حكم زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر (د)
حكم المسألة:
إن المفاسد التي سبق ذكرها في الحلقة الماضية ليست مفروضة، وإنما هي واقعة في الغالب مع الغالب من المسلمين المقيمين في دار الكفر ممن يتزوجون الكافرات، وقد تكون هناك مفاسد كثيرة يعرفها أولئك المسلمون الذي يقعون في شراك الاستيطان في بلاد الكفر ولو لم يكن من تلك المفاسد إلا وقوع المسلم نفسه في الارتداد عن دينه، أو التخلق بأخلاق الكفار التي لا يقرها الإسلام، وكذلك مفسدة تنشئة نسله على الكفر وعادات الكفار، لو لم يكن من تلك المفاسد كلها إلا هاتان المفسدتان لكانتا كافيتين في القول بتحريم زواج المسلم بالكتابية في بلاد الكفر، فكيف بها إذا اجتمعت كلها؟!.
إذا أفضى المباح إلى محرم
معلوم أن المباح هو ما استوى طرفاه (1)، أي: فعله و تركه، فهو ليس مطلوب الفعل و لا مطلوب الترك شرعاً من حيث هو مباح
فإذا كان وسيلة إلى مندوب صار مطلوب الفعل ندباً، وإن كان وسيلة إلى مكروه صار مطلوب الترك كراهة فإذا كان ذريعة إلى محرم صار مطلوب الترك تحريماً. وإن كان وسيلة إلى واجب صار مطلوب الفعل وجوباً؟ و نكاح المسلم الكتابية مباح من حيث هو فإذا صار ذريعة إلى تلك المفاسد التي كل مفسدة منها محرمة وحدها، فإنه يصير مطلوب الترك تحريماً لذلك.
هذا هو الحكم الذي اطمأنت إليه النفس بالنسبة لزواج المسلم بالكتابية في ديار الكفر، ما دامت تلك المفاسد تترتب عليه، فإذا ادعى مدع أن تلك المفاسد لا تترتب على ذلك و أثبت حجة على دعواه فالأمر عندئذ يختلف، وما إخال أحداً يثبت ذلك اللهم إلا في مسائل فردية نادرة، والعبرة بالغالب وليس بالنادر.
و لا أظن أن الذي توصلت إليه في هذه المسألة يخالف ما ذهب إليه علماء الإسلام قديماً، فإن تحريم الزواج بالكتابية في دار الكفر في هذه الأيام أكثر شبهاً بدار الحرب في الماضي، وقد حرم الزواج بالكتابية في دار الحرب: الخليفة الرابع علي بن أبي طالب وابن عباس - رضي الله عنهما -، ورجح ذلك بعض علماء المذهب الحنفي، وكرهه آخرون منهم، كما كرهه كراهة شديدة الإمام مالك وهو كذلك في المذهب الشافعي، وصرح بتحريمه علماء الحنابلة وعللوا ذلك بمفسدة ركونه إليها وسكناه في دار الحرب، وتنشئة أولاده على الكفر و محبة أهله.
وهذه المفاسد وغيرها موجودة في دار الكفر في هذه الأيام.
وهناك قاعدة شرعية عظيمة، وهي أن الدين من الضرورات التي يجب حفظها، والزواج بالكتابية في دار الكفر يعود على هذه الضرورة بالنقض، إما دين الزوج المسلم وإما دين ذريته، وإما دينه ودين ذريته (2).
و لعل في هذه الأمور مقنعاً لمن يريد الحق والعمل بما يرضي الله - سبحانه وتعالى -.
الضرورة تقدر بقدرها:
إذا كان حكم زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر هو التحريم لما مضى من المفاسد المترتبة عليه، فما حكم المشقة المترتبة على تحريمه بالنسبة لمن يضطر إلى السكن في دار الكفر من أصناف المسلمين الآتية؟
صنف السفراء والموظفين التابعين لهم: الذين تندبهم حكومات الشعوب الإسلامية للقيام بمصالحها في تلك الدول.
صنف الطلبة: الذين يبتعثون لأخذ العلوم التي لا غنى لبلادهم عنها، وهي لا توجد في بلادهم.
صنف بعض المسلمين الذي يؤذون في بلادهم: بالاعتداء على دينهم أو أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم أو تلك الأمور مجتمعة، من قبل حكام بلادهم الظلمة بسبب مخالفتهم لهم في بعض تصرفاتهم المخالفة للإسلام، أو بسبب بعض الاتجاهات السياسية المختلفة، ولا يجدون من يأذن لهم بالهجرة إلى بعض البلدان الإسلامية، فيضطرون إلى الانتقال إلى بعض بلاد الكفر التي يحصلون فيها على أمن نسبي، كما هو الحال في بلدان الغرب، كالدول الأوربية الغربية، والولايات المتحدة الأمريكية وكندا ونحوها.
صنف المسلمين الذين هم أصلاً من بلاد الكفر:
صنف التجار: الذين يحتاجون إلى البقاء في بلاد الكفر.
والجواب: أن الضرورة تقدر بقدرها.
فإذا خاف هؤلاء الأصناف من الوقوع في جريمة الزنا بسبب المغريات والسبل الداعية إليه في تلك البلدان فعليهم أن يتزوجوا مسلمات صالحات من بلادهم ويسافروا بهن معهم، وأن يحاولوا إيجاد مساكن متقاربة لهم في البلد الذي ينزلون فيه، لتكون أسرهم متجاورة حتى يحصل بينهم التزاور والتعاون على الخير ليعشوا عيشه إسلامية حسب الاستطاعة.
وهذه الحالة تشمل الطلاب و السفراء ومن يتبعهم من الموظفين و بعض الجاليات التي يتمكن أفرادها من بعث أولادهم إلى بلدانهم أو إيجاد مدارس إسلامية خاصة بهم في بلاد الكفر.
وكذلك الذي يدخل في الإسلام من أهل تلك البلدان إذا تمكن من الحصول على زوجة مسلمة صالحة ومجاورة الأسر المسلمة ليتعاون معها على تربية أسرته وأولاده.
أما المسلم الذي يحتاج إلى البقاء في تلك البلدان فترات قصيرة للتجارة و نحوها فعليه أن يصبر ويتقي الله في ترك المحرمات، وإذا رأى أنه يخاف على نفسه فليصطحب معه أهله وبعض محارمها لمرافقتها عند انشغاله، فإذا قضى حاجته رجع إلى بلاده.
وكل من يقدر على ترك السكنى في بلاد الكفر فلا يجوز له البقاء فيها خشية الفتنة على نفسه وأسرته، ومن اضطر إلى البقاء فيها ـ والله أعلم بالمضطر ـ ولم يجد مسلمة يحصن بها نفسه وخاف على نفسه الزنا فيجوز له ـ من باب الاضطرار ـ أن يتزوج الكتابية اليهودية أو النصرانية التي مازالت تعترف بدينها ولم تتنكر له بالإلحاد ولكن يجب عليه أن يتخذ الوسائل التي تمنعها من الإنجاب له، لأنه إذا أنجبت له أولاداًَ خاف عليهم من إفسادهم بتنشئتهم على الكفر وعادات الكفار، فإنه شبيه بالأسير في بلاد الحرب والتاجر، وقد مضى بأنهما لا يتزوجان الكتابية ولا يطآن زوجاتهم المسلمات خشية من اعتداء الكفار عليهن وإنجابهن أولاداً ليسوا من أزواجهن المسلمين، إلا أنني أرى أن الزوجة المسلمة يمكن لزوجها أن يطأها وينجب منها إذا كانت صالحة، وغلب على ظنه تمكنه من تربية أولاده منها في بلاده، أو في مدرسة إسلامية في نفس البلاد التي يعيش فيها كما مضى وإنما قلنا بوجوب اتخاذ الوسائل التي تمنع الإنجاب من الكتابية، لما مضى من المفاسد المترتبة على الزواج بها في بلاد الكفر، ومن ذلك تنشئة الأولاد على الكفر وأخلاق الكفار، فإذا غلب على ظنه تنشئتهم على الإسلام فلا يجب عليه حينئذ أن يتخذ وسائل عدم الإنجاب، وهذا يشمل المسلم الوافد إلى بلاد الكفر والذي يدخل في الإسلام من أهل ذلك البلد.
نتائج البحث
وبعد، فإن الصحيح ما عليه جمهور علماء المسلمين من جواز المسلم بالكتابية في بلاد المسلمين وهي الذمية التي تخضع لأحكام الإسلام العامة وأن الأفضل مع الجواز ترك ذلك وقد كرهه أغلب العلماء.
وأنه لا يجوز للمسلم الزواج بالحربية، وهي الكتابية التي تعيش في بلاد الحرب، على الصحيح من أقوال العلماء.
وأن بلاد الكفر اليوم حكمها حكم بلاد الحرب في هذا الحكم بالذات لأن المفاسد التي تترتب على زواج المسلم بالكتابية في بلاد الحرب تترتب على زواج المسلم بالكتابية في بلاد الكفر اليوم.
وإذا دعت الضرورة أن يتزوج المسلم بالكتابية في بلاد الكفر وغلب على ظنه أن ذريته ستنشأ تنشئة إسلامية فلا يجب عليه أن يتخذ الوسائل التي تمنع الإنجاب، وإن غلب على ظنه عكس ذلك وجب عليه اتخاذ ذلك.
أما إذا غلب على ظنه فتنته هو في دينه أو فتنة أولاده منها أو من غيرها فإنه لا يجوزله أن يتزوج بها مطلقاً، وعليه أن يتقي الله ويبتعد عن الحرام ويبحث عن زوجة مسلمة صالحة.
هذا ما ظهر لي في هذا البحث، فإن كان صواباًَ فالله هو الذي وفقني للوصول إليه، وإن كان خطأً فأستغفر الله وأتوب إليه، وفي كلا الأمرين اسأل الله ثوابه فإني ما قصدت إلا رضاه، وسبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
----------------------------------------
(1) راجع الموافقات للشاطبي (1/109) تحقيق عبدا لله دراز.
(2) راجع أول الجزء الثاني من كتاب الموافقات..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد