الجدار العازل


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

 أما بعد: أيها المسلمون، وما تزال الأحداث مشتعلة ودامية على أرض فلسطين، والمسلمون هناك صابرون محتسبون، نسأل الله جل وعز أن يأجرهم وأن يثيبهم وأن يكتب أجر كل قطرة دم مسلم أُرِيقت على تلك الأرض الطيبة المباركة.

 

لقد تقرّحت أكباد الصالحين كمدًا مما يجري في الأرض المباركة في فلسطين الحبيبة، مناظر مفزعة متوالية، وعربدة صهيونية غادرة، القتل بطريقة وحشية تفوق كل طريقة، مسلسلات من الرعب، وإراقة دماء الأطفال والنساء والشيوخ بأيد قذرة، لم يكفهم القتل، بل جاوزوه إلى كل ما يهلك الحرث والنسل، صور وآلام تصرع كل الجبابرة، فضلاً عن الإنسان العادي. المدفعية الثقيلة تمطر حممها فوق رؤوس العُزّل، والطائرات تصب جام غضبها على الرضيع والشيخ والمرأة والعجوز، والمجنزرة الحديدية تعارك الجسد البشري المجرد. شهيد تلو شهيد، وأرملة تلو أخرى، ورضيع خلف أم، وأم خلف رضيع، ومنزل مهدم، وشيخ حزين، وعجوز بائسة، والسؤال: إلى متى؟! مناظر حفرت معالمها في ثنايا التاريخ، بل في ثنايا قلب كل مسلم، ملاحم تسطرها أشلاء الرجال بألوان الدم القاني وجماجم الشهداء.

 

أيها المسلمون، إن الحديث عن الانتفاضة حديث متشعب وطويل بطول هذه الانتفاضة، عميق في الجذور بعمق هذه الانتفاضة، لكنه واجب كما أن هذه الانتفاضة واجبة. لقد ضرب الشباب الفلسطيني أروع الأمثلة في حب الموت واسترخاص الدنيا والاستعلاء على خور النفس وتحطيم رهبة العدو في النفوس. لقد انتصر الفلسطينيون على حب الدنيا وكراهية الموت من خلال العمليات الاستشهادية التي يقومون بها، وهذه نقلة كبيرة في حياتهم، تجعلهم يطرقون أبواب النصر بإذن الله - تعالى -.

 

كرامة الأمة العصماء قد ذُبحت *** وغُيبت تحت أطباقٍ, من الطين

 

لكنّها سوف تحيا من جمـاجمنا *** وسوف نسقي ثراها بالشرايينِ

 

أيها المسلمون، ما هو الجدار العازل؟ ومتى بدأت فكرته؟ وما هو الهدف الرئيس في إنشائه؟ وهل الجدار مشروع ناجح بالنسبة لليهود؟ هذا ما نحاول معرفته في هذه الخطبة بحول الله - تعالى -وقوته.

 

الجدار العازل مصطلح إسرائيلي، المراد منه تأمين وحماية حدود دولة اليهود، يهدف إلى عزل محافظات الضفة الغربية عن بعضها البعض، وجعلها على شكل مربعات متناثرة، يحصر أكبر عدد من الفلسطينيين على أصغر رقعة من الأرضº لكي يحولوا دون العمليات الجهادية التي أربكت اليهود حكومةً وشعبًا.

 

بدأت ملامح الجدار العازل بعد حرب الخليج الثانية عام 1990م، حين بدأت إسرائيل أولى خطوات الفصل غير المباشر بين سكان الضفة وإسرائيل داخل حدود 48، بإصدار تصاريح لكل فلسطيني يريد الدخول إلى الخط الأخضر للعمل. وفي عام 93م اتخذ رابين إجراء الإغلاق ردًّا على عمليات المقاومة، حيث يقضي بإغلاق الضفة الغربية عن فلسطين المحتلة، واقترح حينها إنشاء ما يُسمى بالجدار العازل، ولكن الفكرة لم تلق رواجًا في ذلك الحين، وبدأت الفكرة تأخذ طريقها للتنفيذ الفعلي بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000م.

 

في إبريل 2002م طالبت لجنة التوجيه الحكومية الإسرائيلية سرعة إنشاء الجدار العازل في شمال الضفة الغربية، فقررت الحكومة الإسرائيلية في 23 يونيو 2002م إنشاء جدارٍ, عازلٍ, بطول الضفة الغربية، يفصل بين الأراضي المحتلة في الضفة من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، ويبلغ طوله 500كم، وتقدر تكلفة الكيلومتر الواحد مليون دولار، وقد يصل أحيانًا إلى مليوني دولار.

 

يتصور معظم الناس أن الجدار عبارة عن خرسانات إسمنتية مرتفعة، تمنع الفلسطينيين من الدخول لمناطق اليهود، وهذا تصور ناقص، فهل تعلم ـ يا أخي الحبيب ـ أن عرض الجدار في بعض الأماكن يصل إلى عشرات الأمتار، نعم قد يصل إلى ثلاثين مترًا، فكيف يكون ذلك؟

 

إن الجدار يتخذ أشكالاً متنوعة تختلف من منطقة إلى أخرى، ففي بعض الأماكن يتخذ الجدار شكل جدار مرتفع من الخرسانة المسلحة، يصل ارتفاعه إلى ثمانية أمتارº لمنع تسلل الفلسطينيين، وكذلك تتصدى لأي إطلاق لأسلحة نارية، بينما في مناطق أخرى يتكون الجدار بالإضافة إلى الخرسانة المسلحة من أسلاك شائكة لولبية، ثم خندق بعرض أربعة أمتار وعمق خمسة أمتار، يأتي مباشرة بعد الأسلاك الشائكة، ثم شارع مزفلت بعرض اثني عشر مترًا، وهو شارع عسكري لدوريات المراقبة والاستطلاع، يليه شارع مغطى بالتراب والرمل الناعم بعرض أربعة أمتار، لكشف آثار المتسللين، ويمشط هذا المقطع مرتين يوميًا صباحًا ومساءً، ويلي الشارع جدار إسمنتي، ويعلوه سياج معدني إلكتروني، بارتفاع أكثر من ثلاثة أمتار، رُكبت عليه معدات إنذار إلكترونية وكاميرات وأضواء كاشفة وغيرها من المعدات الأمنية، إضافة إلى نقاط تفتيش ومعسكرات للجيش ودوريات للشرطة، هذا هو الجدار العازل. إذن هو عبارة عن مشروع متكامل، وليس كما يتصور البعض جدارًا إسمنتيًا فقط.

 

والسؤال هو: كم يحتاج هذا الجدار لاستكماله من الحديد والاسمنت والمواد الأولية؟! ومن أين ستؤمن إسرائيل هذه الكمية الهائلة من الحديد والإسمنت وغيره؟! هل من دول الجوار أم من أين؟! نترك الإجابة لليهود وأذناب اليهود.

 

أيها المسلمون، إن إسرائيل تتوهم أنها ستحمي نفسها بهذا الجدار، ولهذا لجأت إلى إقامته لمنع الفدائيين الفلسطينيين من التسلل لتنفيذ العمليات ضد الأهداف الإسرائيلية، وكان ضغط الجمهور الإسرائيلي في هذا المجال له أثر كبير، خاصة بعد أن تزايدت نسبة العمليات الاستشهادية. وقد وضعت الخطط بداية بهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من الأمن للإسرائيليين، لكن ظهر وزراء معارضون، وقالوا: إن الجدار يشكل حدودًا سياسية بيننا وبين الفلسطينيين، وهذا اعتراف صريح بأنه يوجد للفلسطينيين كيان منفصل. ومع ذلك فقد سارعوا في تنفيذه، وأضروا بالشعب الفلسطيني أضرارًا بالغة، نجملها في النقاط التالية:

أولاً: تفريغ مدينة القدس من المسلمين، وتهيئتها لتصبح عاصمة توراتية للكيان الصهيوني، ولبناء هيكلهم الوثني.

ثانيًا: إيقاف الانتفاضة ومقاومة الاستعمار والاحتلال الصهيوني، ومحاولة التقليل من العمليات الجهادية بضبط حركة المرور بين الأراضي الفلسطينية.

ثالثًا: ضرب البنية الأساسية من قطاع صحي وتعليمي وكهرباء ومياه للشعب الفلسطيني، وإبقاؤه تحت رحمة المغتصب الصهيوني.

رابعًا: صناعة الجوع ونشر الأمراض الجسدية والنفسية، خاصة لدى الأطفال وكبار السن والنساء، وتجهيل الأجيال الناشئة ونشر الأمية بينهم.

خامسًا: تدمير الاقتصاد للشعب الفلسطيني، خاصة الثروة الزراعيةº بتدمير أشجار الزيتون والحمضيات، وتجريف أراضيهم الخصبة، وحرمانهم من أبسط أسباب الرزق.

سادسًا: الحيلولة دون وصولهم إلى القدس الشريف والمسجد الأقصى لأداء الصلوات المفروضة، أو الزيارة المسنونة.

سابعًا: السعي نحو تهويد القدس، وجعلها يهودية في سكانها ودينها، بل وفرض العادات اليهودية على بعض البقع السكانية الإسلاميةº لإخراج الناس ما أمكن ذلك عن مبادئ دينهم وعقيدتهم ومعالم حضارتهم الإسلامية.

ثامنًا: عزل الفلسطينيين في مناطق محصورة، واستمرار السيطرة الصهيونية المطلقة بالتحكم في عبور الأشخاص والبضائع، وهذا ما يعني استمرار هيمنة الصهاينة على التجارة الفلسطينية بصورة عامة والتحكم بمصيرها.

تاسعًا: إن هذا الجدار سيصادر عشرات الآبار، وسيدمر البنية التحتية لقطاع المياه، من مضخات وشبكات الأنابيب الخاصة بمياه الشرب والري الزراعي.

عاشرًا: إنشاء الجدار العازل سيعيق وصول سكان المناطق الفلسطينية الريفية إلى المستشفياتº لأن هذه المدن ستصبح معزولة عن باقي الضفة.

الحادي عشر: سيؤدي بناء الجدار إلى مصادرة مساحة كبيرة من الأراضي الفلسطينية وضمها لإسرائيل، كما يطوّق الجدار مدنًا بالكامل، ويعزلها عن محيطها الطبيعي في الضفة. فضلا عن ذلك ستفرض إسرائيل سيطرتها على إحدى وعشرين قرية فلسطينية أخرى وراء الجدار، باعتبارها منطقة عسكرية. وهناك أربع عشرة قرية يبلغ عدد سكانها أربعين ألف فلسطيني، يعملون بشكل أساسي في الزراعة، وسوف يجد هؤلاء أنفسهم محاصرين، يلزمهم الحصول على تصاريح إسرائيلية للذهاب لحقولهم.

بل لقد تضرر آلاف الطلبة بسبب هذا الجدار وصعوبة الوصول إلى مدارسهم، ناهيك عن تدمير المدارس وتعرض مرافقها للأضرار، مما سيؤدي إلى تراجع التعليم، وتراجع الالتحاق بالمدارس، وبخاصة في المناطق الريفية. فأية جريمة إنسانية تحرم التعليم؟ إنهم قتلة الأنبياء، يتناسخون الشر جيلاً بعد جيل.

 

ورغم أن الفلسطينيين تعوّدوا طوال سنوات الانتفاضة الثلاثة على التأقلم مع الحواجز والمعابر التي انتشرت بشكل سرطاني في كل المناطق الفلسطينية، ونجحوا في التخفيف من آثارها على مسيرة التعليم التي يعطيها الفلسطينيون اهتمامًا كبيرًا، باستخدام وسائل مبتكرة وصلت لحد إعطاء المحاضرات الجامعية على الحاجز، إلا أن الجدار يشكل تحديًا من نوع آخر يفوق بكثير تحدي الحواجز، حيث يعزل الجدار المناطق الواقعة خلفه عن محيطها، ويجعلها زنازين مفتوحة لآلاف الفلسطينيين.

 

وهذا معلم في مدرسة ابتدائية يصور المعاناة اليومية قائلاً: \"الرحلة إلى المدرسة التي أعمل بها أصبحت تستغرق أكثر من ثلاث ساعات يوميًا، جزء كبير منها أقضية في إجراءات التفتيش، والتأكد من أنني أعمل مدرسًا على البوابة الحديدية المقامة على الجدار، والتي تسمح بالمرور للقرية، فالجنود لا يسمحون لغير أهالي القرية بالمرور عبرها، وعندما أصل للمدرسة أكون قد أنهكت تمامًا، ولا أستطيع أن أقوم بدوري كمعلم بالشكل المطلوب\". إن إسرائيل تتعمد تعطيل العملية التعليميةº لأنها تريد جيلاً من الفلسطينيين غير متعلم، بحيث يمكن السيطرة عليهم، وتسخيرهم كعمال لخدمة مصالحها، وللعمل في الأشغال التي يعف عنها الإسرائيليون.

 

وتعوّد مئات الطلاب على تسلق المكعبات الأسمنتية التي ترتفع لأكثر من مترين، ورغم ذلك فإن رحلة الوصول للمدرسة لم تكن تتجاوز عشرة دقائق، لكن في الفترة الأخيرة شرعت سلطات الاحتلال في بناء جدار بارتفاع ثمانية أمتار، مما يجعل وصول الطلاب لمدارسهم التي لا تبعد سوى مئات الأمتار أمرًا مستحيلاً.

 

يقول أحد الفلسطينيين: إنه اضطر لاستئجار سيارة خاصة لنقل أطفاله الأربعة إلى مدارسهم على الرغم من وضعه المالي السيئ، مؤكدًا أنه على استعداد لبيع أثاث منزله حتى يكمل أبناؤه تعليمهم. وهكذا تتحول معركة الجدار التي لم يجد الفلسطينيون بُدًا من خوضها بكل ما يملكون من قوة إلى ملحمة حياة أو موت، وبخاصة عندما تمس بمستقبل أبنائهم وحقهم في التعليم والمعرفة.

 

أيها المسلمون، كل ذلك يجري مع عميق الألم والحزن في وضح النهار، وعلى مرأى من المجتمع الدولي كله، وتحت غطاء ودعم الإدارة الأمريكية التي تعتبر أن مشروع شارون هو مشروعها، وأن معركته هي معركتها. والأشد حزنًا أن كل ذلك يتم والمسلمون منشغلون بأمور تافهة والله المستعان.

 

إن هذا الجدار يبعد الوالد عن ولده، والجار عن جاره، والخليل عن خليله، والطالب عن مدرسته، والمصلي عن مسجده، والمزارع عن أرضه، والقرية عن المدينة، وذلك بعد أن قام العدو بهدم البيوت وسلب الأراضي وتدمير الممتلكات. لك أن تتخيل أن تصحو يومًا وتجد من تحبهم في دولة وأنت في دولة أخرى، بل تجد أرضك وممتلكاتك في دولة وأنت في دولة أخرى.

 

والأمر الذي يثير الدهشة هو أنه حتى الأموات لم يسلموا من أضرار هذا الجدار، حيث قامت سلطات الاحتلال بإجبار عدة عائلات على نبش قبور موتاها، ونقل رفاتهم إلى أماكن أخرى بذريعة وقوع القبور ضمن منطقة الشارع الموازي للجدار العازل.

 

فهل يلام الفلسطينيون بعد ذلك على العمليات الاستشهادية؟! والفلسطيني لا يعشق الموت من أجل الموت، فهو كأي إنسان آخر يحب الحياة الحرة الكريمة، ولكن هذا الاحتلال هو الذي يحرمه حق الحياة، ويحوله إلى قنابل موقوتة تتفجر بوجه الأعداءº ليوفروا تلك الحياة للأجيال القادمة، ولن ينهي الجدار العمليات الفلسطينية بإذن الله، وإنما سيدفع الحركات المجاهدة المسلمة إلى تحسين أساليب المقاومة، وصاحب الحق لا يقف أمامه حاجز.

 

 يـا قدسنا الدامع المحـزون قبلتنـا *** معراج سيـدنا الغالي ومسراه

 

يـا قدسنا مهرجان الموت مسرحـه *** قلوبنـا والدم القـاني حكاياه

 

يـا قبة الصخرة الغراء يـا أمـلاً *** يعز في واقـع التهريـج لقياه

 

حروفنـا متعبـات لم يذقـن كرى *** وشعرنـا بقوافي الذل صغنـاه

 

لـن يرجـع الأقصـى وأمتـنـا *** مـا زال يشغلها قيسٌ وليـلاه

 

لـن يرجـع الأقصـى وأمتـنـا *** شبابها في دروب اللهو قد تاهوا

 

وسوف يرجع متى عدنـا لمنهجنـا *** على دروب الهدى فالناصر الله

 

أيها المسلمون، إن طبيعة الشخصية اليهودية تتسم بالجبن المتأصل في جذورها، تتوارثه عبر الأجيال منذ قال بنو إسرائيل لموسى - عليه السلام - يوم دعاهم إلى دخول الأرض المقدسة في فلسطين: \"يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَومًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَدخُلَهَا حَتَّى يَخرُجُوا مِنهَا فَإِن يَخرُجُوا مِنهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ \" [المائدة: 22]، لقد فقدوا الثقة في كلام نبيهم، بل وأساؤوا الأدب مع نبيهم موسى - عليه السلام -، بل وتجاوزوا ذلك لإساءة الأدب مع الله - عز وجل -: \"قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَدخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذهَب أَنتَ وَرَبٌّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ \" [المائدة: 24]، منذ ذلك الحين وتاريخهم مليء بالمواقف المخزية والتي تؤكد على مدى جبنهم وخورهم.

 

وتمر السنون، وتمضي القرون، ويبعث الله - تعالى -نبيه محمدًا لتبدأ حلقة أخرى من حلقات الصراع بين الحق والباطل، وينصر الله جنده في بدر، ويعود المسلمون إلى المدينة، فيطفح الحقد من صدور اليهود على ألسنتهم. وتمر الأيام ويقترف بنو قينقاع جريمتهم المشينة بمحاولة كشف عورة المرأة المسلمة، ثم حصار الرسول لهم وإجلاؤهم عن المدينة، فاستسلموا خانعين أذلاء جبناء، وتم إجلاؤهم عن المدينة إلى غير رجعة. وتمر الأيام ويحاول يهود بني النضير الغدر برسول الله، وذلك بتحريض شقيٍّ, من أشقيائهم لإلقاء حجر عليه ليتخلصوا منه، وينجِّي الله نبيه، ويحاصرهم الرسول فيطلبون العفو والسماح لهم بالخروج من المدينة، كما أخرج إخوانهم من بني قينقاع، فيتم إجلاؤهم عن المدينة. وتأتى الخيانة الثالثة من بني قريظة في غزوة الخندق، وينادي المنادي بعد المعركة: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة. ويحاصر المسلمون اليهود، ويحكم عليهم سعد بن معاذ بحكم الله، فيسلمون أعناقهم للسيف خانعين جبناء. وتمر الأيام وتأتى انتفاضة الأقصى الأولى ثم الثانية، فترى الجندي المدجج بالسلاح والعتاد يفر من أمام الطفل الفلسطيني الذي لا يملك غير الحجر، وإذا أراد الجندي اليهودي أن يستخدم سلاحه فمن داخل دبابته أو سيارته المصفحة، وما حالة العصيان العسكري بين جنود اليهود الصهاينة في الفترات الأخيرة ورفضهم العمل في مناطق التماس مع الفلسطينيين إلا دليل جبنهم وخورهم، وصدق الله: \" وَلَتَجِدَنَّهُم أَحرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ, \" [البقرة: 96]، حتى ولو كانت حياة ذليلة مهينة. وهكذا فمن حصون خيبر قديمًا إلى حصون الكذب والنفاق والخداع، إلى الجدار العازل، وصدق الله- تبارك وتعالى -: \" لا يُقَاتِلُونَكُم جَمِيعًا إِلا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ, أَو مِن وَرَاءِ جُدُر \" [الحشر: 14].

 

الخطبة الثانية:

بعد: إن فكرة الجدار الفاصل وبنائه فكرة قديمة حديثة، وليست وليدة اليوم كما تدعي القيادات الإسرائيلية، فترجع فكرة بناء الجدار إلى عام 1937م حين طُلب من تشارلز الخبير البريطاني لشؤون الإرهاب وضع خطّة لإقامة جدار على طول محاور الطرق الرئيسة من الحدود اللبنانية في الشمال وحتى بئر السبع، وقام هذا الرجل برسم المرحلة الأولى من عملية إقامة الجدار، وهو جدار من أربع طبقات، وبارتفاع مترين، يتم بناؤه على طول ثمانين كلم من طبريا في الشمال الشرقي وحتى رأس الناقورة في الشمال الغربي.وكانت تكلفة المشروع آنذاك 60 مليون دولار، وقد تم هدم هذا الجدار من قِبَل سكان القرى في ذلك الوقت.

 

وبين نكبة 48 ونكسة 67 تمت إحاطة مدينة القدس بالعديد من الأسيجة والجدران لحمايتها من المقاومين الذين يحاولون التسلل إليها، وأيضًا فشلت تلك المحاولات.

 

أيها المسلمون، إن فكرة الأسوار سياسة فاشلة، ففي مجلة إيطالية تم استعراض تاريخ أهم الأسوار التي أقيمت بغرض الدفاع عن الدول، والتي يعد سور الصين العظيم أكبر مثال عليها، وقد بدأ بناؤه في القرن الثالث قبل الميلاد، من المحيط الهادي إلى آسيا الوسطى، للتصدي للغزوات الآتية من الشمال، وقد كان هذا السور يمثل الخط الدفاعي الرئيس للصين القديمة ضد الغزوات التي كانت تقوم بها القبائل الشمالية. فأين هو سور الصين الآن؟!

 

وهل سيصمد هذا الجدار اللعين أكثر من صمود جدار برلين وحصون خيبر وخط بارليف والمعازل الخاصة إبان الحكم العنصري في جنوب أفريقيا؟! ولنا من التاريخ الدليل، ولدى المستقبل الإجابة، وجولة الحق في ساعات، تزيل ما شاد أهل الباطل في سنوات، \" بَل نَقذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ \" [الأنبياء: 18].

 

يأتي هذا الجدار في زمن العولمة، والذي من أبرز خصائصه الانفتاح وكسر الحواجز. فإذا كانت أوربا كسرت كل الحواجز، ومعظم الدول تتجه الآن إلى الانفتاح مع الغير، فهل تستطيع إسرائيل أن تعيش داخل جدران وأسوار؟!

 

إن بناء الجدار يشكل تراجعًا كبيرًا عن مشروع إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، ويعتبر انتكاسة خطيرة لجيش ودولة الاحتلال، إذ إنها تمامًا عجزت عن إسكات صوت المقاومة، وعبثًا حاولت فلم تفلح، وهذه النقطة كانت محل تندّر من بعض الساسة اليهود على دولتهم، إذ إنها تعتبر نفسها من الدول العظمى في التسلح، فضلاً عن تحالفها غير المسبوق مع أقوى دولة في العالم، ومع هذا فهي تحشر نفسها خلف سور كبيرº لتحمي مجتمعها من ضربات المجاهدين.

 

ولن يحقق هذا الجدار لإسرائيل الأمن والسلامة، ولن يسهم في توليد الإحساس بالأمن لدى الإسرائيلي، وهذا باعترافاتهم هم وليس محض خيال وآمال.

 

إن هذا الجدار لن يستطيع حماية المواطن الإسرائيلي ممن يقاومون الاحتلال، مهما علا وتنوعت موادهº لأن المقاومة تطور وسائلها مع تطور دفاعات العدو.

 

وقد بدأت ترتفع أصوات يهودية تنادي بإعادة النظر في عقلية الجدار، وتعلن معارضتها الشديدة لخطة السور الفاصل. وبرّر المعارضون موقفهم بأن جميع الجدران التي بناها اليهود منذ نحو 150 عامًا، وكذلك عبر التاريخ أثبتت عدم جدواها أو فاعليتها، بل إنها وفّرت مبررات إضافية لتعريض الأمن اليهودي للخطر. إضافة إلى أن الجدار سيحكم على مشروع خارطة الطريق التي ترعاها الولايات المتحدة بالفشل.

 

أما نحن المسلمين، فإننا متفائلون بهذا الجدار، وأنه سجن كبير لليهود، إنهم يحشرون أنفسهم داخله لأبطال فلسطين، ونأمل أن يتحقق موعود الله في بني إسرائيل في القضاء عليهم، فلم ينفعهم جدار يحتمون خلفه، حيث يغضب عليهم كل شيء حتى الشجر والحجر يرشدان المؤمن على اليهودي الذي يختبأ خلفهما. قال الله - تعالى -:\" وَظَنٌّوا أَنَّهُم مَانِعَتُهُم حُصُونُهُم مِن اللَّهِ فَأَتَاهُم اللَّهُ مِن حَيثُ لَم يَحتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِم الرٌّعبَ \" [الحشر: 2].

اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين...

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply