بسم الله الرحمن الرحيم
شعائر الإسلام جاءت لترسخ التوحيد في نفوس المؤمنين
تحدثنا في العدد الماضي عن رحلة الحج وما بها من عبر ودروس، وقلنا إن هذه الرحلة في عبرها ودروسها وعظاتها تمس القلب، وتناجي الوجدان، وتخاطب العاطفة، وتحرك العقل، ولن يحظى الحاج بعظيم الأجر إلا إذا أدرك هذه العبر، وتعلم هذه الدروس، وتأمل هذه العظات.
ونستكمل الحديث عن هذه الدروس والعبر:
رابعاً: المساواة: لم تعالج فلسفة من الفلسفات قضية المساواة كما عالجها الإسلام، ولم تكن هذه المعالجة معالجة مثالية نظرية، لكنها كانت معالجة واقعية عملية، ولقد عالج القرآن هذه القضية بكل صرامة وصراحة، وقد أعلنت سورة الحجرات قانوناً من قوانين المساواة الراسخة ألا وهو: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات: 13).
ولقد عوتب النبي - صلى الله عليه وسلم - لمجرد أنه أهمل رجلاً أعمى، وعمد إلى رجالات من عظماء قريش، ولم يغن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون ذلك لمصلحة الدعوة، أو باسم الدين.
ولقد وعى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الدرس ومن يومها بدأ يمحو كل رابطة تقوى على رابطة الدين، فرأيناه في مكة مؤاخياً بين عمه حمزة ومولاه زيد بن حارثة، وبين عبد الله بن رواحة الخثعمي وبلال بن رباح الحبشي.
وفي الحج تظهر روعة المساواة، حيث تساوت الرؤوس، يوم أن حسرت الرؤوس، وجردت الأبدان، إلا من إزار ورداء، ظهر عليهما البياض، فتتلفت يمنة ويسرة، فلا تميز وزيراً ولا أميراً، ولا ملكاً ولا رئيساً، الكل سواء الوزير كالخفير، والغني كالفقير، وتنظر في الطواف والسعي لترى أميراً بجوار خفير، وغنياً بجوار فقير، وعالماً بجوار أمي جاهل، وسيداً ملاصقاً لخادم عامل.
من بكّر في الطواف قبّل الحجر، ومن تأخر كان عليه تأخيره، فليست هناك ساعة مخصوصة يطوف فيها علية القوم، أو يوم مخصوص يطوف فيه الملأ الأعلى من الناس، أو مدة معينة يقف بها الأثرياء بعرفة.
ومن هنا فقد انتهز النبي - صلى الله عليه وسلم - فرصة تجمع أصحابه في حجة الوداع فأعلنها صريحة مدوية ليسمع الحاضر، ويبلغ الشاهد الغائب، فقال - صلى الله عليه وسلم - كما عند أحمد في مسنده: \"أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى. أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -\".
خامساً: مراغمة الشيطان: منذ أن خلق الله الخلق وإبليس يتربص بهم كل التربص، وأدار إبليس المعركة بصورة قتالية بكل مقاييس الحرب، وبكل ما تعنيه كلمة \"حرب\" قديماً وحديثاً من معان، وفي فريضة الحج وخصوصاً يوم عرفة نرى مراغمة الشيطان، وكسر أنفه، وإضاعة عمله، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: \"ما رؤي الشيطان يوماً فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة، لما يرى فيه من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام\"(1).
وإن رمي الجمار هو رمي للهوى وانتصار على الشيطان، وإعلان العبد عبوديته لربه، وتنفيذه لأوامر الله، وهذه مراغمة للشيطان وانتصار عليه.
سادساً: إظهار توحيد الله - جل وعلا -:
توحيد الله - سبحانه - من أسمى عقائد الإسلام، وما قامت السماوات والأرض إلا من أجل كلمة التوحيد، وشعائر الإسلام كلها ما كانت إلا لترسخ التوحيد في نفوس المؤمنين، والمتأمل في شعيرة الحج يرى اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - البالغ بإظهار التوحيد والاهتمام به، وانظر إليه في نيته وهو يقول: \"اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة\"(2).
وانظر إليه في تلبيته وهو يقول: \"لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك\"(3).
وانظر إليه - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ركعتي الطواف فيصليهما ويقرأ بسورتي الكافرون والإخلاص(4).
قال ابن القيم في تعليل قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسورتين في ركعتي الطواف وغيرهما، لأنهما سورتي الإخلاص والكافرون كان يفتح بهما عمل النهار ويختمه بهما، ويقرأ بهما في الحج الذي هو شعار التوحيد (5).
وفي حجة أبي بكر في العام التاسع أرسل - صلى الله عليه وسلم - علياً ليؤذن في الناس: \"ألا يطوف بالبيت مشرك، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا، ومن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فهو لمدته ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة \"(6).
وانظر إليه - صلى الله عليه وسلم - وهو يعتلي الصفا متوجهاً إلى الكعبة قائلاً: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده صدق وعده (7).
وانظر إليه وهو يقف بعرفه ليعلن في يوم من خير أيام الدنيا كما في مسند أحمد بأن \"خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير\".
إن نبي التوحيد يعلن التوحيد في بلد التوحيد داخل بقعة التوحيد، ومنها انتشر التوحيد في الأرض، ولكن الأمة الآن تحاول العودة إلى الوراء. فالله الله في التوحيد يا أمة التوحيد.
سابعاً: وحدة الأمة:
لقد شاء الله - سبحانه - أن تكون هذه الأمة أمة واحدة، لا أمماً متفرقة، ودولة جامعة لا دويلات متمزقة، وكياناً متماسكاً لا كيانات متناثرة، والقرآن يؤكد ذلك، قال - تعالى -: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} 92 (الأنبياء) وقال: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} 52 (المؤمنون).
والكفر في مشارق الأرض ومغاربها منذ القدم يجمع نفسه لاستئصال شأفة الإيمان، والباطل في أي زمن يجمع قواه لإزالة الحق، ولقد حذر الله - سبحانه وتعالى - أهل الإيمان من تجمع الكفر وتفرقهم وجعل الله ذلك التفرق فتنة عظيمة وفساداً كبيراًº قال - تعالى -: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} 73 (الأنفال).
والواقع يؤكد تعاون اليهودية العالمية، والصليبية الغربية، والشيوعية الدولية، والوثنية الشرقية على قصعة الأمة الإسلامية.
ويأتي الحج ليظهر هذه الوحدة في كل عام، إنها وحدة في كل شيء.
وانظر إلى هذا المشهد الرائع في عرفة، وانظر يمنة أو يسرة، هل ترى إلا ثياباً بيضاً قد علت الأبدان، وارجع البصر كرتين فلن ترى إلا وفوداً أقبلت من مشارق الأرض ومغاربها، والتقت في صحراء عرفة، في ثياب رثة، لا تصلح لخيلاء، ولا تنفع لكبر.
نشيدهم العذب: لبيك اللهم لبيك.....
وحلو كلامهم: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار 201(البقرة).
وجميل منطقهم: ربنا هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
وعذب حديثهم: لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
وعالي صوتهم: لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً.
وزفير أنفاسهم: رب اغفر وارحم إنك أنت الأعز الأكرم.
وحشرجة صدورهم: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة.
ونبضات قلوبهم: اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
وتقلب أبصارهم: ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار.
إنها أمواج متلاطمة من البشر، ألوف مؤلفة، لا بل ملايين مملينة، اختلفت ألوانهم وتناءت ديارهم، واختلفت ألسنتهم، وتعددت لغاتهم، عرب وعجم، هنود وزنوج، سود وبيض، حمر وصفر، رجال ونساء، صغار وكبار، ولكن جمعهم شيء واحد هو وحدة الغاية ووحدة المقصد، فالغاية الله، والمقصد الله.
نعم لقد أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - على وحدة أمته وحذر من الفرقة. ولقد بدا ذلك واضحاً في حجة الوداع، وكانت أقواله - صلى الله عليه وسلم - محرضة على ذلك لذا قال - صلى الله عليه وسلم -: \"إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم\"(8).
وعند أحمد في المسند: \"يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد\"(9).
-----------------------------------------------------------
الهوامش
1 رواه مالك في الموطأ (944) عن عبيد الله بن كريز، وذكره الألباني في ضعيف الترغيب رقم (739).
2 رواه ابن ماجه في الحج (2890) عن أنس. وذكره الألباني في صحيح ابن ماجه رقم (2355).
3 رواه البخاري في اللباس رقم (5915)، ومسلم في الحج رقم (1184) عن ابن عمر.
4 رواه مسلم في الحج (1218) عن جابر.
5 زاد المعاد - ج1 - ص 308.
6 رواه البخاري في الحج رقم (1662) ومسلم في الحج رقم (1347) عن أبي هريرة.
7 رواه مسلم في الحج رقم (1218) عن جابر.
8 رواه مسلم في صفات المنافقين (2812) عن جابر.
9 رواه أحمد في المسند (23489) عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال محققو المسند: إسناده صحيح، وذكره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2964).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد