تباشر النجاسة وهي ثيابهم التي تلي عوراتهم، فتكون نجسة لا تستعمل عند وجود غيرها، وعند عدم غيرها تغسل لنزول النجاسة ثم تستعمل.
الدليل الثاني:
أن هذه الثياب التي تلي عوراتهم قريبة من موضع الحدث بل موالية له، وهم في العادة في هذا الزمان لا يتنزهون من البول، بل يلبسون ثيابهم هذه بمجرد انتهائهم من التبول، دون أن يستنجوا أو يستجمروا، فتكون نجسة.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول:
قالوا: قلنا بالجواز لأننا على يقين من الطهارة، وفي شك من النجاسة. وأما الكراهة فلأنه يلي موضع الحدث وهم لا يحسنون الاستنجاء ويعرقون فهيا لا محالة، والظاهر أن إزارهم لا ينفك عن نجاسة فتكره الصلاة فيه (22)
يناقش:
بأن آخر دليلكم صحيح، ويعارض أوله حيث ذكرتم فيه أنهم لا يحسنون الاستنجاء، بل هو لا يستنجون أصلاً ولا يستجمرون، وهم يلبسون ثيابهم الموالية لعوراتهم بعد انتهائهم من البول مباشرة، قبل استنجائهم أو استجمارهم، فتكون ثيابهم الموالية لعوراتهم نجسة يقينية نقلت من حكم الطهارة الأصلي.
الدليل الثاني:
أن الثياب التي تلي عورات الكفار قريبة من موضع الحدث، فقد لا يتنزهون عن الحدثº فيكون استعمالها مكروهاً للشك في نجاستها (23).
يناقش:
بأننا نسلم لكم أن الثياب التي تلي عورات الكفار قريبة من موضع الحدث، ولكننا لا نسلم لكم ببقية الدليل وهو أنهم قد لا يتنزهون عن الحدث فيكون استعمالها مكروهاً للشك في نجاستها، بل نقول: إنهم يقيناً لا يتنزهون عن الحدث فيكون استعمالها محرماً لتيقننا نجاستها.
أدلة القول الثالث:
الدليل الأول:
أن الأصل في الثياب هو الطهارة فلا تثبت النجاسة بالشك (24).
يناقش بأنه يسلم لكم أن الثياب التي لا تلي عورات الكافرين الأصل فيها الطهارة، والنجاسة فيها مشكوك فيها فتبقى على الأصل وهو الطهارة، ولكنه لا يسلم لكن أن ثياب الكفار التي تلي عوراتهم الأصل فهيا الطهارةº لأننا نعلم يقيناً أنهم لا يتورعون عن النجاسة وأنهم يتبولون فلا يستنجون ولا يستجمرون.
الدليل الثاني:
أن خبث الكافر في اعتقاده لا يتعدى إلى ثيابه (25).
يناقش:
بأنها نسلم لكم أن خبث الكفار في اعتقاده لا يتعدى إلى ثيابه، ولذلك لا نقول إن نجاسة ثياب الكفار المالية لعوراتهم منتقلة إليهم ومتعدية من أجسادهم أو من اعتقادهم، وإنما نقول إن هذه النجاسة جاءت من كونهم لا يتورعون عن النجاسة، حيث إنهم يتبولون ولا يستنجون ولا يستجمرون ولا يتنظفون عقب ذلك فتصيب النجاسة ثيابهم التي تلي عوراتهم.
الترجيــــح:
بعد النظر في المسألة السابقة ومعرفة الأقوال الواردة فهيا، والإطلاع على أدلتها ومناقشة ما يحتاج إلى مناقشة منها، تبين لي أن القول الراجح في هذه المسألة هو القول الأول، وهو أنه لا يجوز استعمال ثياب الكفار التي تلي عوراتهم ما لم تطهر بعدهم -º لنجاستهاº وذلك لقوة أدلته، ولضعف أدلة الأقوال الأخرى وعدم سلامتها من المناقشة، ولأن الغالب على الكفار الآن عدم تنظفهم بعد قضاء الحاجة، بل يلبسون ثيابهم مباشرة، والله أعلم
----------------------------
* ن/ع مجلة المجمع الفقهي العدد 13 /السنة الثالثة عشرة.
(1) بدائع الصنائع 1/81، المبسوط 1/97، شرح فتح القدير 1/211، حاشية ابن عابدين 1/205.
(2) المغني 1/111، شرح العمدة في الفقه 1/121، المقنع 1/155، الشرح الكبير لابن قدامة 1/158، شرح منتهى الإرادات1/26.
(3) المهذب 1/، المجموع 1/263 مغني المحتاج 1/31.
(4) المدونة1/35، الشرح الكبير للدردير 1/61، التاج والإكليل1/121، حاشية الدسوقي 1/61.
(5) انظر بدائع الصنائع 1/81، المبسوط1 /97.
(6) بدائع الصنائع 1/81.
(7) انظر المبسوط 1/97.
(8) رواه البخاري، صحيح البخاري 6/219، كتاب الذبائح والصيد، باب صيد القوس، ورواه مسلم، صحيح اسلم 2/1522، كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، واللفظ له.
(9) انظر: بدائع الصنائع 1/81.
(10) انظر: الشرح الكبير لابن قدامة 1/157.
(11) انظر المجموع 1/264-265..
(12) سبق ذكر تخريجه.
(13) سبق ذكر هذه المناقشة.
(14)عند سبر أحوال الكفار في هذا الوقت- نجد أنهم لا يتورعون عن النجاسة عن قضاء الحاجةº حيث إنهم يتبولون ويلبسون ثيابهم دون أن يستجمروا أو يستنجوا. وقد شاهدت هذا في جميع البلاد الغربية التي زرتها. منها (فرنسا، إيطاليا، أسبانيا، بريطانيا، التشيك، ألمانيا)، وقد أخبرني كثير من المسلمين الذين يعيشون في هذه البلدان بأن هذا حال الكفار دائماً. فالإنسان منهم يتبول وهو قائم ثم يلبس لباسه، ويخرج من دورة المياه دون أن يتننظف بالاستنجاء أو الاستجمار، وتجد أنه يتبول في دورات مياه ليس فيها ماء ولا حتى مناديل ورقية، ثم يلبس ملابسه ويخرج، وهذا بالتالي يجعل الإنسان يقطع بأن ثيابهم التي تلي عوراتهم نجسة بالنظر لحالهم.
(15) المدونة 1/25، حاشية الدسوقي 1/66، الشرح الكبير للدردير1/ 61، التاج والإكليل 1/121.
(16) المغني 1/111، شرح العمدة في الفقه 1/121، الشرح الكبير لابن قدامة 1/155، الإنصاف 1/155.
(17) بدائع الصنائع 1/ ه1، شرح فتح القدير 1/211، المبسوط 1/97، حاشبة ابن عابدين1/205.
(18) المهذب 1/121، المجموع1/263، مغني المحتاج1/31.
(19) الإنصاف1/155.
(20) المغني 1/111، شرح العمدة في الفقه 1/121، الشرح الكبير لابن قدامة 1/155، الإنصاف 1/155، شرح منتهى الإرادات1/26.
(21) رواه ابو داود. سسن أبي داود 2/291، كتاب الأطعمة، باب الأكل في آنية أهل لكتاب.
(22) المبسوط 1/97
(23) انظر بدائع الصنائع 1/81.
(24) انظر بدائع الصنائع1/81، المبسوط1/97.
(25) المبسوط1/97
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد