بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المدبر للملك والملكوت، المتفرد بالعزة والجبروت، الرافع للسماء بغير عماد، المقدّر فيها أرزاق العباد، الذي صرف قلوب أوليائه عن ملاحظة [الوسائل] والأسباب إلى مسبب الأسباب، فلم يعبدوا إلا إياه، [ولم يستعينوا إلا به، ولم يقدح اتخاذهم الأسباب في توكلهم، ولا توكلهم في اتخاذ الأسباب
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ما من ذرة إلا إليه خلقها، وما من دابة إلا عليه رزقها،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، حفظه وكفاه فهو به كفيل، وهو حسبه ونعم الوكيل. صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه المهتدين إلى سواء السبيل.
عباد الله إن كل مشكلة وكل معضلة وكل ضيق وكرب سلاحه بالإيمان والتقوى
قال - جل وعلا -
((وَإِن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرٌّكُم كَيدُهُم شَيئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطٌ))آل عمران120
((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَّهُ مَخرَجاً))الطلاق2
((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَّهُ مِن أَمرِهِ يُسراً))الطلاق4
((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّر عَنهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعظِم لَهُ أَجراً))الطلاق5
((وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ, مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ))الأعراف 96
هذا وعد الله ومن أصدق من الله قيلا ومن أصدق من الله حديثا.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين الأبرار.
عباد الله
يقول - تعالى -
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ((قُل يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِم لا تَقنَطُوا مِن رَحمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذٌّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)) الزمر: 53
ما أعظمَها من آية، وما أرجاها من رحمة، أين أين الصادقون الراغبون في رحمة الله؟! ألا هلمّوا وتعالَوا وأقبلوا، ها هنا بغيتكم وحاجتكم، يا لغبن من يئس من غفران ذنوبه، وقنطَ من إصلاح علاقته مع الله بعد هذه الآية، يا له من محروم، أتدري فيمن نزلت هذه الآية؟! اسمع ما ذكره الشيخان وغيرهما في سبب نزولها: عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن ناسًا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: ((وَالَّذِينَ لا يَدعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَلا يَزنُونَ)) الفرقان: 68 ونزل: ((قُل يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِم لا تَقنَطُوا مِن رَحمَةِ اللَّهِ)) الزمر: 53.
ولفرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الآية رحمةً بأمّته كما وصفه الله: ((لَقَد جَاءَكُم رَسُولٌ مِن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتٌّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) التوبة: 128 روِي أنه قال: ((ما أحبّ أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية))، فقال رجل: يا رسول الله، فمن أشرك؟ فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: ((ألا ومن أشرك)) ثلاث مرات. أخرجه أحمد.
وفي المسند عن عَمرو بن عَبسة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شيخ كبير يَدَّعم ـ يستند ـ على عصًا له، فقال: يا رسول الله، إن لي غَدَرات وفجَراتٍ, فهل يُغفر لي؟ قال: ((8ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟!)) قال: بلى، وأشهد أنّك رسول الله، قال: ((قد غُفر لك غَدَرَاتُك وفجراتُك)). والفجور: إتيان المعاصي مع عدم المبالاة بفعلها.
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية وقد أورد هذه الأحاديث: \"فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع الذنوب مع التوبة، ولا يقنطن عبد من رحمة الله وإن عظمت ذنوبه وكثرتº فإن باب الرحمة والتوبة واسع، كما قال - تعالى -: ((أَلَم يَعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقبَلُ التَّوبَةَ عَن عِبَادِهِ)) التوبة: 104، وقال - عز وجل -: ((وَمَن يَعمَل سُوءًا أَو يَظلِم نَفسَهُ ثُمَّ يَستَغفِر اللَّهَ يَجِد اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)) [النساء: 110]، وفتح الباب للمنافقين فقال: ((إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّركِ الأَسفَلِ مِن النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُم نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصلَحُوا)) النساء: 145، 146 وقال عن أهل التثليث: ((لَقَد كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ, وَمَا مِن إِلَهٍ, إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَم يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ)) المائدة: 73 ثم فتح لهم باب التوبة فقال: ((أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَستَغفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [المائدة: 74]، وفتح الباب لقتلة أوليائه فقال: ((إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ ثُمَّ لَم يَتُوبُوا فَلَهُم عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُم عَذَابُ الحَرِيقِ)) البروج: 10، فقيد العذاب بعدم التوبة، يقول الحسن - رحمه الله -: انظروا إلى هذا الكرمِ والجودِ، قتلوا أولياءَه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة\".
ولنتأمل في ألفاظ هذه الآية، لقد بدأها بنداء: (يَا عِبَادِي)، ما ألطفه من نداء، (يَا عِبَادِي) أي: يا أيّها المنتسبون إليّ، فنسبهم إلى نفسه نسبَة تشريف وتكريم وأعطاهم الأمان.
ومما زادنـي تيـهًا وشـرفًا *** وكدت بأخمصي أطأ الثُريـا
دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن أرسلت أحمدَ لي رسولاً
لا إله إلا الله، أتدري من ينادي الكبيرُ المتعالُ الغنيُ الحميدُ؟ إنه يناديني أنا وأنت، بل ينادي من بالغ منا في المعصية (الَّذِينَ أَسرَفُوا)، ينادينا بهذا النداء اللطيف الرحيم وهو غني عنا وعن طاعتنا وعن عبادتنا، كما قال في الحديث القدسي: ((يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا))، أيعقل؟! الغني ينادي الفقير، والقوي ينادي الضعيف، وغير المحتاج ينادي المحتاج، ألسنا نحن المعنيين بقوله: ((يَا أَيٌّهَا النَّاسُ أَنتُم الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيٌّ الحَمِيدُ)) فاطر: 15؟! ما أكرمك وما أحلمك يا الله.
يا عباد الله، إن هذا النداء ـ بجانبِ الرحمة ـ يُبرزُ لنا جانبًا عظيمًا من جوانب هذا الدّين، وهي العلاقة المباشرة بين العبد وربّه، فلا حواجز ولا وسطاء ولا شفعاء بين العبد وربّه، فلا تحتاجُ لتصلحَ علاقتك مع الله إلى وساطات، أو تقديمِ اعترافات أمام عالم أو إمام، وبابه ليس عليه بوّابين ولا حراس لتستأذنهم للدخول، كلا.
تعال إذًا ـ يا عبد الله ـ ولج، فبابُه مفتوح على مصرعيه، هيا ادخل على رب كريم غير غضان، إياك إياك أن تقع في شراكِ عدوك إبليسَ اللعين، احذر أن يقنطَك من رحمة الله، فمولاك يقول لك: ((لا تَقنَطُوا مِن رَحمَةِ اللَّهِ))، لا تيأس فاليأس كفر، ((إِنَّهُ لا يَيئَسُ مِن رَوحِ اللَّهِ إِلاَّ القَومُ الكَافِرُونَ)) يوسف: 87، وكيف تعالج الذنب الصغير بذنب أكبر؟! إن ربك لا يبالي بعظمِ ذنبك ما دام أنك رجعت إليه تائبًا ومنيبًا، أما سمعت ما قال على لسان رسوله في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبُك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بِقُراب الأرض ـ بما يقارب مِلأها ـ خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)).
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين نحمده - تعالى - ونشكره ونثني عليه الخير كله، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله وخيرته من خلقه صلوات الله عليه وسلامه وعلى آله وأصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد
عباد الله
ودّ عدونا لو يظفر بتيئيسنا من رحمة الله، كما يقول الحسن البصري - رحمه الله - لمّا قيل له: ألا يستحي أحدنا من ربه، يستغفر من ذنوبه ثم يعود، ثم يستغفر ثم يعود؟! فقال: \"ودَّ الشيطان لو ظفر منكم بهذه، فلا تَمَلّوا من الاستغفار\"، ولذلك قال ابن عباس - رضي الله عنه -: (من آيس ـ عبادَ الله ـ من التوبةِ بعد هذا فقد جحد كتاب الله - عز وجل -).
ثم لاحظ ـ يا عبد الله ـ المؤكداتِ التي جاءت بعد النهي عن القنوط من رحمة الله فقال: ((إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذٌّنُوبَ جَمِيعًا))، وهذا يَعُمٌّ جميعَ الذنوب، ومع ذلك لم يكتف بذلك الإطلاق بل أكده بقوله: (جَمِيعًا)، ثم ختم الآية بإظهار صفتين من صفات الله ذي اللّطف والرحمة، فقال: ((إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)).
سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، فلك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد بعد الرضا، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك.
أخي في الله، صحيح أن البابَ مفتوحٌ، لكنه لن يظلَ مفتوحًا إلى الأبد، فقد يُغلق في أيّ ساعة، وقد يَحولُ الموتُ بينك وبين دخوله إن لم تنتهز هذه الفرصة، لو حصل ذلك ـ لا قدّر الله ـ ستندم حين لا ينفعُ الندم، وتغتم حسرةً، وعندها ستكون أحدَ ثلاثةٍ, لا قدّر الله، اسمع ما يقول مولاك: ((أَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُم وَأَسلِمُوا لَهُ مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُم العَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُم العَذَابُ بَغتَةً وَأَنتُم لا تَشعُرُونَ))الزمر: 54، 55.
عندها ستعتذر بأعذار واهية وهي ثلاثة، اسمع العذر الأول: ((ن تَقُولَ نَفسٌ يَا حَسرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِن السَّاخِرِينَ))الزمر: 56، والعذرُ الثاني: ((و تَقُولَ لَو أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِن المُتَّقِينَ))الزمر: 57، أما الثالثُ: ((و تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ لَو أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِن المُحسِنِينَ))الزمر: 58.
يقول ابن عباس رضي الله عنه ما العباد قائلون قبل أن يقولوه)، ((لا يُنَبِّئُكَ مِثلُ خَبِيرٍ,))فاطر: 14 وفي مسند أحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كلُ أهلِ النار يرى مقعده من الجنة، فيقولَ: لو أن الله هداني، فتكونَ عليه حسرة))، قال: ((وكلُ أهلِ الجنة يرى مقعدَه من النار، فيقولَ: لولا أن الله هداني، قال: فيكونُ له شكر)).
أيها الإخوة، أتدرون ماذا يكونُ الجوابُ عن تلك المبررات والأعذار؟ إنه التكذيب والإدانة التي لا يملك معها الإنسان الإنكارَº لأن شهودَ الإدانة هم أقرب الأشياء إلينا، نعم إنها أعضاؤنا وجوارحنا، وأنى لأحدٍ, الإنكار والفاعلُ يُقرٌّ بفعلته؟! إنه الخزيُ والعارُ والفضيحةُ.
اسمع الرد على الأعذار الواهية والأمنيات الفارغة: ((قَد جَاءَتكَ آيَاتِي فَكَذَّبتَ بِهَا وَاستَكبَرتَ وَكُنتَ مِن الكَافِرِينَ))الزمر: 59أي: من الجاحدين بلسان حالك أو مقالك.
يا عبد الله، إذا كنتَ لا تريدُ أن تقفَ موقفَ الخزيِ والعارِ ـ وما إخالك إلا كذلك ـ فالبدارَ البدارَ إلى التوبة والأوبة واتباعِ أحسن ما أُنزل إلينا قبل فوات الأوان بالموت أو الران، وفي الحديث: ((إن الله - عز وجل - يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)).
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجدَّ بالكفار مُلحِق، اللهم قاتل الكفرة والمجرمين الذين يحاربون دينك، ويصدون عن سبيلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر.
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد