بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد..
أيها المؤمنون اتقوا الله - تعالى - الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وطهروا قلوبكم من الآثام والذنوب فإن آثام القلوب دقيقة خفية حتى إن كثيراً من المتنزهين عن الكبائر والآثام الحسية من الزنى وشرب الخمر وغيرهما يتورطون في ألوان من الكبائر القلبية مثلها أو أعظم منها ولا يخطر ببال أحدهم أنه مريض القلب، سقيم الفؤاد فضلاً عن أن يتوب منها أو يقلع عنها وما ذاك إلا لخفائها وغفلة الناس عنها.فكم هم أصحاب القلوب المريضة بالعجب والرياء وكم هي القلوب المشحونة بالغل والحسد والحقد وكم هي الأفئدة التي بليت بمحبة غير الله - تعالى - وخوف غيره أو الاغترار به - سبحانه - أو سوء الظن به إنها والله كثيرة.
ومن ينج منها ينج من ذي عظيمة *** و إلا فإني لا إخالك ناجيا
أيها المؤمنون إن خطايا القلوب وآثامها خطيرة عظيمة فالقلب سيد الجوارح وهو المتصرف فيها والجوارح تابعة منقادة له تكتسب استقامتها وضلالها منه ويشهد لذلك وينطق به ما أخرجه الشيخان عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - مرفوعاً: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) (1).
عباد الله إن من الآفات الكبار والآثام العظام التي غزت قلوب كثير من الناس وأفسدتها وصرفتها عن صحتها واستقامتها تعلقها بغير الله - تعالى -واعتمادها على غيره في جلب المنافع ودفع المضار واستعانتها وركونها إلى غير الله - تعالى -وكل هذه الأمراض تدل على ضعف إيمان صاحبها فإن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه فانظر يا عبد الله إلى إيمانك فإنه كلما قوي إيمانك بالله كان توكلك عليه أقوى فإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل وإذا كان التوكل على الله ضعيفاً فهو دليل على ضعف الإيمان ولابد، قال الله - تعالى -: \"وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ \"(2) فجعل - سبحانه - التوكل شرطاً في الإيمان فدل على انتفاء الإيمـان عند انتفاء التوكـل وقال في آية أخرى: \"وَعَلَى اللَّهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنُونَ\"(3) فذكر اسم الإيمان هاهنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل، وجعل - سبحانه - التوكل من أخص صفات المؤمنين قال - تعالى -: \"إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وَإِذَا تُلِيَت عَلَيهِم آيَاتُهُ زَادَتهُم إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ\"(4) قال ابن كثير - رحمه الله -: \" أي لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه ولا يطلبون حوائجهم إلا منه ولا يرغبون إلا إليه ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه المتصرف في الملك لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ولهذا قال سعيد بن جبير: \"التوكل على الله جماع الإيمان \" انتهى كلامه - رحمه الله -.
قال ابن القيم - رحمه الله -: \" فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده بل حقيقة التوكل توحيد القلب فمادامت في القلب علائق الشرك فتوكله معلول مدخول وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل فإن العبد متى التفت إلى غير الله أخذ ذلك الالتفات شعبة من شعب قلبه فنقص من توكله على الله بقدر ذهاب تلك الشعبة \" فيا ليت شعري كم نقص من إيمان وتوحيد أولئك الذين ركنت قلوبهم إلى ما يجري لهم من الرواتب والأجور من الدولة وغيرها أم ليت شعري ما حال أولئك الذين تعلقت قلوبهم بالأطباء والقراء في حصول الشفاء وزوال الداء أم ليت شعري كيف توكل أولئك الذين جابوا الفيافي والقفار وقطعوا الصحاري والبحار يلاحقون السحرة والمشعوذين والدجالين والمحرفين يطلبون منهم رفع البلاء أو دفعه أين هؤلاء جميعاً من قوله - تعالى -: \"وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً\"(5).
أيها المؤمنون إن التوكل على الله - تعالى -الذي هو صدق الاعتماد عليه - سبحانه - في جلب المنافع ودفع المضار وعدم الالتفات إلى الأسباب من أجل القربات وأشرف الطاعات حتى قال بعضهم: التوكل نصف الدين والإنابة نصفه الثاني قال الله - تعالى -: \" إِيَّاكَ نَعبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعِينُ \" (6) وهذه الآية جماع الدين والتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة وللتوكل على الله - تعالى - فوائد عديدة كثيرة منها: أن الله - سبحانه وتعالى - جعل التوكل عليه سبباً لحصول المطلوب واندفاع المرهوب قال ابن القيم - رحمه الله -: \"وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُ\"(7) أي كافي من يثق به في نوائبه ومهماته يكفيه كل ما أهمه وأقلقه وكلما كان العبد حسن الظن بربه حسن الرجاء له صادق التوكل عليه فإن الله - تعالى - لا يخيب أمل آمل صادق ولا يضيع عمل عامل مخلص لذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه أحمد والترمذي بسند جيد عن عمر مرفوعاً: ((لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً)) أي تذهب في الصباح جائعة ((وتروح بطاناً))(8) أي ترجع في المساء شبعة. وقد أجاد من قال:
توكل على الرحمن في كل حاجة *** أردت فإن الله يكفي ويقدر
ومن فضائل التوكل وفوائده أنه يكسب العبد قوة لا يحصلها بغيره قال بعض السلف: \" من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله - تعالى - فإن القوة مضمونة للمتوكل والكفاية والحسب والدفع عنه حاصل له ولذا كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أقوى الخلق إيماناً وأصلبهم ثباتاً وأرسخهم يقيناً وأصلبهم مراساً ولأتباعهم الصادقين وورثتهم العاملين نصيب من ذلك كله فهذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما قال لهم الناس: \"الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَاناً وَقَالُوا حَسبُنَا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُوا بِنِعمَةٍ, مِنَ اللَّهِ وَفَضلٍ, لَم يَمسَسهُم سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضلٍ, عَظِيمٍ,\"(9) ومن مزايا التوكل وفضله أن المتوكل موعود بأجر عظيم وفضل كبير ففي الصحيحين في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيان من هم: ((هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون))(10).
هذه أيها الأخوة بعض فضائل التوكل ولو لم يكن فيه إلا أن أهله هم أحباب الله لكفاه فضلاً ومنقبة قال الله - تعالى -: \"إِنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ المُتَوَكِّلِينَ?(11) قال الغزالي - رحمه الله -: \" فأعظم بمقام موسوم بمحبة الله - تعالى - صاحبه ومضمون بكفاية الله - تعالى - مُلابسه فمن الله - تعالى - حسبه وكافيه ومحبه ومراعيه فقد فاز الفوز الكبير فإن المحبوب لا يعذب ولا يبعد ولا يحجب \".
أيها المؤمنون إنه لا منافاة بين التوكل الصادق وبين الأخذ بالأسباب فهذا نبيكم - صلى الله عليه وسلم - إمام المتوكلين وسيدهم كان يأخذ بالأسباب فقد ظاهر يوم أحد بين درعين وكان يدخر قوت أهله سنة وهو سيد المتوكلين. فالواجب على المؤمن الصادق أن يتوكل على الله - تعالى - بقلبه وذلك بأن يعلم ويؤمن بأن الله - تعالى -كافيه وأنه - سبحانه - يقوم بما توكل عليه فيه حق القيام وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك فإنه - سبحانه - كفى به وكيلاً وعليه مع هذا أن يأخذ بالأسباب التي جعلها الله - تعالى - سبيلاً لتحصيل الغايات وطريقاً لكسب المقاصد والمبتغيات فاسألوا الله من فضله وعلقوا قلوبكم به فإنه لا يأتي بالخير إلا هو ولا يرفع الشر إلا هو.
الخطبة الثانية:
أما بعد..
فيا أيها المؤمنون اعلموا أنه لا غنى بأحد من الخلق عن التوكل على الله - تعالى - في حصول مطلوبة وإصابة مقصوده ويشهد لذلك أن التوكل يقع من المؤمنين والكفار ومن الأبرار والفجار بل و من الطير والوحش والبهائم، فأهل السماوات والأرض جميعهم محتاجون إلى التوكل على الله - تعالى - في تحصيل مراداتهم وتحقق مبتغياتهم على اختلافها وتنوعها.
أيها المؤمنون إن كثيراً من الناس لا يفهمون من التوكل على الله إلا التوكل عليه في تحصيل رزق أو عافية أو زوجة أو ولد أو غير ذلك من جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع الشرور والمصائب الدنيوية ولا شك أن هذا مما يجب على العباد أن يعلقوا قلوبهم فيه على الله - تعالى - فإنه لا يأتي بالخير إلا هو ولا يدفع الشر إلا هو - سبحانه - ولا يكفي العبد أن يتوكل على الله بلسانه وقلبه قد انجفل إلى المخلوقين واشتغل بالأسباب عن مسببها بل لابد من ركون القلب إلى الله - تعالى - واعتماده عليه وسكونه إليه.
وفوق هذه المرتبة من التوكل مرتبة أخرى خصّ الله بها أولياءه المتقين وحزبه المفلحين وهي التوكل عليه في الإيمان به وفي نصرة دينه وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه وفي حصول محابه والقيام بأوامره فهذه المرتبة هي من أخص مقامات المؤمنين قال الله - تعالى - في بيان موقف رسله وأوليائه من كيد أعدائه وتهديداتهم: \"وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَد هَدَانَا سُبُلَنَا\"(12) وقال الخـليل حين ألقي في النار: حسبنا الله ونعم الوكيل وقالها محمد وأصحابه عندما قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم \"
فعلى أتباعهم من طلبة العلم وحملة الرسالة وأهل الدعوة والصحوة أن يسلكوا سبيلهم وأن يحذوا حذوهم في التوكل على من بيده ملكوت كل شيء في نصر دين الله وإعزاز جنده وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه بعد أخذهم بالأسباب من العلم والتعليم والبذل والدعوة والنصح للخلق والصبر على ذلك.
فما لنا يا ورثة الأنبياء ويا حملة الرسالة ويا دعاة الحق أن لا نتوكل على الله ونحن نأوي إلى ركن شديد ونعتصم بحبل متين فقوموا بارك الله فيكم بما افترضه الله عليكم من نصرة دينكم والدعوة إليه والصبر عليه وتوكلوا على الله - تعالى - في تحقيق آمالكم ولا يروعنكم تكالبُ أعدائكم ولا توالي كيدهم ولا تماديهم في غيهم فإن عاقبتهم الفشلُ في الدنيا والآخرة فإن الله لا يصلح عمل المفسدين كما قال الله - تعالى -: \"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَموَالَهُم لِيَصُدٌّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسرَةً ثُمَّ يُغلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحشَرُونَ \"(13).
فراغموا أعداء الله ورسوله و اصدعوا بالحق وانصحوا للخلق فإن الغلبة والظهور والعزة والتمكين لأولياء الله - تعالى -ولأتباع رسله \"كَتَبَ اللَّهُ لأغلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيُّ عَزِيزٌ\"(14)ومن صدق توكله على الله - تعالى - في نصر دينه وإعلاء كلمته كفاه الله ما أهمه وأعانه على أمور دينه ودنياه.
جعلنا الله وإياكم من أوليائه المتوكلين عليه الذين يبلغـون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله.
----------------------------------------
(1) البخاري (52)، ومسلم (1599).
(2) سورة: المائدة: آية (23)
(3) سورة: آل عمران: آية (122)
(4) سورة: لأنفال: آية (2)
(5)سورة: النساء: آية (81)
(6) سورة: الفاتحة: آية (5)
(7) سورة: الطلاق: آية (3)
(8) أخرجه: أحمد (205)، و الترمذي (2344)، وابن ماجه (4164) كلهم من طريق عبدالله بن هبيرة عن أبي تميم الجيشاني عن عمر. قال الترمذي: حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وصححه الألباني.
(9) سورة: آل عمران: آية (173ـ 174)
(10) البخاري (5752)، ومسلم (218).
(11) سورة: آل عمران: آية (159)
(12) سورة: إبراهيم: آية (12)
(13) سورة: لأنفال: آية (36)
(14) سورة:المجادلة: آية (21)
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد