الإيمان سعادة وشفاء


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

أما بعد: أيها المؤمنون، عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله - تعالى -في السرّ والعلن، (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَولاً سَدِيدًا يُصلِح لَكُم أَعمَالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَمَن يُطِع اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزًا عَظِيمًا )[الأحزاب: 70، 71].

أيها المؤمنون، ننطلق اليوم من موقف عظيم كانت معالمه وحوادثه تتمّ بحضرة المعصوم، والمكان هو الطائف بعد انتهاء غزوة هوازن، حيث بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم الغنائم فيعطي المؤلّفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار - رضي الله عنهم - وأرضاهم شيئًا، فوجدوا في أنفسهم: كيف يعطي النبي - صلى الله عليه وسلم - كل القبائل ونحن لنا السابقة في الإسلام ولم يكن لنا نصيب من تلك الغنائم؟! فذهب سيدهم وزعيمهم سعد بن عبادة إلى النبي فشكا له الأمر، وبيّن له ما وجده أصحابه في نفوسهم، فقال: يا رسول الله، إن الأنصار وجدوا في أنفسهم، أعطيت كل أحياء العرب ولم تعطهم شيئًا! قال: ((وأين أنت يا سعد؟)) قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي ـ أي: أنّي أجد ما يجدون ـ قال: ((فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة))، فجُمِع الأنصار - رضي الله عنهم - في مكان هناك، فخرج عليهم خير من خَلَقَ الله محمد بنور وجهه وطَلعته البهِيّة عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، جاء ليعالج هذه المشكلة وهذه الظاهرة الحديثة التي وجدت في خير من خَلَقَ الله بعد الأنبياء والمرسلين وهم الصحابة الأخيار الأبرار - رضي الله عنهم - وأرضاهم، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((يا معشر الأنصار، ما مقالة بلغتني عنكم؟ وَجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم، ألم آتكم ضُلاّلاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟!)) وهم لا يزيدون - رضي الله عنهم - على أن يقولوا: لله ولرسوله المنّ والفضل، قال: ((ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟!)) قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنّ والفضل، قال: ((أما ـ والله ـ لو شئتم لقلتم فلصَدَقتُم ولصُدِّقتُم: أتيتنا مُكذَّبًا فصدّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيناك. أوجدتم ـ يا معشر الأنصار ـ في أنفسكم في لُعَاعَة من الدنيا تألّفتُ بها أقوامًا ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟! ألا ترضون ـ يا معشر الأنصار ـ أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟! فو الذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار))، فبكى الأنصار - رضي الله عنهم - حتى أَخضَلُوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمة ونصيبًا[1].

إنه الإيمان الذي يحلّ كثيرًا من المشكلات، عندما ذكّرهم النبي بهذا الإيمان وبهذه النعمة الكبرى وبهذه الهداية العظيمة أصبحت الدنيا لا تسوى عندهم شيئًا. إن أعظم كنز ذُكّر به أولئك النفر من أصحاب النبي أن يكون محمد رفيقهم وجليسهم وأنيسهم في سفرهم وإقامتهم، لقد رضوا برسول الله قسمة ونصيبًا، رضوا بمنهجه، رضوا بهديه.

أيها المؤمنون، إن الجاهلية المعاصرة أفرزت أمراضًا ومظاهر نَشَاز في مجتمعات المسلمين بسبب الفطرة المادّية والتهالك على الدنيا والحرص عليها، فبرزت أمراض ومظاهر لم تكن معروفة في أجيال المسلمين، فمن تلك المظاهر النشاز عدم رغبة الناس في الخير، وعدم حرصهم عليه، وعدم الرغبة في حضور مجالس الذكر وتلاوة القرآن والمحافظة على الفرائض وغير ذلك من العبادات، بل برزت مظاهر أخرى تتمثل في كثرة الأمراض النفسية التي ابتُلِي بها الناس في هذا الزمان، وراجع مستشفيات الأمراض النفسية لتجد من ذلك عجبًا، تجد مئات الملفات، بل آلاف الملفات للمرضى الذين يعانون من الأمراض النفسية والعقد النفسية والهلوسة وغير ذلك من الأمراض التي كثير منها بسبب البعد عن الله - سبحانه - تعالى -.

إن من تلك المظاهر ـ يا عباد الله ـ كثرة المشكلات الأسرية والاجتماعية بين المسلمين، واذهب إلى المحاكم لتجد من ذلك عجبًا بين الجارَين المتحابين وبين الإخوة المتآلفين وبين أهل البلد الواحد، مشاكل عويصة بسبب التهالك على الدنيا، بسبب البعد عن الله - سبحانه وتعالى -، بسبب عدم استشعار النعمة العظمى نعمة الإيمان، نعمة القرب من الله - سبحانه وتعالى -، نعمة هذا الدين العظيم الذي منَّ الله به على المؤمنين.

أيها المؤمنون، إن الإيمان من أعظم النعم التي يمن الله بها على من يشاء من عباده، بل هي أعظم نعمة وجدت على وجه الأرض، ( يَمُنٌّونَ عَلَيكَ أَن أَسلَمُوا قُل لا تَمُنٌّوا عَلَيَّ إِسلامَكُم بَل اللَّهُ يَمُنٌّ عَلَيكُم أَن هَدَاكُم لِلإِيمَانِ ) [الحجرات: 17]. إن من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين ويجعله مؤمنًا صادقًا، هذه من أعظم النعم ومن أعظم المنح الربانية التي يمن الله بها على من يشاء من عباده.

 إن المسلم المؤمن هو الذي يتمتع بالحياة الطيبة، هو الذي يجد الأنس بالله - سبحانه وتعالى -، هو الذي يجد الراحة والسعادة والطمأنينة، ولو ملك الناس كل ما على ظهر الأرض من أموال ومتاع، فإنه ينظر إليهم نظرة المشفقº فإنه يعلم يقينًا أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ما قدر له كائن، وأن رزقه سيأتيه لا محالة، ((إن روح القدس نفث في روعي: إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها. فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)) رواه البيهقي وأبو نعيم من حديث أبي أمامة وابن مسعود وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير.

يعلم المسلم هذا الأمر علم اليقين، ويعلم أن رزقه مكتوب وأجله مكتوب، وأموره كلها قد كتبت، يعلم أن الرزق مقدر، ( وَفِي السَّمَاءِ رِزقُكُم وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرضِ إِنَّهُ لَحَقُّ مِثلَ مَا أَنَّكُم تَنطِقُونَ ) [الذاريات: 22، 23]º فلذا ينعم المسلم بالسعادة والراحة والطمأنينة والحياة الطيبة التي فقدها كثير من الناس في عالمنا المعاصر لما تهالكوا على الدنيا، وأصبحت الدنيا كل همهم ومقصدهم ورغبتهم وغايتهم، والقضية التي يتهالكون عليها، فسل عليهم بسبب ذلك شقاءً نفسيًا بسبب الإعراض عن الله - تعالى -، وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه: 124]. إنها المعيشة الضنك التي بليت بها المدنية المعاصرة، بلي بها المتهالكون على الدنيا الذين نسوا ذكر الله - تعالى -، ( وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرتَنِي أَعمَى وَقَد كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَومَ تُنسَى ) [طه: 124-126].

بينما في المقابل تجد المؤمن الحق الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا، الذي وقر الإيمان في قلبه، الذي استقر هذا الدين العظيم في قرارة نفسه، يؤمن بهذا الدين، فيجد السعادة ويجد الراحة ويجد الحياة الطيبة، ( مَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ, أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) [النحل: 97]. إنها الحياة الطيبة التي يجدها المؤمنون بالله - تعالى -، إنها السعادة والرضا، إنها الأنس بالله - تعالى -، إنها كل شيء الذي يبحث عنه الناس في هذا الزمان. \"إننا في سعادة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف\" هكذا يعلنها أحد السلف الذين تلذذوا بمثل هذه الحياة الطيبة.

إن المؤمن الحق هو الذي يجد الأمن النفسي، هو الذي يجد الراحة والطمأنينة، ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ, أُولَئِكَ لَهُم الأَمنُ ) [الأنعام: 82]. الأمن بجميع صوره، الأمن في الأموال، الأمن في الأنفس، الأمن في الأولاد، الأمن في العتاد، الأمن في الحياة كلها، الأمن ـ كما ذكر المولى - عز وجل - ـ قرين الإيمان، الأمن والإيمان قرينان لا ينفكان أبدا، ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ, أُولَئِكَ لَهُم الأَمنُ ) [الأنعام: 82]. الطمأنينة عند الخوف وعند الشدائد وعند الكربات وعند المشاق يجدها المسلم الحقّ، يجدها المؤمن الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا، ( الَّذِينَ قَالَ لَهُم النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَانًا وَقَالُوا حَسبُنَا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ ) [آل عمران: 173]. إنهم يعلمون الملاذ والملجأ الذي يلجؤون إليه، إنه الله - سبحانه وتعالى - وكفى، فمن وجد الله فماذا فقد؟! ومن فقد الله فماذا وجد؟! من وجد الله فماذا فقد يا عباد الله؟! ماذا فقد من الدنيا؟! ماذا فقد من متاعها الزائل؟! إنه وجد الله، وكفاه أن الله معه ناصرًا ومؤيدًا، قالها الصديق عندما كان كفار قريش على فوهة الغار، قال: لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لرآنا، قال: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا)) رواه البخاري ومسلم. وكفى بالله نصيرا، وكفى بالله مؤيدا، وكفى بالله حافظا، ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله تعالى)) رواه الترمذي وأحمد من حديث ابن عباس وصححه الألباني.

إن المؤمن الحق يعلم أن مصائب الدنيا ومشاكل الدنيا والآفات والمصائب ما هي إلا ابتلاءات على الطريق الطويل، يعلم في قرارة نفسه أن أشد الناس بلاء هم الأنبياء، ثم العلماء، ثم الأفضل فالأفضل، ويبتلى الإنسان على قدر إيمانه وعلى قدر قربه من الله - تعالى -، فمن كان في دينه شدة وكان في دينه قوة شدد عليه في البلاء.

لقد كان السلف الصالح - رحمهم الله - تعالى -يهنئ بعضهم بعضا بالبلاءº لأنهم يعلمون حقيقة شرعية قد استقرت وتأكدت في نفوسهم: ((إن الله إذ أحب قوما ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر والرضا، ومن سخط فعليه السخط)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني، ((عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمنº إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له)) رواه مسلم من حديث صهيب. فكلا الأمرين على خير، كل أمره على خير: حالة السراء وحالة الضراء، يعلم أن الأمور كلها في يد الله - سبحانه وتعالى -.

المؤمن الحق يؤمن بقضاء الله وقدره، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويعلم أن البشر كلهم لو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لن يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، ولو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لن ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، رفعت الأقلام وجفت الصحف. الإيمان بالقضاء والقدر الإيمان الصادق يزرع في نفس المؤمن الرضا، يزرع في نفسه اليقين، يزرع في نفسه الثقة بما عند الله - سبحانه وتعالى -، ((ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر به من ذنوبه)) رواه البخاري.

إن كل الابتلاءات التي يصاب بها المسلم هي ابتلاءات وهي مكفرات على الطريق، ولهذا ـ يا عباد الله ـ نجد النبي كان يبشر أصحابه - رضي الله عنهم - بالنصر والتمكين والعاقبة عند شدة البلاءº لأنه يعلم - عليه الصلاة والسلام - أن شدة البلاء بداية للنصر، بداية للتمكين، بداية للفوز والنجاح، وكان يزرع هذا اليقين في نفوس أصحابه - رضي الله عنهم -، قالها يوم الهجرة عندما كان هو وصاحبه والعرب قاطبة تطارد هذين الرجلين ليظفر كل منهم بمائة من الإبل رصدها كفار قريش، رجل مطارد ويدركه أحد الذين أوشكوا أن يستلموا الجائزة، فيقول له في هذا الوقت المدلهم وعند هذه الصعوبة وعند هذه الشدة التي تهتز عندها النفوس: ((كيف بك ـ يا سراقة ـ إذا لبست سواري كسرى؟!)). لا إله إلا الله! إنها الثقة بنصر الله، إنه التفاؤل بما عند الله - سبحانه وتعالى -، وقالها - عليه الصلاة والسلام - عندما كان العرب يحاصرون المدينة، جميع قبائل العرب واليهود قد نقضوا العهد والميثاق، وأصبح المؤمن لا يأمن على قضاء حاجته، ويضرب النبي بفأسه صخرة اعترضت الصحابة - رضي الله عنهم - وهم يحفرون الخندق الضربة الأولى ويقول: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة))، ويقول في الثانية: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس)) أخرجه أحمد والنسائي بإسناد حسن. ((لقد أضاءت لي قصور كسرى وقيصر))، إنه التفاؤل بما عند الله - سبحانه وتعالى -، إنها الثقة، إنه الإيمان الصادق الذي يجعل المسلم واثقًا بما عند الله - سبحانه وتعالى -.

وإننا في هذا الزمان ـ أيها الإخوة الكرام ـ في أمس الحاجة إلى هذه الثقة، وإلى هذا اليقين، وإلى هذا التفاؤل في هذا الزمان الذي تكالب فيه الشرق والغرب على الإسلام وأهله، بيد أن عند المسلم يقينًا لا يقبل المساومة أبدًا وثقة بنصر الله - تعالى -أن النصر لهذا الدين، وأن العاقبة للمؤمنين لا يساوره شك في ذلك أبدًاº لأن عدل الله - سبحانه وتعالى - يأبى أن يكون الأمر خلاف ذلك، يأبى عدل الله ورحمته أن ينصر المحرفين والمبدلين والمغيرين والملحدين على الموحدين الذين آمنوا بالله ربًا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيًا ورسولاً، يأبى عدل الله أن ينصر عباد الصليب وقتلة الأنبياء أو عباد البقر على من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، يأبى عدل الله ذلك.

إنه يقين ينبغي أن لا يساور المسلم شك فيه، يقين بنصر الله، يقين بعدل الله، يقين بأن المستقبل لهذا الدين، ((ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)) رواه البخاري.

إنها من اليقينيان التي ينبغي أن يثق فيها المؤمن بأن المستقبل لهذا الدين، وأن النصر للمؤمنين، سيما عندما تدلهم الخطوب، وعندما تكثر المصائب، وعندما يكثر التآمر يأتي النصر.

إن السماء ترجى حين تحتجب، وأشد ساعات الليل ظلامًا آخره، ثم يعقبه ضوء الفجر، ويأتي الفجر بإشراقه وتباشيره ليعلن للأمة ميلاد يوم جديد، فنحن ـ بإذن الله - تعالى -ـ واثقون بنصر الله - تعالى -، واثقون أن النصر قادم لهذه الأمة بإذن الله - سبحانه وتعالى -، مهما ادلهمت الخطوب ومهما كثر التآمر فإن العاقبة للمؤمنين.

عباد الله، إن الله - تعالى -يبتلي المؤمنين بمصائب وآفات ومعاص، ولكنه - سبحانه وتعالى - قد ذكر لهم مكفرات كثيرة يلجؤون إليها ليتوبوا إلى الله - سبحانه وتعالى -، إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114]، ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن)) رواه أبو داوود والترمذي وأحمد وحسنه الألباني.

إذا وقع المسلم في معصية من المعاصي أو وقع في قصور فليجأ إلى طاعة الله - عز وجل -، وليقبل على الله - سبحانه وتعالى -، فيكفّر الله عنه سيئاته، ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُم طَائِفٌ مِن الشَّيطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُبصِرُونَ)  [الأعراف: 201]، وثبت في الحديث: ((ما من مسلم يذنب ذنبًا ثم يتوضأ فيحسن الوضوء فيصلي لله ركعتين إلا كفر الله عنه خطاياه)) رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني.

إنها بشارة عظيمة من الله لهذه الأمة، أن الله يغفر الذنوب جميعًا، وأن الله يغفر للمؤمنين إذا عادوا إليه وإذا أنابوا إليه وإذا رجعوا. وإن من المكفرات ـ يا عباد الله ـ التي غفل عنها كثير من الناس مكفرات الأذكار، الأذكار التي يكفر الله بها المعاصي يكفر الله بها الآثام، ((ما من مسلم يقول في يوم: سبحان الله وبحمده مائة مرة إلا غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر)) رواه البخاري ومسلم. سبحان الله وبحمده مائة مرة يكفر الله بها عنك ـ يا عبد الله ـ جميع الذنوب والمعاصي، وإن كانت مثل زبد البحر. ((من قال في دبر كل صلاة أو من قال في دبر الصلاة: سبحان الله ثلاثًا وثلاثين، والحمد لله ثلاثًا وثلاثين، والله أكبر ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، ثم قال: تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كفرت وغفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) رواه مسلم. رحمة من الله مغفرة من الله.

المواظبة على الصلوات جماعة، ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما لم تغش الكبائر)) رواه البخاري ومسلم.

ما أكثر المكفرات التي يكفر الله بها عن المؤمنين الآثام والخطايا والزلات، وما من أحد يسلم منها يا عباد الله، ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد وحسنه الألباني. ((لو لم تذنبوا ثم تستغفروا لذهب الله بكم ثم جاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله - تعالى -فيغفر لهم)) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.

الخطايا من مكفراتها الصدقة والصيام والذكر والصلوات جماعة وإسباغ الوضوء وكثرة الخطى إلى المساجد وصيام النوافل، وأمور كثيرة معروفة في كتاب الله وفي سنة رسوله.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله المولى العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

----------------------------------------

[1] ينظر: تهذيب سيرة ابن هشام (ص317)، وأصل الحديث في البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -.

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، - صلى الله عليه وسلم - تسليمًا كثيرًا، ورضي عن أصحابه وأتباعه وإخوانه إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها المؤمنون، إن التفكر والتأمل في هذه النعمة بل في هذه النعم التي منَّ الله بها علينا يجعل المؤمن في يقين دائم، وفي صلة بالله - تعالى -، وفي ثقة بما عند الله - تعالى -، فيعيش في سعادة وفي راحة وفي طمأنينة، ويعلم أن الأمور كلها بيد الله - سبحانه وتعالى -، وأن الله هو المحيي وهو المميت، وهو النافع وهو الضار، وهو الرازق وهو المبتلي لعباده - سبحانه وتعالى -، فإذا ألمّ به أمر أو خطب لجأ إلى ربه - عز وجل - فقال: يا الله، وإذا ادلهمت المصاعب والكربات قال: يا الله، وإذا افتقر قال: يا الله، وإذا أصيب بمرض قال: يا الله، فلك الله دائمًا وأبدًا، لا تلجأ لغير الله - سبحانه وتعالى -، فلك الله في كل الأمور.

واعلم أن الأمور كلها بيد الخالق - عز وجل -، إن البشر ضعاف مهازيل، لا يملكون حولاً ولا طولاً ولا قوة ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، وإنما هم ضعاف، وإنما الأمور كلها بيد الخالق - عز وجل -. يتفكر المؤمن في هذا، يتفكر في نفسه، يتفكر في هذا الدين، يتفكر في ملكوت السماوات والأرض، فيعود بإيمان ويقين دائم.

عبادة التفكر التي غفل عنها الناس في هذا الزمان بسبب التهالك على الدنيا وبسبب الحرص على جمع الدرهم والدينار يود أحدهم لو جمع أموال الدنيا كلها، وهو يعلم يقينًا أنه لا يمكن أن يجمع له إلا ما كتب له وهو في بطن أمه، وليس له من هذه الدنيا إلا ما أنفق في سبيل الله، إلا ما أنفق مبتغيًا به وجه الله - تعالى -، وأما ما عدا ذلك فهو تاركه لورثته، وهو تاركه بعده، ولن يخرج من هذه الدنيا إلا بثوبين أبيضين.

أيها المؤمنون، يقول المولى - عز وجل -: (إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ, لأُولِي الأَلبَابِ الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِم وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذَا بَاطِلاً سُبحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )[آل عمران: 190، 191]. التفكر في كل شيء، قال الحسن البصري - رحمه الله -: \"أوصيكم بتقوى الله - تعالى -وبعبادة التفكر\"، أن يتفكر الإنسان في نفسه، وأن يتفكر في هذا الكون، وأن يتفكر في تقلبات الزمان، وأن يتفكر في كل شيء. عبادة التفكر من العبادات التي جهلها الناس في هذا الزمان، قال سفيان بن عيينة - رحمه الله تعالى -: \"التفكر مفتاح الرحمة \"، وذلك عندما يتفكر الإنسان في هذا الكون. لما نزلت تلك الآية: إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ قال النبي: ((ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه وابن حبان في صحيحه.

إن الناس بسبب زحمة الحياة وبسبب التهالك على الدنيا نسوا عبادة التفكر. من منا يجلس في ساعة خلوة بينه وبين ربه - عز وجل - فيتفكر في نفسه، ويتفكر في هذه الدنيا، ويتفكر في هذا الكون العظيم، ويتفكر فيما صغر وكبر، ويعود إلى ربه - عز وجل -، ويقر له بالوحدانية والعظمة، سبحان الخالق - عز وجل -؟!

إننا ـ يا عباد الله ـ في حاجة إلى أن يعود كل منا إلى ربه، وأن يتوب توبةً نصوحًا صادقة مستمرة متكررة،( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيٌّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ ) [النور: 31]. ربما يقول البعض: ممَّ أتوب؟! وما المعصية التي قارفتها حتى أتوب؟! وهذا من الجهل يا عباد الله.

تأمل ـ يا رعاك الله ـ ماذا يقول خير من خلق الله، ماذا يقول من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ماذا يقول محمد، يقول : ((أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة)) رواه مسلم.

محمد يتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة وهو المغفور له ما تقدم وما تأخر، (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهتَدَى ) [طه: 82]، ويقول: ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) رواه مسلم.

فباب التوبة مفتوح يا عباد الله، يقول - عليه السلام -: ((والله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فاستلقى تحت ظل شجرة ينتظر الموت، فغلبته عيناه فنام، فقام من نومه فإذا دابته بجواره عليها طعامه وشرابه، وقد أيس من الحياة وأيقن بالموت، فقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح)) رواه مسلم.

فالله أشد فرحًا بتوبة عبده من فرح هذا الرجل بدابته، وقد أيس من الحياة. الله - تعالى -يفرح بتوبتنا، الله يدعونا إلى التوبة ليغفر لنا وليرفع مقامنا وليرفع درجاتنا، فإن الله ليس في حاجة إلى أعمالنا. الله الغني ونحن الفقراء إليه - سبحانه وتعالى -. ليتُب كل منا دائمًا وأبدًا من الصغائر ومن الكبائر ومن كل الذنوب والآثام، نتوب بالليل ونتوب بالنهار، ونتوب سرًا وعلانية، لعل الله - تعالى -أن يرحمنا وأن يتجاوز عنا وأن يرفع درجاتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا ) [الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء...

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply