بسم الله الرحمن الرحيم
ما حكم بيع المسجد - إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه -، وكثيراً ما يشتري المسلمون منزلاً ويحولونه مسجداً، فإذا انتقلت غالبية المسلمين من المنطقة لظروف العمل هجر المسجد أو أهمل، وقد يستولي عليه آخرون، ومن الممكن بيعه واستبداله بمسجد يؤسس في مكان فيه مسلمون. فما حكم هذا البيع أو الاستبدال؟ وإذا لم يتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر فما أقرب الوجوه التي يجوز صرف ثمن المسجد فيها؟
الجواب:
إن المواضع التي يصلي فيها المسلمون في البلاد الغربية على قسمين: الأول: ما يتخذونه موضع صلاة للمسلمين، ومحل اجتماعاتهم الدينية، دون أن يجعلوه مسجداً فقهياً، بأن يقفوا ذلك المحل والبناء كمسجد، ولذلك ربما يسمونها (المركز الإسلامي) أو (دار صلاة) أو (دار جماعة) ولا يسمونه مسجداً.
وإن الأمر في مثل هذه المواضع سهل ميسور، لأنها وإن كانت تستعمل للصلاة فيها، ليست مساجد شرعية، لأن أهلها لم يجعلوها مسجداً، فكلما أراد أهلها أن يبيعوا هذه المواضع لمصالح المسلمين جاز لهم ذلك بالإجماع.
والثاني: ما اتخذوه مسجداً شرعياً، وجعلوا أرضه وقفاً كمسجد فالحكم في مثل ذلك عند جمهور الفقهاء أن هذا المكان يبقى مسجداً إلى قيام الساعة، ولا يجوز بيعه في حال من الأحوال، ولا يرجع إلى ملك واقفه أبداً، وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهم الله - تعالى -.
يقول الخطيب الشربيني الشافعي - رحمه الله -:
(ولو انهدم مسجد، وتعذرت إعادته أو تعطل بخراب البلد مثلاً، لم يعد ملكاً، ولم يبع بحال، ولم ينقض إن لم يخف عليه بإمكان الصلاة فيه ولإمكان عوده كما كان...فإن خيف عليه نقض، وبنى الحاكم بنقضه مسجداً آخر إن رأى ذلك وإلا حفظه، وبناؤه بقربه أولى، ولا يبني به بئراً)(مغني المحتاج 2/392)
ويقول الموّاق من فقهاء المالكية:
(يمنع بيع ما خرب من ربع الحبس مطلقاً،.... وعبارة الرسالة: ولا يباع الحبس وإن خرب... وفي الطرر عن ابن عبد الغفور: لا يجوز بيع مواضع المساجد الخربة، لأنها وقف، ولا بأس ببيع نقضها إذا خيف عليه الفساد للضرورة إلى ذلك)(التاج والإكليل 6/42)
وجاء في الهداية من كتب الفقه الحنفي:
(ومن اتخذ أرضه مسجداً لم يكن له أن يرجع فيه، ولا يبيعه، ولا يورث عنه، لأنه تجرد عن حق العباد، وصار خالصاً لله، وهذا لأن الأشياء كلها لله - تعالى -، وإذا أسقط العبد ما ثبت له من الحق رجع إلى أصله فانقطع تصرفه عنه، كما في الإعتاق. ولو خرب ما حول المسجد واستغني عنه يبقى مسجداً عند أبي يوسف لأنه إسقاط منه، فلا يعود إلى ملكه) (الهداية مع فتح القدير 5/446)
إلا أن مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - في مثل هذا أن المسجد يجوز بيعه عندما وقع الا ستغناء عنه بالكلية،
فقد جاء في المغني لابن قدامة:
(إن الوقف إذا خرب، وتعطلت منافعه، كدار انهدمت أو أرض خربت، وعادت مواتاً، ولم تمكن عمارتها، أو مسجد. انتقل أهل القرية عنه، وصار في موضع لا يصلى فيه، أو ضاق بأهله، ولم يمكن توسيعه في موضعه، أو تشعب جميعه، فلم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه، جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته، وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه) (المغني مع الشرح الكبير 6/225)
وهناك قول آخر، وهو قول الإمام محمد بن الحسن الشيباني أن الوقف إذا استغني عنه تماماً، فإنه يعود إلى ملك الواقف أو إلى وارثه بعد موته،
يقول صاحب الهداية:
(وعند محمد يعود إلى ملك الباني، أو إلى وارثه بعد موته، لأنه عين لنوع قربة، وقد انقطعت فصار كحصير المسجد وحشيشه إذا استغني عنه) (الهداية مع فتح القدير 5/446) فإذا عاد إلى ملك الواقف جاز بيعه بعد ذلك.
وقد استدل الجمهور على قولهم بعدم جواز البيع، وعدم انتقاله الى ملك الواقف، بقصة عمر رضي الله عنه بخيبر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان من شرائط الوقف: أنه لا يباع أصلها، ولا تباع ولا تورث، ولا توهب. أخرجه الشيخان، وهذا لفظ مسلم في باب الوقف.
واستدل الإمام أبو يوسف للجمهور بالكعبة أيضاً، فإن زمن الفترة قد كان حول الكعبة عبدة الأصنام، وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية، ثم لم يخرج موضع الكعبة به من أن يكون موضع طاعة وقربة خاصة لله - تعالى -، فكذلك سائر المساجد، واعترض عليه ابن الهمام في فتح القدير 5/ 446 بأن الطواف لم يزل باقياً في عهد الفترة أيضاً، فلم تترك العبادة المقصودة بالكعبة راساً، وأجاب عنه العثماني التهانوني - رحمه الله - بأن القربة التي عينت لها الكعبة هي الصلاة إليها دون الطواف وحده لقوله - تعالى -عن إبراهيم - عليه السلام - بعد ذكر إسكانه وذريته عند البيت الحرام (ربنا ليقيموا الصلاة) ولم يذكر الطواف، وقوله (وطهر بيتي للطائفين والعاكفين) مفسر بالمسافرين والمقيمين كقوله (سواءً العاكف فيه والباد) (انظر إعلاء السنن 13/212)
ومن أقوى أدلة الجمهور في هذا الباب قول الله - تعالى -(وأن المساجد لله)
قال ابن العربي: (إذا تعينت أصلا وعينت له عقداً، فصارت عتيقة عن التملك، مشتركة بين الخليقة في العبادة) (أحكام القرآن 4/1869)
وأما الإمام أحمد فاستدل له ابن قدامة \"بما روي أن عمر رضي الله عنه- كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة: انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصلٍ,\" (المغني 6/226)
وأجاب عنه ابن الهمام بأنه يمكن أنه أمره باتخاذ بيت المال في المسجد (فتح القدير 5/446)
ويبدو أن المذهب الراجح في هذا، مذهب الجمهور، فلا ينبغي أن يباع مسجد بعد ما تقرر كونه مسجداً، وإلا صارت المساجد مثل كنائس النصارى، يبيعونها كلما شاؤوا، ولكن المسألة لما كانت اجتهادية، وعند الفريقين أدلة من الكتاب والسنة، فلو خيف الاستيلاء من قبل الكفار على مسجد ارتحل عن جواره أهله، ولم ترجَ عودة المسلمين إلى ذلك المكان، ففي مثل هذه الضرورة الشديدة يبدو أنه لا بأس بالأخذ بقول الإمام أحمد، أو محمد بن الحسن - رحمهما الله - تعالى -، ويباع بناء المسجد، ويصرف ثمنه إلى بناء مسجد آخر، لا إلى مصرف سوى المسجد، قد نص عليه فقهاء الحنابلة حيث قالوا: (ولو جاز جعل أسفل المسجد سقاية وحوانيت لهذه الحاجة، لجاز تخريب المسجد، وجعله سقاية وحوانيت، ويجعل بدله مسجداً في موضع آخر) (المغني 6/226)
ثم إن جواز هذا البيع إنما يصار إليه إن تحقق انتقال جميع السكان مما حول المسجد، ولم يرج عودهم إليه، فإن انتقل أكثر السكان، وبقي منهم بعض، فلا سبيل إليه، قد نصّ عليه فقهاء الحنابلة أيضاً حيث قالوا:
\"وإن لم تتعطل مصلحة الوقف بالكلية لكن قلّت، وكان غيره أنفع منه وأكثر، رد على أهل الوقف ولم يجز بيعه، لأن الأصل تحريم البيع، وإنما أبيح للضرورة صيانة لمقصود الوقف عن الضياع مع إمكان تحصيله، ومع الانتفاع، وإن قلّ ما يضيع المقصود\" (المغني 6/227)
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد