وجوب الاستسلام لما جاء به الوحي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له, و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله  صلى الله عليه و على آله و أصحابه و سلم تسليما كثيرا. {يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بث منهما رجالا كثيرا و نساء و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}, {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم و يغفر لكم ذنوبكم و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزا عظيما}, أما بعد:فإن خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - و شر الأمور محدثاتها و كل بدعة ضلالة .

إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمره الله بالإقتداء بهدي الأنبياء من قبله و أمرنا نحن بالإقتداء بهديه هو-  صلى الله عليه وسلم - فقال - تعالى -: {فبهداهم اقتده}, و قال - تعالى -: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}, و قد حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الإقتداء بالمشركين و من إتباع آثار اليهود و النصارى, صح عنه ذلك في الصحيحين و غيرهما في عدد كثير من الأحاديث الصحيحة المتواترة, فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - خطر إتباعهم و حذر هذه الأمة من ذلك و بين أنه سيقع فيها لا محالة, فقد أخرج الشيخان في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتتبعن سنن من قبلكم حتى لو دخلوا جحر ضب لا اتبعتموهم قيل يا رسول الله: اليهود و النصارى قال: فمن إذن», فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الخطر الداهم من الإقتداء بأعداء الله - سبحانه وتعالى - الكفرة الفجرة, و بين أن من سلك طريقهم سيصير إلى ما صاروا إليه, و لذلك حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من ترك الأمر بالمعروف إقتداء بهم فقال: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله و دع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد و هو على حاله فلا يمنعه ذالك أن يكون أكيله و قعيده و شريبه, فلما فعلوا ذالك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض» ثم قال: ?لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود و عيسى ابن مريم ذالك بما عصوا و كانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم و في العذاب هم خالدون و لو كانوا يؤمنون بالله و النبي و ما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء و لكن كثيرا منهم فاسقون} ثم قال: «كلا و الله لتأمرن بالمعروف و لتنهون عن المنكر و لتأخذن على يد الظالم و لتأطرنه على الحق أطرا و لتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم», إن أعداء الله - سبحانه وتعالى - قد سلكوا طريق النار و إن من كان عاقلا مهتديا لا يرضى لنفسه بسلوك هذا الطريق, لا يرضى أن يسلك طريق الذين وصفهم الله بأنهم سيشهدون على أنفسهم يوم القيامة بأنهم لا عقول لهم و ليس لهم من السمع ما ينفعهم من عقول الآخرين, فقد قال الله - تعالى -: {و قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير} إنهم يشهدون على رؤوس الأشهاد يوم القيامة أنهم لا يعقلون ولا يسمعون فكيف يكون هؤلاء محلا للثقة أو الإقتداء, إن أهل الثقة والإقتداء هم أنبياء الله الذين عصمهم الله من الوقوع فيما لا يرضيه, و قد ختمهم وقفى على آثارهم بأفضل الخلائق محمد - صلى الله عليه وسلم - كمله الله خلقا و خُلقا, و هداه لما أراد الله من عباده, و فتح له أبواب الخير و أغلق به أبواب الشر, و بين له كل ما يرضي الله - سبحانه وتعالى -, و ختم به الدين كله و قال فيه: {اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا}, و امتن به على جميع الخلائق فقال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}, قال أهل العلم: هذه الآية امتنان من الله - تعالى - على الخلائق جميعا ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ففيها الإمتنان على الكفار و فيها الإمتنان على المسلمين, فقد وصف الله فيها محمدا - صلى الله عليه وسلم - بخمس صفات ثلاث منهن للخلائق يشملن المؤمن و الكافر و اثنتان تختصان بالمسلمين, فقال - تعالى -: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} و هذه الصفة تشمل الخلائق جميعا فهو من البشر ليس من الجن و لا من الملائكة و هذا امتنان على البشر ببعثته منهم و اختياره منهم {عزيز عليه ما عنتم} أي شاق عليه كل ما يشق عليكم فإنه يكره المشقة للبشر و يريد منهم جميعا أن يدخلوا الجنة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما مثلي و مثلكم كمثل رجل أوقد نارا حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها و هذه الدواب فجعل ينفيهن بيده و هن يقتحمن فيقعن فيها ألا و إني ممسك بحججكم عن النار», فهو لا يريد للناس إلا أن يدخلوا الجنة فلذلك قال: {عزيز عليه ما عنتم}, الصفة الثالثة قوله: {حريص عليكم} فهو حريص على هداية الناس أجمعين لا يريد أن يرد عن سبيله أحد بعد بعثته, و لذلك قال: «من أطاعني دخل الجنة و من عصاني فقد أبى», وقال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى! قيل: و من يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة و من عصاني فقد أبى» فلذلك قال: ?حريص عليكم? و هذه الصفات الثلاث من صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها امتنان على المسلمين و الكافرين ثم امتن على المؤمنين بالخصوص فقال: {بالؤمنين رؤوف رحيم} فرأفته و رحمته بالمؤمنين و ليس للكافرين منها شيءº لأن الله - تعالى -يقول: {يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار و ليجدوا فيكم غلظة} , و قال - تعالى -: { يأيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم} أما أهل الإيمان فقد أمره الله بالرأفة بهم و الرحمة فقال: {فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله}, و قد بين الله - سبحانه وتعالى - أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم فقال - تعالى -: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمهاتهم}, و بين الله حاله و حال أصحابه و متبعيه فقال: {محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذالك مثلهم في التورية و مثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما} فلذالك لا بد يا إخواني أن نحرص على اتباع نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - و أن نأخذ ما جاءنا به من عند ربنا, و أن نأخذه جميعا, و أن لا نفصل فيه فإن من يأخذ بعضه و يرد بعضه مذموم في كتاب الله, فقد قال الله - تعالى -:  {أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض}, و قال - تعالى -: {فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما} و قال - تعالى -: {و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}, و قال - تعالى -: { و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا} ,علينا يا إخواني أن نحرص على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و على التمسك بهديه المبين, إن هذا الهدي الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو خير الهدي, فلا يمكن أن يأتي أحد بأرشد منه و لا بأعدل و لا بأقوم, هو الذي يرضي الله من عباده, و هو الذي يوافق العقول السليمة و الفطر المستقيمة, فطره الله على أصوب الآراء و أعدلها و هداه لذلك و سدده و وفقه و عصمه من الوقوع في الخطأ فكيف يعدل عاقل عن منهجه!, إن الله - تعالى - بين أن من عدل عن ملة إبراهيم فقد خسر نفسه فقال - تعالى - في ذكر إبراهيم - عليه السلام -: {و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه},  فإذا كان إبراهيم - عليه السلام - بهذه المثابة فمحمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل منه و أكمل, فهو أفضل الخلائق جميعا, و إبراهيم يوم القيامة يدخل في شفاعته فهو داخل في شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة, و لذالك سيعتذر إذا سأله الناس الشفاعة فإنهم سيأتونه من بين الأنبياء فيقول و هل كنت إلا خليلا من وراء وراء, و يقول: «رب نفسي نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي» كما بين ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه في حديث الشفاعة, فإذا كان الحال كذالك فعلينا أن نحرص على اتباع هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - و الأخذ به و أن لا نرغب عنه إلى اتباع الذين خسروا أنفسهم في الحياة الدنيا و في الآخرة و قامت عليهم الحجة و عاداهم الله - سبحانه وتعالى - و صرفهم عن طريق الحق و تعهد بصدهم إلى طريق الغواية, فقد قال - تعالى -: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق و إن يروا كل آية لا يؤمنوا بها و إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا و إن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا} فأولئك المصروفون الذين يؤفكون عن طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, يطردون عنه و هم يرونه يوم القيامة فيمنعون من الورود على حوضه فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - في ذكر الحوض أنه يطرد دونه أقوام قد غيروا و بدلوا فيضربون كما يضرب غرائب الإبل فأعرفهم فأقول: «أي ربي أمتي أمتي فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. فأقول:  فسحقا فسحقا فسحقا» إن الذين يرجون شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة و هم بأمس الحاجة إليها و هو يواجههم بالدعاء عليهم فيقول فسحقا فسحقا فسحقا أي هلاكا و هلاكا و هلاكا, قد انقطعت آمالهم و ندموا حيث لا ينفع الندم لا شافع لهم سواه - صلى الله عليه وسلم - و هو الذي يدعوا عليهم فيقول: فسحقا فسحقا فسحقا, و ويل لمن كان شفعاؤه خصماءه يوم القيامة, و قد أخرج عبد الرزاق في المصنف بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ذكر حوضه - صلى الله عليه وسلم - إنه يطرد دونه الذين يتبعون أهل الظلم و يناصرونهم على ظلمهم, فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: « إنه سيستعمل عليكم أمراء يكذبون في الحديث و يظلمون الناس فمن صدقهم في كذبهم أو أعانهم على ظلمهم فلن يرد علي الحوض», على المؤمن العاقل أن يفكر الآن في ثمن الحوض و ما ذا يساوي عنده من شؤون حياته الدنيا الزائلة الفانية, فهل يرضى أن يبيع شربة من حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يظمأ بعدها صاحبها أبدا بأي تافه من توافه هذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة التي إذا لم يفارقها الإنسان فارقته و تركته مذموما إلى أن يرجع إلى أرذل العمر و إلا جاءه الموت قبل ذلك, إن علينا يا إخواني أن نسلك طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سننه القولية و الفعلية, و أن نرضى به رسولا من عند الله - سبحانه وتعالى-, فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من قال: «رضيت بالله ربا و بالإسلام دينا و بمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا و رسولا» كان حقا على الله أن يرضيه, فعلينا أن نحقق هذا الرضى في سلوكنا وفي أقوالنا و في أفعالنا و في هدينا كله و أن نعلم أن الذين يرغبون عن ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء كانت تلك الرغبة في الاعتقاد أو في العبادة أو في المعاملة أو في القانون أو في السلوك أو في غير ذالك هم من الذين خسروا أنفسهم في الحياة الدنيا و في الآخرة, و سيطردون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, و لا يدخلون في شفاعته ولا يدعون بإمامته {يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم و لا يظلمون فتيلا و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا}, إن كثيرا من أولاد المسلمين يرغبون عما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - تقليدا للكفرة من أعداء الله - سبحانه وتعالى - فيقننون من القوانين ما يوافق ما يقننه أولئك أو يرغبون في تقنينه و كذالك يفعلون من السلوك و الأفعال ما لا يرتضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و يقولون من الأعمال ما لا يقوله, و قد بين الله - تعالى - مخالفة المنافقين لرسول - صلى الله عليه وسلم - في الهدي و السلوك, فبين أن من علاماتهم أنهم يحيونه بغير تحية الله - عز وجل - و أنهم في هديهم و سلوكهم يعرفون في لحن القول, فهذه صفات من صفات المنافقين نراها اليوم في كثير من أولاد المسلمين يحاولون أن يسلكوا غير طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هديهم و سلوكهم و أعمالهم , و كل ذلك من الأمور التي يندم عليها صاحبها يوم لا ينفع الندم و بالأخص إذا كانت المخالفة في أمر عظيم من أمور الدين, فالذي يترك هديا تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - و استمر عليه طيلة حياته و سلكه أصحابه من بعده و سلكه الصالحون من هذه الأمة المتبعون لطريق الحق الذين زكاهم الله - تعالى - في قوله: { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا و ينصرون الله و رسوله أولئك هم الصادقون و الذين تبوءوا الدار و الإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون و الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} لا بد يا إخواني أن نسلك طريق هؤلاء فقد زكاهم الله هذه التزكية العظيمة و زكاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم – كذلك, فقد صح عنه أنه قال: «خير القرون القرن الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم», فهم أفضل هذه الأمة و أولاها بسلوك طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أولاها بالدخول في شفاعته و أعلمها بهديه و سنته فمن رغب عن هديهم و سلك طريقا غير طريقهم فما ذا يقول إذا, جاءته هذه الآية يوم القيامة تخاصمه. {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا و إن تولوا فإنما هم في شقاق}, فلذلك لا بد يا إخواني أن نحرص على أن نؤمن بمثل ما آمنوا به و أن نهتدي بمثل ما اهتدوا به و أن لا نرغب عن ملتهم و أن لا نعدل عن ما كانوا عليه بأي وجه من الوجوه, إن الذين يرغبون عما كانوا عليه فيقتدون بالفجرة الكفرة في أمورهم و شؤونهم و مهرجاناتهم و عوائدهم و ملابسهم و أقوالهم و أفعالهم سيحشرون مع من أحبوا, فقد جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله الرجل يحب القوم و لما يلحق بهم فقال: «أنت مع من أحببت» فإنما يبعث الرجل يوم القيامة مع من أحب فمن أحب أصحاب الموسيقى الرحالة أو غيرها, أو أحب سلوك الفجرة من الكفار أعداء الله - سبحانه وتعالى- في إجازاتهم و عوائدهم وسلوكهم أو في قوانينهم و أمورهم فإنما يحشر مع من أحب يوم القيامة.

عباد الله إن أمر الحشر أمر عظيم و إن أمر الساعة مثل لمح البصر يظن الإنسان أن هذه الدنيا مستمرة فيأتي أمر الله - سبحانه وتعالى - في ساعة من ليل أو نهار فتذهب الدنيا و تتقوض كأن لم تغن بالأمس كما قال الله:{إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس و الأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها و الزينت و ظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس}, و قال - تعالى -: {و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح و كان الله على كل شيء مقتدر}.

 بارك الله لي و لكم في القرآن العظيم و نفعني و إياكم بما فيه من الآيات و الذكر الحكيم و تاب علي و عليكم إنه هو التواب الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه و الشكر له على توفيقه و امتنانه و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه و أشهد أن محمدا عبده و رسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله و أصحابه و أزواجه و ذريته و إخوانه.

 

عباد الله إن لله مواسم في السنة يضاعف فيها الحسنات و يوفق فيها الذين يرتضيهم لعبادته و يضاعف لهم الأجور, و إن من هذه المواسم هذا اليوم الذي أنتم فيه وهو يوم الجمعة, فقد شرفه الله على سائر أيام السنة, و قد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - فضله و مزيته و بين أنه قد اختلفت فيه الأمم من قبلنا, فقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هذا يومهم الذي اختلفوا فيه و فقنا الله له. الناس فيه لنا تبع اليهود غدا و النصارى بعد غد» إنه يوم وفق الله له هذه الأمة, و أضل عنه الأمم السابقة فضل عنه اليهود إلى اليوم الذي بعده و ضل عنه النصارى إلى اليوم الذي يلي ذلك,  و وفق الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - و أتباعه لاختيار هذا اليوم من الأسبوع, فلا يمكن أن يعدل عنه عادل إلا إذا أراد سلوك طريق اليهود أو النصارى و هي كما رأيتم صفقة مغبونة أن يختار الإنسان سلوك طريق حيي بن أخطب و كعب بن الأشرف على سلوك طريق محمد - صلى الله عليه وسلم -.

إن الله - سبحانه وتعالى - اختار هذا اليوم للمسلمين و شرفه من بين أيام الأسبوع فقد شرفه بعدد كثير من الخصائص فهو عيد الصلاة و أنتم تعلمون أن الأعياد شعائر يخصصها الله - سبحانه وتعالى- بالفضل العظيم و الخير العميم, فكل عبادة من عبادات الله - سبحانه وتعالى- الكبرى جعل الله لها عيدا مخصوصا, فالصلاة عيدها هذا اليوم من الأسبوع, و الزكاة عيدها اليوم الذي يدور فيه الحول على الإنسان و هو يملك نصابا, و الصوم عيده يوم الفطر من رمضان, و الحج عيده يوم الأضحى و هو عاشر شهر ذي الحجة, فهذا اليوم هو عيد صلاتكم التي هي عماد الدين و عموده و هي الصلة بين العبد و ربه, فلا يمكن أن يعدل عنه الإنسان إلى ما سواه من الأيام فلم يسمي الله في كتابه و هو بين أيديكم يوما من أيام الأسبوع إلا يوم الجمعة, فقد قال الله فيه: { يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله و ذروا البيع} فلم يسم أي يوم آخر من أيام الأسبوع في القرآن إلا هذا اليوم إيذانا بفضله و عظم شأنه, و قد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فقد صح عنه أنه قال: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم و فيه أدخل الجنة و فيه أخرج منها و فيه تيب عليه و فيه مات و فيه تقوم الساعة و ما من دابة إلا و هي مطرقة مصيخة من طلوع فجره إلى طلوع شمسه تنتظر الساعة إلا الإنس و الجن», و قد بحث أهل العلم في هذا الحديث في أمر عظيم, و هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر فضل يوم الجمعة فذكر ما حصل لآدم فيه من التشريف و التكريم و ذالك امتنان على عباده, فإن من أحسن إلى أبيك فهي منة تحملها في عنقك و قد أحسن الله إلى آدم و أكرمه بكل هذا الإكرام, فهو امتنان عليكم أجمعين و نعمة هي في أعناقكم يلزمكم جميعا أن تشكروها لله حين شرف أباكم آدم بأن خلقه بيمينه و نفخ فيه من روحه و أسجد له ملائكته و جعله خليفته في الأرض, لكن وجه البحث أن هذه النعم جاء من بينها و أخرج منها, و في لفظ آخر لمسلم في الصحيح و اهبط منها أي اهبط من الجنة في هذا اليوم فقال: بعض أهل العلم إهباط آدم و إخراجه من الجنة نعمة عليه باعتبار المآل لا باعتبار الحال, فإنه لولا إهباطه إلى الأرض لما حصل له الإستخلاف, و الإستخلاف توظيف من الله في أمر عظيم, فلو لم يهبط آدم إلى الأرض لم يكن له سلطان في الجنة و لم يكن له فيها استخلاف.

و الوجه الثاني ما ذكره أبو عمر ابن عبد البر أن وجه ذكر إهباطه من الجنة أنه هدي للإجتباء و التوبة و للرسالة و النبوة و هي أمور لم تكن لتتحقق في الجنة, و قد ذكر أبو بكر ابن العربي وجها ثالثا: و هو أن العبادة الخاصة التي مسرحها هذه الحياة الدنيا لم يكن ليوفق لها آدم و ذريته لولا الإهباط إلى الأرض, فلولا إهباط آدم إلى الأرض لما كنا نسجد لله و لا نصوم و لا نعبده لأن تلك العبادة الخاصة ليست الجنة محلا لها, فأهل الجنة يلهمون الأذكار و لكنهم تسقط عنهم التكاليف الأخرى, فلذلك كان من نعمة الله علينا أن أهبط أبانا آدم إلى الأرض فهذه النعمة جاءت في طي المحنة و كثيرا ما تأتي النعمة في طي النقمة كما قال الحكيم:

 لا تكره المكروه عند حلولــه * * *  إن المكاره لم تزل متباينة

كـم نعمة لا تستقل بشكرها * * *  لله في طي المكـاره كامنــة

إن هذا اليوم العظيم ميزه الله - سبحانه وتعالى- بعدد كبير من المميزات, فقد جعل الله فيه ساعة لا يصادفها عبد مؤمن يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها, و قد أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده يقللها أي أنها ساعة قصيرة, و قد أخرج مسلم في الصحيح عن بن عمر أن أبا موسى الأشعري سأله فقال: هل سمعت أباك يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ساعة الجمعة قال: قلت نعم سمعته يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «هي ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى نهاية الصلاة» فهذه هي ساعة الجمعة عند ابن عمر كما أخرج مسلم في الصحيح, و قد ذهب عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - كما أخرج مالك في الموطأ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنها أخر ساعة في يوم الجمعة, و قد جادل أبو هريرة عبد الله ابن سلام فقال: كيف تكون آخر ساعة و قد قال لا يصادفها عبد مؤمن قائما يصلي و ليست ساعة صلاة فقال: «ألم يقل أنتم في صلاة ما انتظرتموها» فبين عبد الله بن سلام أن انتظار الصلاة صلاة فمن كان في ذالك الوقت يسأل الله حاجة فسيعطيه إياها لا محالة و إخفاء هذه الساعة في يوم الجمعة لحكمة عظيمة ليلتمسها الناس في هذا اليوم جميعا, فعلى المؤمنين أن يعطلوا أعمالهم الدنيوية في هذا اليوم إلا ما كان واجبا منها أو مندوبا أو كان طاعة أو تكميلا لطاعة فيلتمسوا هذه الساعة العظيمة التي لا يصادفها عبد مؤمن يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها, و كذالك من خصائصه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بالإكثار من الصلاة عليه فيه و بين أن صلاتنا معروضة عليه فقال: «فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي», و كذالك من خصائصه أنه تقوم فيه الساعة و لذلك ما من دابة إلا و هي مطرقة مصيخة من طلوع فجره إلى طلوع شمسه تنتظر الساعة إلا الإنس و الجن. و كذالك من خصائصه الفضل العظيم لهذه الصلاة من بين الصلوات, فقد ذكر كثير من أهل العلم أنها الصلاة الوسطى التي خصها الله من بين الصلوات بقوله: {حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى و قوموا لله قانتين} و بين النبي- صلى الله عليه وسلم - ما من الفضل العظيم يكتب لقاصدها فهي الصلاة التي تشهدها الملائكة يكتبون الناس على أبواب المساجد الأول, فالأول منذ ضحاها إلى أن يتكلم الإمام فالملائكة يكتبون, فإذا بدأ الإمام يتكلم طوى الملائكة صحفهم و دخلوا يستمعون الذكر, و كذلك بين النبي - صلى الله عليه وسلم - تكفير السيئات بها, فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ثم ذهب إلى المسجد خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه», و صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الصلوات الخمس و الجمعة إلى الجمعة و رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن ما لم تغشى الكبائر», و صح عنه - صلى الله عليه وسلم - كذلك أنه قال: «من خرج إلى المسجد يوم الجمعة فلم يفرق بين اثنين بغير إذنهما خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه», و صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من غسل و اغتسل و بكر و ابتكر و أخذ من طيب بيته ثم قصد المسجد يوم الجمعة لم يفرق بين اثنين إلا بإذنهما غفرت له ذنوبه و لو كانت مثل زبد البحر», و بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أجر القاصد للجمعة و المستمع لها و ما يحصل له من الأجر العظيم, و حذر كذلك من اللغو في وقت الجمعة فقال: « من لغى فلا جمعة له», و قال: «من حرك العصى فقد لغى », فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - إذن هذا الأجر العظيم و الخير الكثير المتعلق بهذه الصلاة, و حذر كذالك تحذيرا بليغا من تركها و التخلف عنها, فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة و بن عمر - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين», فهذا تحذير بليغ من ترك الجمعة.

 و أخرج مسلم في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد هممت أن أبعث رجالا فيأتوا بحزم من حطب ثم أقدم للناس رجلا فيصلي بهم ثم أخالف إلى بيوت قوم يتخلفون عن الجمعة فأحرق عليهم بيوتهم», فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جزاء الذين يتخلفون عن الجمعة أن تحرق عليهم بيوتهم كل هذه الأحاديث تدل على فضل هذا اليوم و عناية الشارع به فلا يمكن أن يساويه أي يوم آخر من أيام الأسبوع, و لا يمكن أن يجعل أحد نفسه ندا لله يشرع ما لم يأذن به الله, فقد قال الله - تعالى -: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}, و قال - تعالى -: {قل أفرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما حلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون}, فالتحليل و التحريم و التشريع من خصائص الإلهية ليس لأحد أن يحل و لا أن يحرم و لا أن يشرع إلا الله - جل جلاله - وحده و قد شرع لنا هذا اليوم و بين فضله و ميزه عن غيره من سائر الأيام, و نحن معاشر المؤمنين نرضى بما اختار الله لنا و نرضا بما وفقنا له و لا نعدل عنه إلى ما سواه, و لا شك أن كل مؤمن من الحاضرين و ممن سواهم يرغب في أن يسلك طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أن يسلك هديه و دله و بالأخص إذا بين الأجر العظيم و الخير الكثير في ذلك, فلذلك عليكم يا إخواني أن تتشبثوا بهذا اليوم و أن تلتمسوا ساعة الجمعة فيه و أن تكثروا من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه كما أمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك و اعلموا أن الله أمركم بأمر بدء فيه بنفسه و ثنى فيه بملائكته و ثلث بكم معاشر المؤمنين فقال جل من قائل كريما: {إن الله و ملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}, وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا» اللهم صل و سلم و زد و بارك على نبينا محمد عبدك و نبيك و رسولك النبي الأمي و على آله و صحبه و سلم تسليما.

اللهم أعز الإسلام و المسلمين و أذل الشرك و المشركين و أوهن كيد الكافرين و انصرنا عليهم أجمعين.

اللهم أظهر دينك و كتابك و سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - على الدين كله و لو كره المشركون.عباد الله: {إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون} فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم و اشكروه على نعمه شكرا حقيقيا يزدكم و لذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون.يغفر الله لنا و لكم.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply