\"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين\"
الحمد لله الذي حرَّم الظلم وجعله بيننا محرماً، فأمر أن لا نتظالم، وجعل كل المسلم على المسلم حراماً، دمه، وماله، وعرضه، وصلى الله وسلم على من حذر أمته من الظلم والتعدي فقال: \"اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم\".
وقال: \"من ظلم قيد شبر من الأرض طوَِّقه من سبع أرضين\".
وقال: \"لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء4 من الشاة القرناء\".
وأمر برد المظالم في الدنيا إلى أهلها والتحلل منها قبل الآخرة، حيث يكون ذلك بالحسنات والسيئات.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أومن شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صـاحبـه فحمـل عليـه\".
وعنه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \"أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاعº فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يَقضِي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار\".
حقوق الآدميين
حقوق الآدميين ثلاثة أنواع، هي:
1. قصاص وجنايات.
2. حقوق مالية.
3. حقوق غير مالية، بأن ينتقص المرء في عرضه، أو ماله، أو بدنه، أو أهله، بغيبة أو نميمة أو بهتان ونحو ذلك.
أولاً: القصاص والجنايات:
أجمع أهل العلم أن أمور القصاص والجنايات هي وقف على الحكام، فلا يحل لأحد أن يقتص من أحد بنفسه، لما في ذلك من المفاسد العظيمة، والأخطار الجسيمة، نحو إثارة النعرات والثارات، أو يعفو \"فمن عفا وأصلح فأجره على الله\".
ثانياً: الحقوق المالية:
فللمرء كذلك أن يعفو عن المعتدين الظالمين، وهذا أفضل، أو يرفع أمره إلى ولاة الأمر إذا كان عنده من الشهود والبينات ما يثبت بها هذه الحقوق.
إن لم يكن له شيء من الشهود والبينات
أما إن لم يكن للمظلوم المعتدى عليه شيء من البينات والشهود، ثم وجد فرصته في مال وحق من ظلمه، هل يأخذ حقه منه من غير علمه ورضاه أم لا؟
أ. إن ظفر بعين ماله
قولان لأهل العلم هما:
الأول: له ذلك
وإلى هذا ذهب طائفة من أهل العلم، منهم:
1. ابن سيرين.
2. إبراهيم النخعي.
3. سفيان الثوري.
4. مجاهد.
5. الإمام الشافعي.
6. ورواية في مذهب مالك حكاها عنه الداودي.
7. أبو بكر بن المنذر الفقيه الشافعي.
8. وأبو بكر بن العربي الفقيه المالكي.
9. القرطبي المفسر.
واستدل هذا الفريق بالآتي:
1. قوله - تعالى -: \"وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به\".
2. وقوله - تعالى -: \"والحرمات قصاص\".
3. وقوله - تعالى -: \"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم\".
4. وبقوله - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له في البيعة: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف\"، وهو في الصحيح.
5. وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: \"انصر أخاك ظالماً أومظلوماً\"، وأخذ الحق من الظالم نصر له.
الثاني: ليس له ذلك
وهذا مذهب:
1. أبي حنيفة.
2. وعطاء الخرساني.
3. ومالك في المشهور عنه ومن وافقهم.
واستدل هذا الفريق بالآتي:
1. قوله - تعالى -: \"إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها\".
2. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: \"أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك\" الحديث.
3. سداً للذرائع لأن مثل هذا التصرف قد يؤدي إلى مفاسد عظمى.
قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسير قوله - تعالى -: \"والحرمات قصاص\": (والقصاص المساواة، أي اقتصصت لكم منهم إذ صدوكم سنة ست فقضيتم العمرة سنة سبع، فـ\"الحرمات قصاص\" على هذا متصل بما قبله ومتعلق به، وقيل هو مقطوع منه، وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام: أن من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك، ثم نسخ ذلك بالقتال، وقالت طائفة: ما تناولت الآية من التعدي بين أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - والجنايات ونحوها لم ينسخ، وجاز لمن تُعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تُعدي به عليه إذا خفي له ذلك، وليس بينه وبين الله - تعالى -في ذلك شيء، قاله الشافعي وغيره، وهي رواية في مذهب مالك، وقالت طائفة من أصحاب مالك: ليس ذلك له، وأمور القصاص وقف على الحكام، والأموال يتناولها قوله - صلى الله عليه وسلم -: \"أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك\"، خرجه الدارقطني وغيره، فمن ائتمنه من خانه فلا يجوز له أن يخونه ويصل إلى حقه مما ائتمن عليه، وهو المشهور من المذهب، وبه قال أبو حنيفة تمسكاً بهذا الحديث، وقوله - تعالى -: \"إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها\"، وهو قول عطاء الخرساني، قال قدامة ابن الهيثم: سألتُ عطاء بن ميسرة الخرساني فقلت له: لي على رجل حق، وقد جحدني به، وقد أعيا عليَّ البينة، أفأقتص من ماله؟ قال: أرأيت لو وقع بجاريتك، فعلمت، ما كنت صانعاً؟
قلت: والصحيح جواز ذلك كيفما توصل إلى أخذ حقه ما لم يعد سارقاً، وهو مذهب الشافعي، وحكاه الداودي عن مالك، وقال به ابن المنذر، واختاره ابن العربي، وأن ذلك ليس خيانة، وإنما هو وصول إلى حق، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً\"، وأخذ الحق من الظالم نصر له.
وقال القرطبي في موضع آخر من تفسير قوله - تعالى -: \"وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به\" الآية: (واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه؟ فقالت فرقة: له ذلك، منهم ابن سيرين، وإبراهيم النخعي، وسفيان، ومجاهد، واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها، وقال مالك وفرقة معه: لا يجوز له ذلك، واحتجوا بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك\" رواه الدارقطني).
ب. إن لم يظفر بعين ماله
كذلك قولان لأهل العلم.
الذي يظهر والله أعلم أن من ظفر بعين ماله فأخذه أو ظفر بغيره فأخذ قدراً مساوياً له من غير أن يعلم به صاحب المال وقد أمن المفسدة فله ذلك إن شاء، نصحاً لأخيه المسلم، هذا وإن تحرَّج عن ذلك وتركه كان خيراً له.
أما إذا علم أن أخذه لعين ماله أو ما يساويه يؤدي إلى ضرر أكبر ومفسدة أعظم فلا يجوز له الدخول في ذلك عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: \"لا ضرر ولا ضرار\"، وبالقاعدة الفقهية الجامعة \"درء المفاسد مقدم على جلب المنافع\"، والله أعلم.
قال القرطبي - رحمه الله -: (واختلفوا إذا ظفر له بمال من غير جنس ماله، فقيل: لا يأخذ إلا بحكم الحاكم، وللشافعي قولان أصحهما الأخذ، قياساً على ما لو ظفر له من جنس ماله، والقول الثاني لا يأخذ لأنه خلاف الجنس، ومنهم من قال يتحرى قيمة ماله عليه ويأخذ مقدار ذلك، وهذا هو الصحيح لما بيناه من الدليل، والله أعلم.
وإذا فرعنا على الأخذ فهل يعتبر ما عليه من الديون وغير ذلك، فقـال الشافعي: لا، بل يأخـذ ماله عليهº وقال مالك: يعتبر ما يحصل له مع الغرماء في الفَلَس، وهو القيـاس، والله أعلم).
ثالثاً: الحقوق غير المالية
كالانتقاص في عرض، أودين، أو بدن، أو أهل، نحو الغيبة، والنميمة، والبهتان، فإما أن يستسمحه منها إجمالاً إن خشي من التفصيل مفسدة كبرى، وإن تعذر ذلك فعليه أن يكثر له من الدعاء والاستغفار، ويصدق في توبته، ويكثر من هذا الدعاء: \"اللهم إن لك عليَّ حقوقاً كثيرة، اللهم ما كان لك فاغفره لي، وما كان لخلقك فتحمله عني\"، والله أعلم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد