بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً.
عباد الله اتقوا الله حق التقوى وراقبوه في السر والعلن
وبعد سنقف وإياكم في هذه الدقائق الغالية مع آيات من القران مع قصة قوم سبأ مع سورة سبأ
يقول تعالى:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ((لَقَد كَانَ لِسَبَإٍ, فِي مَسكَنِهِم ءايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ, وَشِمَالٍ, كُلُوا مِن رّزقِ رَبّكُم وَاشكُرُوا لَهُ بَلدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبُّ غَفُورٌ فَأَعرَضُوا فَأَرسَلنَا عَلَيهِم سَيلَ العَرِمِ وَبَدَّلنَـاهُم بِجَنَّـاتِهِم جَنَّتَينِ ذَوَاتَى أُكُلٍ, خَمطٍ, وَأَثلٍ, وَشَىء مّن سِدرٍ, قَلِيلٍ, ذَلِكَ جَزَينَـاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَل نُجزِى إِلاَّ الكَفُورَ وَجَعَلنَا بَينَهُم وَبَينَ القُرَى الَّتِي بَارَكنَا فِيهَا قُرًى ظَـاهِرَةً وَقَدَّرنَا فِيهَا السَّيرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً ءامِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَـاعِد بَينَ أَسفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُم فَجَعَلنَـاهُم أَحَادِيثَ وَمَزَّقنَـاهُم كُلَّ مُمَزَّقٍ, إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَـاتٍ, لّكُلّ صَبَّارٍ, شَكُورٍ,)) سبأ: 15-19
إن سبأ عباد الله قبيلة معروفة في اليمن، ومسكنهم بلدة مأرب، ومن نعم الله ولطفه بالناس عموماً والعرب خصوصاً أن قص عليهم في القرآن أخبار المهلَكين من الأقوام التي كانت تجاورهم. وأبقى آثارهم شاهدة على جحودهم وهلاكهم، علّهم بذلك يعتبروا ويؤمنوا.
كانت سبأ في أرض مخصبة ما تزال بقية منها إلى يومنا. وقد ارتقوا في سلم الحضارة حتى تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة التي تنحدر إليهم من الجبال عبر وديان عظيمة. فأقاموا خزاناً طبيعياً يتألف جانباه من جبلين عظيمين وجعلوا بينهما على فم الوادي سداً كبيراً به عيون. تفتح وتغلق وخزنوا المياه بكميات عظيمة وراء السد وتحكموا فيها وفق حاجتهم فكان لهم من هذا مورد مائي عظيم أطلق عليه سد مأرب.
وكان من أثر ذلك الرخاء والوفرة والمتاع الجميل. جنتان عن يمين وشمال فكانت آية تذكرهم بالمنعم الوهاب - سبحانه وتعالى -، وقد أمروا أن يستمتعوا برزق ربهم شاكرين له، وذكرهم بنعمة البلد الطيب، ومن زيادة نعمه المغفرة على التقصير والتجاوز عن السيئات.
فلا إله إلا الله، سماحة في الأرض بالنعمة والرخاء وسماحة بالعفو والغفران من رب الأرض والسماء فماذا يقعدهم عن الحمد والشكر لذي الجلال والإكرام.. ولكنهم أعرضوا عن شكر الله ولم يعملوا بما أمرهم الله وأساءوا فيما أنعم الله عليهم وما أحسنوا فكانت العقوبة من الله بأن سلبهم تلك النعم والوفرة والخضرة، فأرسل عليهم سيل العرم الجارف الذي حطم ذلك السد العظيم.
فتفجرت المياه المحتجزة. فأغرقت. ودمرت ذلك النعيم. وبعدها جفت الأرض. واحترق الزرع. فبدلت الجنان الفيحاء بأرض قاحلة مقفرة. بها نبات ذا شوك وأثل وشيء من سدر قليل. وضيق عليهم الرزق وبدلهم من الرفاهية والنعماء بالشدة والخشونة واللأواء. ولكنه لم يمزقهم ويفرقهم بل كان عمرانهم متصلاً بينهم وبين القرى المباركة مكة والشام فيخرج المسافر من قرية ويدخل القرية الأخرى ولما يظلم الليل عليهم وهم آمنون مطمئنون.. ولكن غلبت على قوم سبأ الشقاوة فلم يتعظوا بالنذير الأول ولم يرجعوا إلى ربهم ويستغفروه بل دعوا دعوة الحمق والجهل قائلين: ((رَبَّنَا بَـاعِد بَينَ أَسفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُم فَجَعَلنَـاهُم أَحَادِيثَ وَمَزَّقنَـاهُم كُلَّ مُمَزَّقٍ, إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَـاتٍ, لّكُلّ صَبَّارٍ, شَكُورٍ,)) سبأ: 19
واستجاب الله دعوتهم ففرقهم في الأرض وبدد شملهم بعد أن كانوا مجتمعين وصاروا أحاديث يرويها الرواة، وقصة يعاد ذكرها على الألسن والأفواه، فأزالهم الله بعد أن كانوا أمة لها شأنها بين الأمم..، ولكن ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه.
وبعد ذلك كله تختم القصة بتوجيه من الله العليم الحكيم لمن يقرأ هذا القرآن ويعتبر بما فيه من الأحكام والشرائع والأخبار، أن ما ذكر في هذه القصة آية وموعظة لكل صبار شكور. فيحذر المعتبر من الجزع وهو ضد الصبر، ومن الكفر وهو ضد الشكر.
ولقد ذكر الله الصبر إلى جوار الشكر.. صبر في البأساء.. وشكر في النعماء.. وفي قصة سبأ آيات لهؤلاء وهؤلاء.
ختاماً عباد الله، تأملوا أثر المعاصي والذنوب كيف حولت أمة ممكنة في أرضها ترفل في خيراتها بطيب أرضها وتقارب أسفارها ومغفرة ربها لتقصيرها، فصارت أحوالها منكوسة فبُدلوا بالفرقة بعد الاجتماع وبمحق البركة بعد طيب البقاع وبتباعد الأسفار بعد تقاربها، واستُبدلوا بعد الأمن خوفاً وبعد العز ذلاً.. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -في كتابه الداء والدواء: \"ومن عقوبات المعاصي أنها تزيل النعم وتحل النقم. فما زالت عن العبد إلا بذنب ولا حلت به نقمة إلا بذنب\".
وقال أحد السلف - رحمه الله تعالى -: \"ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة\".
وقال - تعالى -: ((وَمَا أَصَـابَكُم مّن مٌّصِيبَةٍ, فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُوا عَن كَثِيرٍ,)) [الشورى: 30].
ولقد أحسن القائل:
إذا كنت في نعمـة فارعها *** فإن المعاصي تــزيل النعـم
وحطها بطاعـة رب العباد *** فرب العباد سـريع النـقـم
وإياك والظلم مهما استطعت *** فظلم العباد شـديـد الوخـم
وسافر بقلبك بيـن الـورى *** لتبصر آثار مــن قـد ظلـم
فتــلك مساكنهـم بعدهم *** شـهـود عليهـم ولا تتهـم
وما كان شيء عليهم أضـر *** من الظلم وهو الذي قد قصـم
صلوا بالجحيم وفات النعيـم *** وكان الـذي نالهـم كالحلـم
جنبني الله وإياكم أسباب سخطه وعقابه، وجعلنا جميعاً من أهل محبته ورضوانه
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ((ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَم يَكُ مُغَيّراً نّعمَةً أَنعَمَهَا عَلَى قَومٍ, حَتَّى يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم)) الأنفال: 53
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه وأشهد أن سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - الداعي إلى رضوانه وعلى آله وصحبه وجميع إخوانه وبعد
اعلموا ـ عباد الله ـ أن الجحود والنكران لنعم الله وعدم شكرها يعرضها للزوال وانقلاب الأحوال كما سمعنا من حال قوم سبأ، وهذه السنة ثابتة لا تبدل أبداً وتنزل على كل من كفر بنعمة الله - تعالى -ولم يؤد حقها من الشكر، قال - تعالى -: ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت ءامِنَةً مٌّطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ, فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لجُوعِ وَ?لخَوفِ بِمَا كَانُوا يَصنَعُونَ)) النحل: 112
ونستلهم وإياكم عباد الله أهم الدروس والعبر من هذه القصة العظيمة:
أولاً: عظم فضل الله على عباده ورحمته بهم وتيسير أمورهم وتذليل الصعاب لهم كما قال - تعالى -: ((وَإِن تَعُدٌّوا نِعمَةَ اللَّهِ لاَ تُحصُوهَا)) إبراهيم: 34.
ثانياً: تفرد الله بتصريف أمور العباد والبلاد، وأن لله جنود السماوات والأرض فيسخر الله جنداً من جنده على عباده ما يكون فيه رحمته ونعمائه، وتارة يسخرها على قوم فيكون فيها عذابه ونقمته، وهو أحكم الحاكمين.
ثالثاً: عدم الأمن من مكر الله - جل وعلا -، والحذر من طول الأمل، ولا يغتر المرء بنعم الله وهو على معاصيه فإن ذلك استدراج لهلاكه.
رابعاً: الحذر من الغفلة عن آيات الله ووجوب الأوبة والإنابة إلى الله - تعالى -عند نزول البلاء وربط ذلك بالذنوب والمعاصي.
خامساً: الحذر من التبذير والإسراف، وأنهما من أسباب سخط الله - تعالى -على عباده، وأنهما من كفر النعمة وجحودها.
سادساً: الحذر من الإعراض عن دين الله - تعالى -وعدم مبارزته بالمعاصي أو المجاهرة بها، فإن الله لا غالب له.
سابعاً: الصبر على البلاء وعدم السخط على أقدار الله - تعالى -والرضا بقضائه وقدره، وليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطئه لم يكن ليصيبه.
ثامناً: الاتعاظ والاعتبار بما يجري لمن حولنا من الأمم واجتناب أسباب هلاكهم ودمارهم.
تاسعاً: الأمن والأمان أساس الرخاء واتساع العمران وانتشار الألفة والمحبة بين الناس، وذلك لا يتم إلا بشكر المنعم - سبحانه -.
عاشراً: وجوب التزام التقوى وأنها مفتاح لأبواب الرزق ووفرة النعم، وكذلك التوبة والاستغفار كما أمر نوح وهود - عليهما السلام - قومهما بذلك.
وأخيراً الدعاء فما من عسير إلا يسره، ولا من بلاء إلا كشفه، ولا من كرب إلا نفسه، فعليكم به فإنه السلاح الذي لا يثلم، ومما دعى به النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ((وَلَقَد أَرسَلنَا إِلَى أُمَمٍ, مّن قَبلِكَ فَأَخَذنَـاهُم بِالبَأسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ فَلَولا إِذ جَاءهُم بَأسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَـكِن قَسَت قُلُوبُهُم وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَـانُ مَا كَانُواّ يَعمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكّرُوا بِهِ فَتَحنَا عَلَيهِم أَبوَابَ كُلّ شَىء حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذنَـاهُم بَغتَةً فَإِذَا هُم مٌّبلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ القَومِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمدُ للَّهِ رَبّ العَـالَمِينَ)) الأنعام: 40-45.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين. اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا ولم بها شعثنا ورد بها الفتن عنا. اللهم صل على محمد...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد