تطور الفقه السياسي الإسلامي ( 1 )


بسم الله الرحمن الرحيم 

فكرة شائعة:

هناك فكرة رائجة تذهب إلى أن نصيب العلوم السياسية عند المسلمين نصيب ضئيل، وأن الفقه السياسي الإسلامي لم يتطور بالقدر الذي تطورت به بقية شعب الفقه الأخرى، فهو ليس غنياً غناها ولا شاملاً وافياً مثلها. فكتبه قليلة نادرة، ومباحثه قاصرة على مسائل محدودة. وهو في جلته لا يفي بحاجات الدولة المعاصرة ووظائفها المتعددة.

 

ويعبر عن هذه الفكرة أحد الكتاب فيقول:

(من الملاحظ البين في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين أن حظ العلوم السياسية فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم الأخرى أسوأ حظ، وأن وجودها بينهم كان أضعف وجود. فلسنا نعرف لهم مؤلفاً في السياسة ولا مترجماً، ولا نعرف لهم بحثاً في شي من أنظمة الحكم ولا أصول السياسة، اللهم إلا قليلاً لا يقام له وزن إزاء حركتهم العلمية في غير السياسة من الفنون) (1).

 

وقد يبدو هذا الرأي للوهلة الأولى على درجة كبيرة من الصحة. ومما ساعد على التسليم بـهذه المقولة لدى الكثيرين بادي الرأي أن معرفتهم بكتب الفقه السياسي لا تزيد على كتب قليلة مثل الأحكام السلطانية للماوردي، والسياسة الشرعية لابن تيمية، وقليل غيرها. ويزداد المرء قبولا لهذا الرأي إذا توجه بنظره إلى تاريخ الفكر السياسي في الغرب. فهناك مفكرون معروفون، وأسماء لامعة كثيرة وكتب مشهورة وقد أصبحت العلوم السياسية في الغرب منذ زمن ليس بالقليل فرعاً مستقلاً للمعرفة، وله كلياته وأقسامه، وفيه باحثون وخبراء ومتخصصون يحملون أعلى الألقاب العلمية. ونريد في الصفحات التالية أن نسبر غور هذه الفكرة ونتحقق من مدى صدقها وصحتها، وذلك بالبحث في الفقه الإسلامي عن تلك الدراسات التي يمكن تصنيفها تحت عنوان - علم السياسة - وننظر في قيمة تلك الدراسات وسعتها وعمقها وفائدتـها.

 

موضوعات علم السياسة:

من الضروري لتحديد مكانة السياسة في العلوم الإسلامية أن نلم بالمقصود من مصطلح علم السياسة.

يعرف علم السياسة عموماً بأنه علم الدولة. فهو العلم الذي يبحث في الدولة وممارساتـها السياسية ومؤسساتـها وأشكالها ونظمها. ومن هذا يتبين أن أهم الموضوعات في علم السياسة تشمل الدولة مقوماتـها ووظائفها، وتشمل الحكومة وأنواعها وسلطاتـها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتشمل الرأي العام ومكوناته والجماعات والهيئات ذات الأثر في السلطة، كما تشمل العلاقات الدولية والقوانين التي تنظم هذه العلاقات(1).

 

هذه هي موضوعات علم السياسة بصفة عامة ومجملة فهل بحث الفقه الإسلامي هذه الموضوعات؟ وهل نجد مقابلاً لها في العلوم الإسلامية؟

 

صعوبات الدراسة:

للإجابة الدقيقة على هذا السؤال تواجه الباحث بعض المشاكل والصعاب (2).

ريب أولى هذه الصعوبات، اختلاف المصطلحات: فلا شك أن المصطلحات المستعملة في علم السياسة اليوم لا وجود لها في الكتب الفقهية. فالمفهوم الحديث لكلمات مثل الدولة والحكومة والدستور والسيادة والفصل بين السلطات وحقوق الإنسان، وما إليها من مصطلحات القاموس السياسي لم تكن مستخدمة ولا معروفة عند علماء الإسلام.

 

ومن الجهة الأخرى فإن المصطلحات المستخدمة للتعبير عن المفاهيم السياسية عند المسلمين مصطلحات غريبة عن الذهن المعاصر، فمصطلحات مثل الإمامة والخلاقة والولاية، وإمارة الاستكفاء وإمارة الاستيلاء ووزارة التفويض والبيعة، والخراج والفيء والحدود والتعزير والحسبة وغيرها من المصطلحات ليست متداولة في لغة العصر، ومدلولاتـها الحقيقية غامضة وتحتاج إلى شرح.

 

2- الصعوبة الثانية: التي تواجه الباحث أن الموضوعات التي يضمها علم السياسة اليوم لا توجد في المصنفات الإسلامية مبحوثة في موضع واحد. بل إن هذه المباحث المتناثرة في مواضع مختلفة وتحت عناوين متعددة في كتب العقيدة والتفسير والحديث والفقه والسير والتاريخ والأدب، ولا ريب أن الناظر في الكتب التي حاولت جمع هذه المباحث وضمها بطريقة مستقلة لا يجد النظريات السياسية مبوبة مرتبة ومفصلة، بل قد يخيل إليه أن هذه الكتب تضم كثيراً من الحشو الذي لا صلة له بالسياسة.

 

أما الدراسات الأخلاقية فقد سعت لوضع قيم وآداب تحكم تصرفات رجال السلطة. وكانت هذه الدراسات تصاغ في شكل مواعظ ونصائح للخلفاء والملوك والسلاطين ومن دونـهم من رجال الدولة. وهذه القيم الأخلاقية هي التي تجعل السياسة في الإسلام في جانبها النظري على الأقل نظيفة تقوم على الصدق والأمانة والعدل.

 

وتضم الدراسات التاريخية الوثائق السياسية والإدارية للدولة الإسلامية منذ تأسيسها. وهذه الوثائق تشمل الخطب والرسائل والمعاهدات، وتسجل بدقة كل نشاط سياسي في المجتمع، سواء كان صادراً من رجال الدولة أو من المعارضين لها المتمردين عليها، وسواء كان في سياسة الدولة الخارجية في السلم والحرب. فهي بذلك ذات أهمية قصوى ومصدر رئيس من مصادر الدراسات السياسية، فبجانب الوقائع التاريخية فإننا نجد المبادئ السياسية والأحكام التنظيمية.

 

تطور علم السياسة في الإسلام:

إن تطور علم السياسة ذو صلة وثيقة بالتاريخ السياسي. ومن الممكن تبعاً لذلك تقسيم الأطوار التي مر بـها هذا العلم إلى عصور موازية للحقب التاريخية التي ينقسم إليها تاريخ الإسلام السياسي. وهي العصر النبوي، وعصر الخلافة الراشدة، والعصر الأموي، والعصر العباسي، والعصور المتأخرة، ومنها العصر العثماني، ثم العصر الحديث. فالعصر النبوي وعصر الخلافة هو دور التأسيس والتأصيل ثم يأتي في العصر الأموي والعصر العباسي دور التدوين والاجتهاد. أما العصور المتأخرة فهي عصور التقليد والنقل. وفي العصر الحديث محاولات الإحياء والبعث.

 

ومن الممكن دراسة تطور علم السياسة خلال هذه العصور بـهذا الترتيب. ومع ما لهذه الطريقة من مزاياها في إبراز الإنجازات التي تمت في كل عصر، والإضافات التي يضيفها كل عصر إلى جهود السابقين غير أن مثل هذه الدراسة تصلح إذا كانت الدراسات السياسية علماً مستقلاً واحداً. وقد سلف القول في بيان أن هذه الدراسات مبعثرة في عدد من الكتب، وتضمها شعب مختلفة من شعب العلوم الإسلامية. ولهذا رأيت تناول كل شعبة على حدة، ودراسة تطور المباحث السياسية التي تضمها.

وهذا المقال يقتصر على تطور الفقه السياسي فقط، ونمهد لذلك بأصوله في القرآن والسنة.

 

مبادئ القرآن السياسية:

أسس القرآن المبادئ والأصول التي تقوم عليها السياسة، وكثير من هذه الأسس قد جاء بيانـها بعد هجرة النبي إلى المدينة وشروعه في تأسيس دولة فيها. وليس معنى هذا خلو العهد المكي من إشارات للسياسة، فقضية الألوهية وصفاتـها وخصائصها التي ما انفك القرآن يعالجها منذ نزوله هي القضية الأولى في تصور الإسلام للسياسة. ومن المعروف في تاريخ القرآن أن مبادئه لم تعلن في وثيقة واحدة في يوم واحد، بل كانت تبين في فترات متتابعة تبعاً للمشكلات التي تنشأ. ومن الصعب حقاً أن يسجل المرء تسجيلاً دقيقاً التريث الزمني لنـزول الآيات التي تحوي مبادئه السياسية. وقد تكون مثل هذه المحاولة قليلة الفائدة لأن التطور التاريخي للدولة في المدينة قد سـجل بالتفصيل في كتب السيرة.

 

ونورد فيما يلي طائفة من هذه المبادئ السياسية التي أوضحتها بعض آيات القرآن(1) مع الإشارة بقدر الإمكان إلى الظروف والمرحلة التاريخية التي نزلت فيها.

 

*- اختصاص الألوهية بالحاكمية:

أ- أكدت هذا المبدأ كثير من الآيات كقوله - تعالى -: [ألم تر إلى الذين يزعمون أنـهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً] [النساء: 60].

والنص فيما يبدو من النصوص المبكرة التي نزلت في السنوات الأولى من قيام دولة المدينة، حيث كان مجتمع المدينة يتكون من اليهود والمسلمين والمشركين. وقد نزل النص يؤكد أن الحاكمية لله - تعالى - وحده وذلك حين تخاصم رجل من المسلمين مع رجل من اليهود وذهبا لكاهن مشرك يقضي بينهما، وكان هذا الكاهن قاضياً في الجاهلية(1).

 

ب - ومن النصوص المشابـهة لهذا النص في دلالته وظروفه قوله - تعالى -: [ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون … فأولئك هم الظالمون … فأولئك هم الفاسقون][المائدة: 44، 45، 47].

[أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون][المائدة 50].

وهذه النصوص أيضاً نصوص مبكرة إذ أنـها كانت تعقيباً على حادثة رجم الزانيين من اليهود(2) وقد كان قبل الإجلاء النهائي لليهود والذي حدث في السنة الخامسة للهجرة(3).

 

ج [قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءً بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله. فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون] [آل عمران: 64].

 

وهذه الآية تبطل صفة التشريع التي كان يتمتع بـها الأحبار الرهبان من دون الله، وقد ضمنها الرسول في الرسالة التي وجهها إلى هرقل عظيم الروم يدعوه فيها إلى الإسلام. وكان نزولها في الفترة السابقة لفتح مكة(4).

 

* - منـزلة الرسول التشريعية:

ونختار ثلاثة نصوص لبيان هذا المبدأ نزلت كلها في المراحل الأولى من العهد المدني.

 

[وما آتاكم الرسول فخذوه وما نـهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله. إن الله شديد العقاب] [الحشر: 7].

وتاريخ هذا النص يرجع إلى السنة الرابعة من الهجرة إثر غزوة بني النضير(1).

 

[ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً][النساء: 115].

 

والحادثة التي كانت سبباً لهذا النص كانت في السنوات الأولى من العهد المدني أيضاً(2).

 

[وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله]إلى قوله - تعالى -: [فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً][النساء: 64، 65].

 

والروايات التي تذكر في سبب نزول هذا النص لا نستطيع منها أن نحدد تاريخ النص، وإن كانت الإشارة قد وردت بأن نزولها كان بعد بدر بسبب طعن أحد المسلمين في حكم قضى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووصفه له بالمحاباة في حكمه(3).

 

*- مبدأ الخلافة:

وردت كلمة خليفة في موضعين في القرآن الكريم:

أ –[يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله] [ص: 26] وهو نص من العهد المكي.

 

ب –[وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة][البقرة: 30] وهو نص من العهد المدني وسورة البقرة من أوائل ما نزل بالمدينة(1).

 

*- طاعة الدولة:

[يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ, فردوه إلى الله وإلى الرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر][النساء: 59].

 

ونزل هذا النص في أحد أمراء السرايا يبين الحدود بطاعة الدولة(2).

 

*- مبدأ الشورى:

وهذا المبدأ الهام نجده في نصين:

أ –[وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون][الشورى: 38].

وهذا نص من العهد المكي حين كان المسلمون جماعة وحركة لم تصل إلى مرحلة الدولة. وقد جعل هذا النص الشورى صفة أساسية من صفات هذه الجماعة.

 

ب - [وشاورهم في الأمر][آل عمران: 159]. وهذا النص ورد في مرحلة متأخرة، فمن المرجح أن ذلك عقب غزوة أحد التي كانت في شوال في السنة الثالثة من الهجرة(1) لأنه في السياق الذي يعقب على حوادث هذه الغزوة. ولقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - استشارهم أيخرج إلى أحد للقاء العدو خارج المدينة أم ينتظرهم ويقاتلهم في المدينة، فأشاروا عليه بالخروج فخرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون فوقعت الهزيمة(2) فجاء النص يؤكد على ممارسة الشورى وإن كانت نتائجها خاطئة في بعض الأحيان.

 

*- مبدأ البيعة:

البيعة عقد بين الأمة والحاكم ومن النصوص الواردة في شأنـها:

[يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم]الممتحنة: 12].

 

وقد كانت المؤمنات المهاجرات بعد صلح الحديبية يمتحن بـهذه الشروط ويبايعن على الوفاء بـها، حتى عرفت صيغة هذه البيعة باسم بيعة النساء(3).

 

*- وظائف الدولة:

أ –[الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور][الحج: 41] وهذه الآية جزء من سياق أول آيات أنزلت بالإذن بالقتال.

وقد جاء ذلك الإذن في بداية العهد المدني(1).

 

ب –[لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد][الحديد: 25] وهذا نص مدني.

 

ج –[إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نِعِمّا يعظكم به، إن الله كان سميعاً بصيراً][النساء: 58]. ومن المعلوم أن هذه الآية نزلت بعد فتح مكة مباشرة تأمر بدفع مفاتيح الكعبة لأحد الرجال الذين أسلموا وكانت هذه المفاتيح عند أسرته في الجاهلية(2) والآية تؤكد عموماً قاعدتي العدل والأمانة في تسيير الدولة واختيار رجالها.

 

*- وضع الأقليات غير المسلمة والعلاقات الدولية:

أ - [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق][الممتحنة: 1]. وهذا النص كان قبيل فتح مكة في قصة حاطب بن أبي بلتعة الذي أرسل خطاباً لكفار مكة يخبرهم باستعداد النبي - صلى الله عليه وسلم - لغزوهم(1).

 

ب - [لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين] [الممتحنة: 8]. وهذا النص تابع لسياق النص السابق وجاء في ظروفه نفسها.

 

ج - [يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء، إن الله عليم حكيم][التوبة: 28] وقد كان نزول هذه الآية في العام التاسع من الهجرة.

 

د - [قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون][التوبة: 29]. وكان نزول هذه الآية عام تسع من الهجرة أيضاً.

 

و - [إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتـهم][التوبة: 4]

 

[فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين][التوبة: 7] وهذه النصوص جزء من صدر سورة براءة ومن المعلوم أنـها نزلت في السنة التاسعة من الهجرة وهي آخر ما نزل من السور.

 

كتب التفسير والسياسة:

وما دام القرآن هو المصدر الأول لكثير من المبادئ السياسية فإن كتب التفسير تصبح مرجعاً مهماً لبيان تلك المبادئ والتعليق عليها وبخاصة الكتب التي اهتمت بإبراز الأحكام الفقهية مثل كتاب (الجامع لأحكام القرآن) للإمام القرطبي توفي 671 هـ.

 

نصوص الحديث السياسية:

الحديث هو المصدر الثاني من مصادر الفقه السياسي وهو بمثابة الشرح والتفصيل للمبادئ الأساسية التي جاءت في القرآن. وقد تضمنت كتب الحديث الرئيسية فصولاً مستقلة جمعت فيها نصوص الأحاديث الخاصة بمسائل السياسة. وقد دونت تلك النصوص تحت عناوين مختلفة وبالنظر في هذه العناوين تتفتح لك الاتجاهات التي كانت سائدة بين المحدثين في عصور التدوين والمصطلحات المتداولة لمفهوم السياسة.

 

ففي بعض هذه الكتب نجد مباحث السياسة مفردة تحت عنوان الإمارة، ويبحث بعضها مسائل الإمارة والقضاء في موضع واحد، ويجعل بعضها مباحث الإمارة جزءاً من مباحث الجهاد، ويضم بعضها مباحث الإمارة مع مباحث السياسة المالية مثل الخراج، وقد اهتم بعض هذه الكتب بمسألة جزئية من فقه السياسة وأفرد له فصلاً خاصاً وعنوانا مثل البيعة.

 

وواضح من هذه الاتجاهات الربط بين الدولة ووظائفها فمن نظر إلى وظيفتها القضائية جعلها ضمن مباحث القضاء، ومن نظر إلى وظيفتها العسكرية جعلها ضمن مباحث الجهاد، ومن نظر إلى وظيفتها الاقتصادية جعلها ضمن مباحث الدولة المالية. وسنرى هذه الاتجاهات ذاتـها هي التي كانت سائدة في الدراسات الفقهية.

 

فالإمام البخاري (194-256هـ) جمع أحاديث الفقه السياسي تحت عنوان الأحكام، وكلمة أحكام تعني ما يصدر من الحاكم، ويعني به البخاري الخليفة والقاضي، ولهذا ذكر هنا ما يتعلق بالخلافة وبالقضاء من أحاديث زادت على مائة حديث(1). ولا يعني هذا أن البخاري قد جمع كل الأحاديث الخاصة بمسائل السياسة في هذا الموضع. بل إننا نجد موضوعات هامة في مواضع أخرى. فالشورى مثلاً ضمها في المباحث التي جعل عنوانـها (الاعتصام بالكتاب والسنة) (2).

 

ولصحيح البخاري عدد كبير من الشروح من أشهرها شرح ابن حجر (- 852هـ) واسمه، فتح الباري، وشرح العيني ( -855هـ) واسمه، عمدة القارئ، ومن المعلوم أن البخاري قد وضع عناوين كتابه بنفسه، أما الإمام مسلم (206-261هـ) فمع أنه قد جمع الأحاديث ورتبها حسب الموضوعات غير أنه لم يعطها عناوين من عنده وقد عنونـها الإمام النووي في القرن السابع الهجري، وكتب شرحاً لصحيح مسلم هو من أحسن الشروح. وقد أعطى النووي الأحاديث الخاصة بمسائل السياسة عنوان (كتاب الإمارة) ونجد تحت هذا العنوان أحاديث خاصة بالجهاد(1).

 

وجعل الإمام أبو داود (202-275 هـ) في سننه فصلاً بعنوان (كتاب الخراج والإمارة والفئ)(2) وواضح من هذا العنوان أنه يربط بين الدولة ووظيفتها الاقتصادية. وهو أحد اتجاهات السائدة في مباحث الدولة في ذلك العصر.

وممن شرح سنن أبي داود الخطابي (-388 هـ) ويكتسب شرحه أهمية خاصة لأنه من العصور الأولى والدراسات المبكرة.

وأما في سنن الإمام الترمذي (209-279هـ) فنجد مباحث السياسة موزعة بين أبواب الأحكام والسير والجهاد(3) أي أنـها متصلة بمباحث القضاء والجهاد.

ويضع الإمام ابن ماجة (207-273هـ) أحاديث الإمارة ضمن أبواب الجهاد(4).

أما الإمام النسائي فيتجه اتجاهاً مختلفاً إذ يفرد في سننه كتاباً مستقلاً عن البيعة(5) ويورد تحت هذا العنوان مسائل الدولة. ونجد هذا الصنيع نفسه في مؤلف الإمام مالك (93-173هـ) وهو من أوائل كتب الحديث، إلا أنه لم يورد في مبحث البيعة إلا ثلاثة أحاديث فقط(1).

 

هذه أهم كتب الأحاديث ولم يأت ذكر لمسند الإمام أحمد (164- 241هـ) لأن أحاديثه لم ترتب حسب الموضوعات(2). ولا شك أن هناك مصنفات أخرى في الحديث تأتي في مرتبة أقل من هذه. ومن المعلوم أن في كتب الحديث قد تتكرر الأحاديث ويرد الحديث الواحد في أكثر من كتاب. ولهذا اتجهت بعض المصنفات إلى جمع الأحاديث المفرقة في أمهات هذه الكتب وللإمام ابن الأثير (544-606 هـ) موسوعة في هذا المجال أسمها (جامع الأصول) وقد جمع عدداً تحت مادة الخلافة في حرف الخاء.

 

----------------------------------------

(1) - الإسلام وأصول الحكم علي عبد الرازق ص 67.

(1) - أنظر: المدخل إلى علم السياسة بطرس غالي ومحمد خيري ص 3و7 وانظر دائرة المعارف البريطانية مادة: علم السياسة.

(2) - أنظر: نظرية الإسلام وهديه في السياسة، أبو الأعلى المودودي، ص 240.

(1) - جمع الأستاذ أبو الأعلى المودودي كثيراً من هذه الآيات في كتابه الخلافة والملك.

(1) - تفسير ابن كثير الجزء 1 ص 518.

(2) - تفسير ابن كثير الجزء 1 ص 28.

(3) - البداية والنهاية ابن كثير الجزء 4 ص 166.

(4) - البداية والنهاية ابن كثير الجزء 1 ص 371.

(1) - البداية والنهاية ابن كثير الجزء 4 ص 74.

(2) - هي حادثة سرقة ابن أبيرق درعاً وأخفاها عند يهودي، تفسير ابن كثير الجزء 1 ص 550.

(3) - تفسير بن كثير الجزء 1 ص 520.

(1) - المصدر نفسه 1: 517.

(2) - المصدر نفسه 1: 39.

(1) - البداية والنهاية لابن كثير.

(2) - تفسير ابن كثير الجزء 1 ص 409.

(3) - المصدر نفسه الجزء 4 ص 352.

(1) - المصدر نفسه الجزء 3 ص 252، 262.

(2) - المصدر نفسه الجزء 1 ص 515.

(1) - نفس المصدر، الجزء 4 ص 344.

(1) - فتح الباري ابن حجر الجزء 16 ص 227.

(2) - المصدر نفسه الجزء 17 ص 102.

(1) - أنظر صحيح مسلم بشرح النووي الجزء 12 ص 199.

(2) - سنن أبي داود الجزء 3 ص 180.

(3) - سنن الترمذي الجزء 2 و 3.

(4) - سنن ابن ماجة الجزء 2 ص 953 - 959.

(5) - سنن النسائي الجزء 7 ص 137.

(1) - الموطأ الجزء 2 ص 982

(2) - قام أحمد عبد الرحمن البنا بترتيب مسند الإمام أحمد حسب الأبواب وأسماه الفتح الرباني وجعل فيه كتابا للخلافة والإمارة أنظر الجزء 4 ص23.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply