بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أما بعد: فاعلموا ـ عباد الله ـ أن من أعظم ثمرات الصلاة أنها كفارة للذنوب والخطايا التي لا تزال تدفع بالمرء حتى يقذف في نار الجحيم. وكل مسلم جعل الجنّة غايته يتلهف لهفًا شديدًا لمعرفة كل سبب يسدّ عنه باب الخطايا والآثام، لأنّنا وخاصة في هذا الزمان نعصي الله - سبحانه وتعالى - عدد الأنفاس. فأبشر أيها المسلم الذي تحاول ليل نهار وصباح مساء لئلا تقع في المعصية، أبشر فإنّ الله - سبحانه - جعل لك من كل هم مخرجا ولكل كرب فرجا، فكثرة الصلاة تمحو الذنوب وتذيبها كما تذيب النار خبث الحديد، واستمعوا إلى هذه النصوص، استمعوا إلى الوحي وهو يبشرنا بذلك:
1- روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله قال: ((أرأيتم لو أنّ نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كلّ يوم خمس مرّات، هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: ((فذلك مثل الصلوات، الخمس يمحو الله بهن الخطايا)).
2- وروى البزار عن أبي سعيد الخدري أنّه سمع النبي يقول: ((أرأيت لو أن رجلاً كان يعتمل وكان بين منزله وبين معتمله خمسةُ أنهار، فإذا أتى معتمله عمل فيه ما شاء الله، فأصابه الوسخ أو العرق، فكلما مرّ بنهر اغتسل، ما كان ذلك يُبقي من درنه؟ فكذلك الصلاة، كلما عمل خطيئة فدعا واستغفر غُفر له ما كان قبلها)).
3- وروى الطبراني عن ابن مسعود قال: قال رسول الله: ((تحترقون تحترقون فإذا صلّيتم الصّبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صلّيتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صلّيتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صلّيتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صلّيتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا)).
فالصلاة تنجدك ـ أيها المسلم ـ من هذا الحريق الذي يصيبنا كل لحظة، فالمصيبة أن يحترق الرجل ويحترق ولا يجد ما يغسل حرقه، فإنه في الأخير إن لم يتغمده الله برحمته سيذوب ويصير رمادا، فأنى له الحياة بعدها؟!
4- لذلك روى الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله: ((إن لله - تعالى- ملكًا ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها)).
5- وروى أحمد عن أبي عثمان النهدي قال: كنت مع سلمان - رضي الله عنه - تحت شجرة، فأخذ غصنًا منها يابسًا فهزّه حتى تحاتّ ورقه، ثم قال: يا أبا عثمان، ألا تسألني لم أفعل هذا؟ قلت: ولم تفعله؟ قال: قال: ((إنّ المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلّى الصلوات الخمس تحاتّت خطاياه كما تحاتَّ هذا الورق)).
6- وانظروا كيف بيّن ذلك لأصحابه الأوابين الذين خشوا على أنفسهم من كل ذنب، فقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود أن رجلا أصاب ذنبًا فأتى عمر بن الخطاب فعظم عليه، ثم أتى أبا بكر فعظم عليه، ثم أتى النبي فذكر ذلك له، قال: فنزلت {وَأَقِمِ الصَّلَواةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيلِ إِنَّ الحَسَنَـاتِ يُذهِبنَ السَّـيّئَـاتِ ذلِكَ ذِكرَى لِلذكِرِينَ} [هود: 114]، فقال الرجل: ألي هذه يا رسول الله؟ قال: ((لمن عمل بها من أمتي)).
بشرى عامة لكل مسلم يخاف الله ويتقيه قدر المستطاع ثم تزل به قدمه فيرتكب إثمًا، فلا يقنط ولا ييأس من رحمة الله، {إِنَّ الحَسَنَـاتِ يُذهِبنَ السَّـيّئَـاتِ} فليسارع إلى الصلاة وليكثر منها، وقد شرع لنا الله صلاة هي صلاة التوبة.
7- فقد روى الترمذي بسند صحيح عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من رجل يُذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهّر ثم يصلّي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له))، ثم تلا قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً أَو ظَلَمُوا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذٌّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران: 135].
8- ومن الصلوات العظيمة المهجورة في أيامنا هذه والتي لها الحظ الأوفر لمحو الذنوب صغيرها وكبيرها، أولها وآخرها، خطئها وعمدها، قديمها وحديثها صلاة التسابيح، صلاة كلها تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل، يصل عدد تسابيحها إلى خمس وسبعين مرة، فقد روى أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله قال للعباس بن عبد المطلب: ((يا عباس، يا عماه، ألا أعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا أحبوك؟ ألا أفعل بك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك أوله وآخره قديمه وحديثه خطأه وعمده صغيره وكبيره سره وعلانيته؟ عشر خصال أن تصلي أربع ركعات، تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم قلت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشرا، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشرا، ثم تهوي ساجدا فتقولها وأنت ساجد عشرا، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا، ثم تسجد فتقولها عشرا، ثم ترفع رأسك فتقولها عشرا، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة)).
هذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، المهم هو أن ندرك أنّه حان الوقت للاعتناء بالصلوات النوافل كذلك، فإننا في أزمة روحية وينبغي للأزمة أن تلد الهمة فتزيل الكرب والغمّة. والله المستعان لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كاشف الكروب ومثبت القلوب، جاعل الصلاة مكفرة للخطايا والذنوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أوضح لنا كل السبل والدروب، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فاعلموا ـ عباد الله ـ أن الله علّمنا في كتابه أنّ الصلاة تعين على قضاء حوائج الدنيا والآخرة فقال: {وَاستَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلَواةِ} [البقرة: 45]، ويؤيد ذلك أحاديث:
1- جاء في مسند أحمد عن حذيفة قال: كان رسول الله إذا حزبه أمر صلى.
وأعظم ما يشغلنا ويأخذ جميع اهتمامنا هو النجاة يوم الآخرة ودخول الجنة، فلنستعن على ذلك بكثرة الصلاة.
2- فقد قال ربيعة بن كعب الأسلمي لرسول الله: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: ((أو غير ذلك؟)) قال: قلت: هو ذاك، قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)) أي: الصلاة.
ولا تقتصر الاستعانة بالصلاة على أمور الآخرة فقط، وإنّما كذلك تتصل بحياة المسلم اتصالاً وثيقًا فهي المعين للانتهاء عن الفحشاء والمنكر كما سبق بيانه، وهي الجالبة لتأييد الملائكة كما ذكرناه، وهي السبب لنصر الله - عز وجل -، وهي السبب لتكفير الخطايا. فالمسلم إذا علم أن صلاته تمحو خطاياه حَرِص على صلاته، وبالتالي انتهى عن كل سوء.
وانظروا كيف علمنا رسول الله أن الصلاة معينة على كل أمور الحياة، ذلكم يبرز جليًا في:
3- صلاة الاستخارة فقد روى البخاري عن جابر قال: قال رسول الله: ((إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال: عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال: في عاجل أمري وآجله ـ فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني)) قال: ويسمي حاجته.
4- كذلك إذا وقع كسوف الشمس أو خسوف القمر فزع المسلم لربه ليكشف ما به.
5- وشرعت صلاة الجماعة وصلاة الجمعة لاجتماع المسلمين على ذكر الله وطاعته، فتعم المحبة والمودة والحرمة ليظل كيان المجتمع المسلم صلبًا قويًا.
6- وإذا ما انقطع المطر وهلكت الدواب وانقطعت السبل لجأ المسلمون إلى ربّهم بالصلاة والدعاء ليكشف ما بهم من سوء.
7- وها هي صلاة الضحى شرعها الله - سبحانه - لينال عباده وسام العابدين الذين وعدهم الله - تعالى - بالنصر حيث قال: {وَلَقَد كَتَبنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذّكرِ أَنَّ الأرضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّـالِحُونَ إِنَّ فِي هَـذَا لَبَلَـاغًا لّقَومٍ, عَـابِدِينَ} [الأنبياء: 105، 106]، ومعلوم لدينا أن من صلـى الضحى أربعًا كتب من العابدين.
كل ذلك يوضح لنا أن الصلاة أعظم ما يتقرب به العبد إلى ربه، ولم نكثر من الحديث عنها إلا ليتغلغل هذا المفهوم في قلوب العباد وليزدادوا حرصًا على هذه العبادة العظيمة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد