بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، تكفَّلَ بإظهار هذا الدين، ووعد بنُصرةِ المؤمنين، فقال في كتابهِ المبين: ((هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ)) (التوبة: 33).
وقال - تعالى -: ((وَكَانَ حَقّاً عَلَينَا نَصرُ المُؤمِنِينَ)) (الروم: من الآية47) وأشهدُ ألا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له، اقتضت حكمتهُ أن يديلَ الإسلام والمسلمين تارة، ويديلَ الكفرُ والكافرين تارة أخرى، وصدق الله ((وَتِلكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ وَلِيَعلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُم شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبٌّ الظَّالِمِينَ)) (آل عمران: من الآية140).
وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله عاش فترةً من حياته والمسلمون معهُ في مكة، ظروفَ المحنةِ وشدةَ الابتلاء، حتى جاءَ اللهُ بالنَّصرِ والفتحِ المبين، وعادَ المُحاربون له مسالمين مؤمنين، بل وفي عِداد الغزاة الفاتحين.
اللهمَّ- صل وسلم عليه- وعلى سائر المرسلين، وارضِ اللهمَّ عن الصحابةِ والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ, إلى يوم الدين.
((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) (التوبة: 119)، ((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَولاً سَدِيداً)) (الأحزاب: 70)، ((يُصلِح لَكُم أَعمَالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزاً عَظِيماً)) (الأحزاب: 71).
أيَّها المسلمون:
يتكررُ في فتراتٍ, من التاريخ، لمن تأملَ انسياح الإسلامِ في الأرضِ وغلبة المسلمين، أو انحسار مدَّ الإسلام وهيمنة غير المسلمين، وإذا كانت أكثريةُ المسلمين تلتزمُ بالإسلامِ في حالةِ غلبته، فإنَّ القلةَ من المسلمينَ من يتمالكُ نفسهُ، ويلتزمُ بمقتضياتِ العقيدة والدين، ويصبرُ على اللأواءِ والمحن، في حالِ غلبةِ أعداءِ الدين، إذ من الناسِ من يُصابُ بالهلعِ وفقدانَ الثقةِ بنصرةِ هذا الدين، ويُصابَ آخرون بالإحباطِ واليأس والقنوطِ من رحمة الله، والتسخطِ لأقدارِ الله، وتلك أدواءٌ قاتلة، وهي منافيةً لحقيقةِ التوحيد، من الصبر واليقين، والتقوى والتوكل على رب العالمين.
إخوةَ الإيمان: وهذا الشعورُ قديم، وهذهِ الفتنةُ غير مستحدثة، وهذا الهاجسُ تحدثَ عنه العلماءَ السابقون، وذلك حين أصيبت الأمة، وكادَ اليأسُ يلفٌّ بعضِ المنتسبين للإسلام.
يقولُ شيخُ الإسلام ابن تيميه- رحمه الله -، (وهُنا نكتةٌ نافعة، وهي أنَّ الإنسانَ قد يسمعُ ويرى ما يصيبُ كثيراً من أهل لإيمان والإسلام في الدنيا في المصائب، وما يصيبُ كثيراً من الكفَّار والفجَّار في الدنيا، من الرياسةِ والمال وغير ذلك، فيعتقدُ أنَّ النعيمَ في الدنيا لا يكونُ إلاَّ لأهلِ الكُفر والفجور، وأنَّ المؤمنين ليس لهم في الدنيا ما يتنعمون به إلا قليلاً، وكذلك قد يعتقدُ أنَّ العزةَ والنٌّصرةَ قد تستقرُ للكفار والمنافقين على المؤمنين، وإذا سمع ما جاءَ في القرآن من أنَّ العزةَ لله ولرسولهِ وللمؤمنين، وأنَّ العاقبةَ للتقوى، وقولَ الله - تعالى -: ((وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ)) (الصافات: 173) وهو ممن يصدقُ بالقرآن حملَ هذه الآيات على الدارِ الآخرة فقط، وقال: أمَّا في الدنيا فما نرى بأعيننا إلاَّ أنَّ الكفارَ والمنافقين فيها يظهرون ويغلبون المؤمنين...الخ [1].
وهذا تلميذهُ الشيخُ ابن القيم- رحمه الله -، يعرضُ أمامَ ناظريك أيَّها المسلمُ الحكمةُ من وراءِ تمكين أهلِّ الكُفر والفسوقِ والعصيان فيقول: (وكان في تمكينِ أهلُ الكفرِ والفسوق والعصيان، من ذلك إيصالُ أولياءِ الله إلى الكمالِ الذي يحصل لهم بمعاداةِ هؤلاءِ وجهادهم، والإنكارِ عليهم والموالاة فيه والمعاداة فيه، وبذلُ نفوسهم وأموالهم وقواهم له، فإنَّ تمام العبوديةِ لا يحصلُ إلاَّ بالمحبةِ الصادقة، وإنَّما تكونُ المحبةُ صادقةً إذا بذلَ فيها المُحبٌّ ما يملكُهُ من مالٍ, ورياسةٍ, وقوةٍ, في مرضاة محبوبهِ والتقربُ إليه، فإذا بذلَ لهُ رُوحهُ كان ذلك أعلى درجاتِ المحبة، ومن المعلومِ أنَّ من لوازمِ ذلك أن يخلقَ ذواتاً وأسباباً وأعمالا، وأخلاقاً وطبائعَ تقتضي معاداةُ من يحبه.
إلى أن يقول: فلولا خلقِ الأضدادِ، وتسليطِ أعدائهِ وامتحانِ أوليائه لم يستخرج خاص العبوديةِ من عبيده الذين هم عبيدَه، ولم يحصل لهم عبوديةُ الموالاة فيه والمعاداة فيه، والحبٌّ فيه والبغضُ فيه، والعطاءُ له والمنعُ له) [2].
أيَّها المؤمنون: نستبطئُ النصر أحياناً ونحنُ بعدُ لم نُقدمُ للنصرِ ثمنا، ونستعجلُ النصرَ وقد لا يكونُ حانَ وقته بعد، ونتطلعُ إلى تغيرٍ, مفاجئٍ, في العالم، ونحنُ بعدُ لم نغيرِّ ما بأنفسنا، وبالجملةِ فهُناك معوقاتٌ للنصرِ، وأسبابٌ لتأخره، يعرفها العلماء، ويجهلها البسطاء، وأسوقُ لكم طرفاً منها، استجمعها صاحبُ الظلال- يرحمه الله - فاعقلوها وقارنوا واقعَ المسلمين بها، يقولُ سيد قطب- رحمه الله -: (والنصرُ قد يُبطئُ لأنَّ بنيةَ الأمةِ المؤمنة لم ينضجُ بعد نضجها، ولم يتمٌّ بعد تمامها، ولم تحشدُ بعد طاقاتها، ولم تتحفزَ كل خليةٍ, وتتجمع، لتعرف أقصى المد خور فيهما من قوى واستعدادات، فلو نالت النصرُ حينئذٍ, لفقدته وشيكا، لعدمِ قُدرتهما على حمايتهِ طويلاً.
وقد يبطئُ النصرُ حتى تبذلَ الأمةُ المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخرُ ما تملكهُ من رصيدٍ,، فلا تستبقي عزيزاً ولا غاليا، إلاَّ وتبذلهُ هيناً رخيصاً في سبيل الله.
وقد يبطئُ النصرُ حتى تجربُ الأمةُ المؤمنة آخر قواها، فتُدرك أنَّ هذه القوى وحدها بدون سندٍ, من الله لا تكفلُ النصر، إنَّما يتنزلُ النصرُ من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها، ثُمَّ تكلُ الأمر بعدها إلى الله.
وقد يبطئُ النصرُ لأنَّ البيئةَ لا تصلحُ بعدُ لاستقبالِ الحقِّ والخيرِ، والعدلَ الذي تمثلهُ الأمةُ المؤمنة، فلو انتصرت حينئذٍ, للقيت معارضةً من البيئةِ لا يستقرُ معها قرار، فيظلُ الصراعُ قائماً حتى تتهيأ النفوسُ من حوله لاستقبالِ الحقَّ الظافر لاستبقائه، من أجلِّ هذا كله، ومن أجل غيرهِ مما يعلمهُ الله، قد يبطىءُ النصر، فتتضاعفُ التضحيات، وتتضاعفُ الآلامُ، مع دفاعِ الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية، وللنصرِ تكاليفهُ وأعباؤهُ حين يأذن اللهُ به بعد استيفائه أسبابه، وأداءِ ثمنه، وتهيؤ الجوِّ حوله لاستقباله واستبقائه.
وقد يبطئُ النصرُ لتزيدَ الأمةُ المؤمنة صلتها بالله، وهي تُعاني وتتألم وتبذل، ولا تجدُ لها سنداً إلاَّ الله، ولا متوجهاً إلاَّ إليهِ وحده في الضراء، وهذهِ الصلةُ هي الضمانةُ الأولى لاستقامتها على النهجِ بعد النصر، عندما يأذنِ به الله، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحقِّ والعدل، والخيرَ الذي نصرها الله به.
وقد يُبطئُ النصرُ لأنَّ الأمةَ المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها، وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تُقاتلُ لمغنمٍ, تُحققه، أو تُقاتلُ حميَّةً لذاتها، أو تُقاتلُ شجاعةً أمام أعدائها، واللهُ يريدُ أن يكون الجهادُ له وحدهُ وفي سبيله، بريئاً من المشاعر الأُخرى التي تلابسهُ، وقد سُئل رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم -: ((الرجلُ يُقاتلُ حميةً، والرجلُ يُقاتلُ شجاعةً، والرجلُ يُقاتلُ ليرى فأيَّها في سبيل الله؟ فقال: \"من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله)) [3]
كما قد يبطئُ النصرُ، لأنَّ في الشرِّ الذي تكافحهُ الأمة المؤمنة بقيةً من خيرٍ, يريد
للهُ أنَّ يجردَ الشرَّ منها ليُمحِّص خالصاً، ويذهبَ وحدهُ هالكاً، لا تتلبسُ بهِ ذرةٌ من خيرٍ, تذهبُ في الغمار.
وقد يبطئُ النصرُ لأنَّ الباطلَ الذي تحاربهُ الأمةُ المؤمنة لم ينكشف زيفهُ للناسِ تماماً، فلو غلبهُ المؤمنون حينئذٍ,، فقد يجدُ لهُ أنصاراً من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعدُ بفسادهِ وضرورةَ زواله، فتظلَ له جذورٌ في نفوسِ الأبرياءِ الذين لم تنكشف لهمُ الحقيقة، فشاءَ اللهُ أن يُبقى الباطلُ حتى يتكشفَ عارياً للناس، ويذهبَ غيرَ مأسوفٍ, عليهِ من ذي بقية. [4]
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ, حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَومٍ, سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِن دُونِهِ مِن وَالٍ,)) (الرعد: من الآية11).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، ((لَهُ الحَمدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكمُ وَإِلَيهِ تُرجَعُونَ)) (القصص: من الآية70) وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وليٌّ الصالحين، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسولهُ إمامَ المتقين، اللهمَّ صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وأرض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ, إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ إخوة الإسلام: فينبغي ألاَّ يخامرَ المسلمُ شلكٌ بنُصرةِ الله لهذا الدين، حتى وإن لم يرهُ بأمِّ عينه، وتحققَ لأجيالٍ, بعده، فحسبهُ أن يكونَ جندياً صادقاً في سبيلِ خدمةِ هذا الدين، وحسبهُ أن يموتَ يوم يموت، وهو يُحسنُ الظنَّ بربهِ، ويستشعرُ بمسئوليتهِ تجاهَ دينه، قد حررَ عبوديتهُ لله.
أمَّا النصرُ فلابُدَّ من اكتمال أسبابهِ، وزالِ معوقاته، واللهُ يحكمُ ما يشاءُ ويفعلُ ما يريد، ووعدهُ حق، ونصرهُ قريب، وأمرهُ بين الكاف والنون، ولكن ثَمة أدواءٍ, يتلبسُ بها المسلمون وهم يستشرفون النصر، ونصرُ اللهِ عزيزٌ لا بُدَّ فيه من تمحيصِ الصفوف، ولابُدَّ من تميزِ الخبيثَ من الطيب، لابُدَّ من سقطٍ, لأصحابِ المطامعِ والأهواء، ولابُدَّ من تجريدٍ, للصفوةِ المختارةِ التي يُحبُها الله، وتستحقُ نصره، لابُدَّ من تمييزِ المجاهدين الصادقين من المتقولين المنتفعين.
عباد الله:
وليست المسؤوليةُ في هذا على الناس على حدٍ, سواء، فكلُّ بحسبه، ولست العبوديةُ المؤهلةُ للنصر ضرباً من الأماني، أو قدراً محدوداً من العبادات، يظنٌّ المرءُ فيها أنَّهُ بلغَ قمَّة الإيمان، واستحقَّ النصرَ لولا فساد الآخرين بزعمه، كلا، فالمسؤوليةُ كبيرة، والعبوديةُ المرادةُ لله شاملة، واسمع إلى أحدِ علماءِ السلف وهو يشخِّصُ الحال، وكأنَّهُ يعيشُ اليومَ بين ظهراني المسلمين،
ويقولُ ابن القيم في كتابه: (أعلام الموقعين عن رب العالمين) وهو يتحدثُ عن نوعي العبوديةِ العامةِ الخاصة: (ولله - سبحانه - على كلِّ أحدٍ, عبوديةً بحسبِ مرتبته، سِوى العبوديةِ العامةِ التي سوى بين عبادهِ فيها: فعلى العالم من عبوديةِ نشرِ السنةِ، والعلم الذي بعثَ اللهُ به رسلهُ ما ليس على الجاهل، وعليه من عبوديةِ الصبرِ على ذلك ما ليس على غيره، وعلى الحاكمِ من عبوديةِ إقامةِ الحقِّ وتنفيذهِ وإلزامه من هو عليه به، والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي، وعلى الغنيِّ من عبوديةِ أداءِ الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير، وعلى القادرِ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما).
وتكلم يحيى بن معاذ الرازي يوماً في الجهادِ والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، فقالت لهُ امرأةُ: هذا واجبٌ قد وضُع عنَّا فقال: هبي أنَّهُ قد وضَع عنكنَّ سلاح اليدِ واللسان، فلم يُوضع عنكنَّ سلاح القلب، فقالت: صدقت، جزا ك الله خيراً. أن يقول الشيخ- رحمه الله - وقد غرَّ إبليسُ أكثرَ الخلقِ بأنَّ حسنَّ لهمُ القيامَ بنوعٍ, من الذكر والقراءة والصلاة والصيام، والزهدُ في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبادات. فلم يُحدِّثُوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاءِ عند ورثةِ الأنبياءِ من أقلِّ الناسِ ديناً، فإنَّ الدين هو القيامُ لله بما أمر به، فتاركُ حقوقِ الله التي تجبُ عليه أسوأُ حالاً عند الله ورسولهِ من مُرتكب المعاصي، إلى أن يقول: ومن له خبرةً بما بعث اللهُ به رسولهُ- صلى الله عليه وسلم - وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أنَّ أكثرَ من يشار إليهم بالدين هُم أقلٌّ الناسِ ديناً- والله المستعان- وأيٌّ دينٍ, وأيٌّ خيرٍ, فيمن يرى محارمُ تُنتهك، وحدودهُ تُضاع، ودينهُ يُترك، وسنةَ رسولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم - يرغب عنها، وهو باردُ القلبِ، ساكتُ اللسان، شيطانٌ أخرس، كما أنَّ المتكلمَ بالباطل شيطانٌ ناطق، وهل بليَّةُ الدين إلاَّ من هؤلاءِ الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلامبالاةَ بما جرى على الدين؟ وخيارهم المحزن المتلمظ، ولو نُوزع في بعضِ ما فيه غضاضة عليه، في جاههِ أو مالهِ بذل وتبذل، وجدَّ واجتهد، واستعملَ مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء- كما يقولُ الشيخ - رحمه الله - مع سقوطهم من عينِ الله، ومقت اللهِ لهم، قد بلوا في الدنيا بأعظمِ بليَّةٍ, تكونُ وهم لا يشعرون وهو موت القلوب، فإنَّ القلبَ كلَّما كانت حياتهُ أتم، كان غضبهُ لله ورسولهِ أقوى، وانتصارهُ للدين أكمل [5].
أيَّها المسلمون:
في تركِ أمرِ الله، وعدم التمعٌّر لشيوعِ الفساد والمنكر، وقد ذكرَ الإمامُ أحمد وغيره أثراً، أنَّ اللهَ - سبحانه - أوحى إلى ملكٍ, من الملائكةِ أن اخسف بقريةِ كذا وكذا، فقال: يا رب كيف وفيهم فلانٌ العابد، فقال: به فابدأ، فإنَّهُ لم يتمعَّر وجههُ في يومٍ, قط.
وذكر صاحبُ التمهيد: أنَّ اللهَ - سبحانه - أوحى إلى نبيٍّ, من أنبيائهِ أن قُل لفلانٍ, الزاهد: أمَّا زُهدك في الدنيا فقد تعجلت به الراحة، وأمَّا انقطاعُك إلىَّ فقد اكتسبت به العز، ولكن ماذا عملت فيما ليَ عليك؟ فقال: يا ربي وأي شيءٍ, لك عليَ؟ قال هل واليتَ فيَّ وليا، أو عاديت في عدا؟ [6]
هكذا إخوة الإسلام، فَهِمَ السلفُ- رحمهم الله - حقيقةَ العبوديةِ لله، وكذلك جاءتِ النصوصُ الشرعية، والوصايا النبويَّة تُؤكدُ أمرَ القيامِ له بحقهِ عبوديةً عامة، يشتركُ الناسُ فيها، وعبوديةٍ, خاصة كلُّ بحسبه، تضمنُ قيام أمر الله، تُرسي دعائمَ الخبرِ في الأرض، وتوالي الخيِّرينَ، وتحبُ الناصحين، وتسهمُ في اقتلاع الشرِّ من جذر وه، وتأخذُ على أيدي السفهاءِ وتأطرهم على الحقِّ أطرا، وتكرهُ المبطلين، وتُعادي الكافرين، وتبغضُ المنافقين.
وبهذه المجاهدة في الأرض ينساحُ الخيرُ، وينكمشُ الباطل، ويقتربُ النصر، ولكنَّ ذلك يحتاجُ إلى صبرٍ, ومصابرة، وإيمانٍ, ويقين، ومن خطبَ الحسناءَ لم يغلها المهر. ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا)) (العنكبوت: من الآية69)، ((وَكَانَ حَقّاً عَلَينَا نَصرُ المُؤمِنِينَ)) (الروم: من الآية47)، ((وَلَقَد سَبَقَت كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرسَلِينَ * إِنَّهُم لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ)) (الصافات: 173، 172، 171).
وصدقَ رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم -: ((ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار ولا يتركُ اللهُ بيت مدرٍ, ولا وبرٍ, إلاَّ أدخلهُ اللهُ هذا الدين، بعزِّ عزيزٍ, أو بذلِّ ذليل، عزاً يُعزٌّ اللهُ به الإسلام، وذلاً يُذلٌّ به الكفر)) [7].
اللهمَّ انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين- اللهمَّ اجعلنا من أنصار دينك والمنافحين عن شرعك يا رب العالمين.
----------------------------------------
[1]- كلام الشيخ وإجابته السديدة على هذه المشاعر الخاطئة والهواجس الفاسدة، فليراجعه من شاء في: جامع الرسائل، الرسالة الثالثة (قاعدة في المحبة) (عن: متى نصر الله، الجليل ص 56-74).
[2]- على آخر كلامه النفيس في طريق الهجرتين ص 214، 215. طبعة قطر
[3]- متفق عليه
[4]- طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص 359.
[5]- أعلام الموقعين 2/176، 177.
[6]- أعلام الموقعين تعليق طه عبد الرؤوف 2/176، 177.
[7]- رواه ابن حبا ن وصححه الألباني في السلسلة (ج ا/7 ح 3).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد