صبرا رجال الأقصى


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أيها الصائمون الكرام، يا وفود الرحمن إلى المسجد الأقصى المبارك، وقد شددتم رحالكم منذ بواكر هذا الصباح من بيوتكم ومخيماتكم وقراكم لتصلّوا صلاة الجمعة في رحاب أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث مسجد تُشدّ إليه الرحال في دنيا الإسلام والمسلمين. وقد فزتم بذلك الفضل الجزيل بمخصوصية الزمان والمكان، فيوم الجمعة هو سيد الأيام، وشهر رمضان هو سيد الشهور، والمسجد الأقصى بارك الله فيه وبارك حوله، وضاعف ثواب العاملين فيه فضلاً من الله ومنّة، نسأله - تعالى -أن يتقبّل منا الصيام والقيام، وأن يجعلنا من المرابطين في مسجده الأقصى المبارك، وأن يكرم وفادتنا، ويجزل ثوابنا، ويتجاوز عن سيئاتنا، ويتوب علينا وعلى المؤمنين من أمة سيدنا محمد، وأن يعاملنا بما هو أهله، إنه أهل التقوى وأهل المغفرة.

أيها المسلمون، أيها الصائمون، إن حَشدكم هذا في القدس ودُرّة جبينها وواسطة عقدها المسجد الأقصى المبارك ليؤكد بشكل قاطع للقاصي والداني حرصكم على هذه المدينة المقدسة، وحبكم للمسجد الأقصى الذي قرّر الله إسلاميّته، وحكم بمسجِدِيّته، وجعله آية من الذكر الحكيم وسورة من القرآن العظيم، فقال - تعالى -: {سُبحَانَ الَّذِي أَسرَى بِعَبدِهِ لَيلاً مِنَ المَسجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسجِدِ الأَقصَى الَّذِي بَارَكنَا حَولَهُ} [الإسراء: 1]. وبهذا القرار الرباني والحكم الإلهي فازت أمتكم، وفزتم بشرف سِدَانة هذا المسجد العظيم الذي اقترن برموز التوحيد والعبادة في أقدس ديار المسلمين، وجزءًا من عقيدتكم، ومَعلَمًا من معالم دينكم وحضارتكم. ولا يخضع هذا القرار الرباني لأهواء البشر أو لهيئة قضائية مهما كانت درجتها أو لجنة سياسية مهما كانت منزلتها، فكل ما يصدر من تصريحات أو فتاوى أو أحكام قضائية من الجهات الإسرائيلية المحتلة تنتقص من حق المسلمين في المسجد الأقصى وتمس عقيدتهم فهي مرفوضة جملة وتفصيلاً، ولن يقبلها مسلم في هذا العالم خالطت قلبه بشاشة الإيمان وعزة الإسلام، وصدق الله العظيم: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعلَمُونَ} [المنافقون: 8].

أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن هذه الإجراءات التعسّفية التي يمارسها الاحتلال ضد شعبنا وأرضنا ومقدساتنا لن تزيد هذا الشعب إلا إصرارًا على تحقيق أهدافه في رحيل الاحتلال، وتمسّكًا بأرضه ومقدساته، فما زالت أرواح الشهداء تهتف بأبناء هذا الشعب للتمسك براية الكرامة ونشيد الحرية من قيد السجّان والجلاّد، وما زالت دماء ذرية المسلمين التي قضت في الدفاع عن قدسية المسجد الأقصى يوم حاول الموتورون من عصابات المستوطنين وضع حجر الأساس لهيكلهم المزعوم. ما زالت تلك الدماء تتدفّق في شرايين أبناء هذا الشعب الذي جعل من نفسه ونفيسه سياجًا يدفع عَوَادي الزمان وغوائل الأيام عن أقصاه المبارك الذي شرفنا الله جميعًا برعايته وسِدَانته وإعماره في زمان أحاطت به الأخطار، وتربّص به الطامعون، وغفل عنه العرب والمسلمون والحكام والمتنفذون بغير حياء من الله أو خجل من التاريخ، ولله در القائل:

 

يعيشُ المرءُ ما استحيى بخيرٍ,  ***  ويبقى العودُ ما بقيَ اللحاءُ

فلا والله ما فِي العيش خيرٌ   ***    ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ

 

جاء في الحديث الشريف عن الصحابي الجليل ذي الأصابع عن النبي قال: قلت: يا رسول الله، أين تأمرنا إن ابتلينا بعدك بالبقاء؟ قال: ((عليك ببيت المقدس، فلعله ينشأ لك بها ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون)).

 

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية

 

 

وبعد: أيها المسلمون، أيها الصائمون، إن شهر الصيام موسم النفوس الخيّرة والهمم العالية، فهو محطة إيمانية للتزود بالتقوى والتزام النفس بالطاعة والتخلّق بالأخلاق الحميدة الفاضلة، ((فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يَرفُث ولا يَصخَب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم)).

فهنيئًا لمن احتسب صيامه لله - تعالى -، وحافظ على صومه من كل شائبة أو ذنب يذهب بالأجر كالغيبة والنميمة وشهادة الزور، لقول الرسول: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).

فتزود ـ أخي الصائم ـ من يومك لغدك، ومن دنياك لآخرتك، واجعل خير زادك الطاعة والتقوى، فالله - تعالى -يقول: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى وَاتَّقُونِي يَا أُولِي الأَلبَابِ} [البقرة: 197].

وقد أصاب من قال:

ترحَّل عن الدنيا بزادٍ, من التٌّقَى ***  فعمرك أيام وهُنّ قَلائلُ

 

أيها المسلمون، أيها الصائمون، إن شهر رمضان هو شهر القرآن، فأقبلوا على كتاب الله تلاوة وتدبّرًا والتزامًا بأحكامه وسيرًا على هدايته ومنهاجه، فقد كان شهر الصيام على امتداد التاريخ الإسلامي شهر العزة والانتصارات، يوم أخذت الأمة عقيدة التوحيد راية لعزتها وجيشها، وطبّقت شريعة الإسلام على جميع مناحي حياتها، فأعزها الله في بدر وهم أذلة، وعاد جيش الفتح إلى مكة بالنصر والظفر ليرسم للمهاجر طريق العودة المظفّرة إلى الوطن. وكان شعار \"وا إسلاماه\" فَيصَلاً في عَين جَالُوت، حيث الهزيمة المنكرة للمغول والتتار الذين اجتاحوا حاضرة الخلافة الإسلامية بغداد التي يحتلها اليوم مغول العصر، فما أشبه اليوم بالبارحة، ولا خلاص إلا بالرجوع إلى كتاب الله والسير على سيرة السلف الصالح من القادة العظام والمحررين الكرام وأتباع النصر المبين الذي أضاء للمسلمين جوانب حياتهم، فالله يقول: {قَد جَاءَكُم مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهدِي بِهِ اللَّهُ مَنَ اتَّبَعَ رِضوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخرِجُهُم مِنَ الظٌّلُمَاتِ إِلَى النٌّورِ بِإِذنِهِ وَيَهدِيهِم إِلَى صِرَاطٍ, مُستَقِيمٍ,} [المائدة: 15، 16]. ويقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: (ضَمِنَ لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة).

فهيّا يا أمة الإسلام، خذي زمام المبادرة بعودة صادقة إلى كتاب الله، وجدّدِي عهد الأُوَل، الذين سبقوا في العزة والنصر والكرامة، فما زالت خير أمة أخرجت للناس، وأجيبوا داعي الله، فالله يقول: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحيِيكُم} [الأنفال: 24]، والرسول يخاطبكم بقوله:((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله)).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply