الأصل في هذه المسألة قول الله - تعالى -: ( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على\" سواء إن الله لا يحب الخائنين) {الأنفال: 58}.
قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: \"وإن خاف الإمام نقض العدو للعهد - وكان ذلك عن أمارة تدل على ما خافه، وليس مجرد وقوع ذلك في قلبه - جاز له أن ينبذ إليهم عهدهم\"(1).
الخلاف في المسألة:
أ- ذهب الحنفية(2) إلى: أن الهدنة عقد غير لازم، محتمل للنقض، فللإمام أن ينبذ عهد الكفار إليهم، كلما رأى في النبذ مصلحة للمسلمين، واستدلوا بما يلي:
1- أنه - صلى الله عليه وسلم - نبذ الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة(3).
2- أن المصلحة لما تبدلت كان النبذ جهاداً، وإيفاء العهد ترك للجهاد.
ب - وذهب المالكية(4)، والشافعية(5)، وجمهور الفقهاء إلى: أن الهدنة عقد لازم لا يجوز نقضه، إلا إذا وجدت خيانة، أو غدر من العدو، بقيام أمارات تدل عليه، وإن لم توجد فيجب الوفاء لهم بالعهد.
وقال الخطابي: العهد الذي بين المسلمين وبين العدو ليس بعقد لازم لا يجوز القتال قبل انقضاء مدته، ولكن لا يجوز أن يفعل ذلك إلا بعد الإعلام به والإنذار فيه\"(6)، واستدل على ذلك:
- بحديث سليم بن عامر أنه قال: \"كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"من كانت بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء\"، فرجع معاوية\"(7).
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه جمهور العلماء، أن الإمام إن خاف نقض العدو للعهد - وكان ذلك عن أمارة تدل على ما خافه، وليس مجرد وقوع ذلك في قلبه، جاز له أن ينبذ إليهم عهدهم، يدل على ذلك ما يلي:
1- قوله - تعالى -: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود 1 {المائدة: 1}.
2- وقوله: فأتموا إليهم عهدهم إلى\" مدتهم 4 {التوبة: 4}.
3- وقوله: فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم7 {التوبة: 7}.
4- قوله - تعالى -: وإن \\ستنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على\" قوم بينكم وبينهم ميثاق 72 {الأنفال: 72} \"فلا تنصر تلك الفئة على المعاهدين من الكفار، مما يبين أن الله - عز وجل - جعل حق الميثاق فوق حق الأخوة الإسلامية، فأوجب نصرة المعاهد غير المسلم، ولم يوجب نصرة المسلم الذي ليس بينه وبين المسلمين ميثاق\"(8).
5- ما رواه أبو سعيد- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : \"لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة\" رواه مسلم(9).
قال وهبة الزحيلي: \"ولو سرنا مع منطق ومعقول الحنفية لضعف شأن المعاهدات...فإن الوفاء بالعهد الذي يحافظ على السلام مقصد خاص قائم بذاته، وهو في ذاته مصلحة إسلامية... لهذا نرى ضرورة الأخذ برأي جمهور الفقهاء لما فيه من توفيق بين الآيات القرآنية كلها، وبالذات حتى لا نهمل مقتضى قوله - تعالى -: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على\" سواء 58 {الأنفال: 58}، فالنبذ مقيد بخوف الخيانة مع وجود أمارة تدل على ذلك، هذا مع ملاحظة أن حكم الحنفية (غير) مستمد من الواقع وأنه قام على مجرد قياس فقهي، ومع ذلك فإن الأحناف كما قلنا لا يقرون نبذ العهد عند تبادل المصلحة، ولا يجيزون مناجزة الخصوم إلا بعد إعلامهم بفسخ العقد وأسباب ذلك، ومضي مدة كافية يتمكن فيها المسؤولون من إنفاذ الخبر إلى أنحاء البلاد، لأن ذلك أنفى للغدر، وهذا هو حقيقة النبذ\"(10).
وأما استدلال الحنفية بنبذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة فالبرغم من الخلاف فيها(11)، إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن معه من ذلك حتى تيقن أنهم قد نقضوا العهد، فلم يحتج إلى النبذ إليهم.
وأما قولهم: المصلحة لما تبدلت كان النبذ جهاداً، وإيفاء العهد ترك للجهاد، فغير مستقيم، وفيه إضرار بالمسلمين لما يلي:
1- أنه يؤدي إلى عدم الثقة بعهود المسلمين، فلا يعطون عهداً في حال حاجتهم إلى عقدها، وفيه من الإضرار بهم ما لا يخفى.
2- المسلمون خير أمة أخرجت للناس110 {آل عمران: 110}، وذلك لأنهم أصحاب دعوة عظيمة، وفي الإخلال بالعهود إظهار خلاف ذلك، وكم من الأمم والشعوب لم يدفعها إلى الإسلام إلا خلق أهله.
قال القرطبي: \"قال علماؤنا - رحمة الله عليهم - إنما كان الغدر في حق الإمام أعظم وأفحش منه في غيره لما في ذلك من المفسدة، فإنهم إذا غدروا وعلم ذلك منهم، ولم ينبذوا بالعهد لم يأمنهم العدو على عهد ولا صلح، فتشتد شوكته، ويعظم ضرره، ويكون منفراً عن الدخول في الدين وموجباً لذم أئمة المسلمين\"(12).
وأما ما ذهب إليه الخطابي فهو استنباط دقيق، ولكنه مرجوح لسببين:
1- قوله - تعالى -: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على\" سواء إن الله لا يحب الخائنين 58 {الأنفال: 58} ارتبط فيها النبذ بالخوف من خيانتهم، فإذا لم يخف من خيانتهم، وفق أمارة تدل على ما خافه فلا نقض للعهد، ولا نبذ.
2- لما في نقض العهد بدون سبب من الإضرار بالمسلمين، - حتى وإن تحقق النبذ - لأن الأمر سيؤول إلى عدم الثقة بعهودهم، فلا يجابون إليها، عند مسيس حاجتهم لها. وقد تقدم الكلام عن ذلك آنفاً.
---------------------------------------
الهوامش:
1- المغني: (158/13).
2- المبسوط: (87/10)، والبناية: (516/6).
3- مصالحته - صلى الله عليه وسلم - لقريش على وضع القتال أخرجها البخاري من حديث عروة عن المسور ومروان مطولاً في قصة الحديبية من غير ذكر المدة في كتاب: \"الشروط، باب: الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط: (329/5)، رقم: (2731، 2732). ومختصراً في كتاب: الشروط، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة: (312/5)، رقم: (2711، 2712). وفي كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية: (453/7، 454)، رقم: (4178-4181).
وأما نقضهم للعهد فقد أخرجه الطبراني في معجمه الصغير: (73/2) من حديث ميمونة - رضي الله عنها -، وإسناده ضعيف، وابن هشام في السيرة: (10/4). وانظر نصب الراية: (390/3)، وتلخيص الحبير: (131/4)، رقم: (1929).
4- شرح منح الجليل: (766/1)، والخرشي علي خليل: (151/3).
5- الحاوي الكبير: (380/14)، والمجموع: (413/21).
6- معالم السنن بحاشية سنن أبي داود: (190/3).
7- الحديث أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه: (190/3)، رقم: (2759). والترمذي في كتاب: السير، باب: في الغدر: (143/4)، رقم: (1580)، وقال: حديث حسن صحيح.
8- آثار الحرب في الفقه الإسلامي لوهبه زحيلي: (141).
9- أخرجه مسلم في كتاب: الجهاد، باب: تحريم الغدر: (1361/3)، رقم: (1738)، والحديث أخرج أوله البخاري في كتاب الجزية والموادعة، باب: إثم الغادر للبر والفاجر: البخاري مع الفتح: (283/6)، رقم: (3188).
10- آثار الحرب في الفقه الإسلامي: (365).
11- قال ابن حجر الفتح عند شرحه لحديث هشام: \"لما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، فبلغ ذلك قريشاً خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... \" الحديث. قال ابن حجر: ظاهره أنهم بلغهم مسيره قبل خروج أبي سفيان وحكيم بن حزام، والذي عند ابن إسحاق وعند ابن عائذ من مغازي عروة: ثم خرجوا وقادوا الخيول حتى نزلوا بمر الظهران ولم تعلم بهم قريشاً. وكذا من رواية أبي سلمة عند ابن أبي شيبة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالطرق فحبست، ثم خرج، فغم على أهل مكة الأمر، فقال أبو سفيان لحكيم بن حزام: هل لك أن تركب إلى أمر لعلنا أن نلقى خبراً؟ فقال له بديل بن ورقاء: وأنا معكم، قالا: وأنت إن شئت فركبوا، وفي رواية ابن عائذ من حديث ابن عمر- رضي الله عنه - قال: لم يغز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشاً حتى بعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى ثلاث: أن يودوا قتيل خزاعة، وبين أن يبرأوا من حلف بكر، أو ينبذ إليهم على سواء، فأتاهم ضمرة فخيرهم، فقال قرظه بن عمرو: لا نودي ولا نبرأ، ولكننا ننبذ إليه على سواء، فانصرف ضمرة بذلك، فأرسلت قريش أبا سفيان يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تجديد العهد. وكذلك أخرجه مسدد من مرسل محمد بن عباد بن جعفر، فأنكره الواقدي، وزعم أن أبا سفيان إنما توجه مبادراً قبل أن يبلغ المسلمين الخبر، والله أعلم\" فتح الباري: (6/8).
12- أحكام القرآن للقرطبي:(33/8).
*أستاذ الدراسات الإسلامية المشارك بكلية الملك فيصل الجوية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد