بسم الله الرحمن الرحيم
القاعدة السابعة: الرؤيا حديث المَلك وهو لا يكذب.
الرؤيا حديث الملك، وهو متعلق بالروح، وقد وُكِّل بها والملك لا يكذب، ولذلك سماها الله \"أحاديث\".
أما الأحلام فهي حديث الشيطان ووسوسته، وهي متعلقة بالنفس، وقد وكل بها شيطان، والكذب عمدته لإخافة الحالم.
أما حديث النفس فهو متعلق بالجسد، وهو الرغبات والمشاعر المكبوتة في اللاشعور، فتستيقظ في المنام ولا تأويل له، ومراتب النفس:
أ- النفس اللوامة: من تأثير فعل المعصية في الواقعº فيحصل تأنيب الضمير والبكاء.
ب- النفس المطمئنة: من تأثير فعل الحسنة في الواقعº فيحصل له من رضا داخلي وسرور وضحك.
ج- النفس الأمارة بالسوء: كالهم بالمعصية في الواقعº فيحصل له تفريغ هذه المشاعر عن طريق الحلم، ومثله الهم بالشرب للجائع في رمضانº فيرى ذلك في منامه واقعاً.
ما كان له في الواقع صلة مباشرة فإنه لا يعتد به، ويلحق حينئذ بحديث النفس ما لم يكن بعد استخارة أو استشارة أو دعاء.
مثاله: من كان لديه اختبار غداً، فيرى نفسه وقد دخل صالة الاختبار. ومثل رجل ضُرب في الواقع فيرى نفسه هو الضارب، فهذا نوع من التفريغ الانفعالي فلا يُعتد به.
أما ما كان بعد دعاء فمثل حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة بمهيعة وهي الجحفة، فأولت أن وباء بالمدينة نقل إليها)) (رواه البخاري).
فهذه رؤيا، وقد دعا النبي- صلى الله عليه وسلم - بذهاب حمى يثربº لما عاناه الصحابة منها إلى الجحفةº لكون المشركين بها حينئذ، وكان يتوقع الإجابة، فلما رأى هذه الرؤيا استبشر بها خيراً وعبرهاº لأنه ينتظر إجابة دعائه.
ويقاس على الدعاء: الاستخارة والاستشارة، فالرؤيا بعدهما حجة في هذا الباب.
القاعدة الثامنة: ما لا يذكر من الرؤيا بعد اليقظة فلا خير فيه، ما لم تدل عليه قرينة في الواقع تذكر به، فلو قام من نومه وقد نسي رؤياه، فلما ذهب إلى عمله شاهد لوناً أخضر، فتذكر الرؤيا بتفاصيلها من رؤية حدائق خضراء ونحوهاº فالرؤيا صادقة لوجود تلك القرينة.
وما جاء في الرؤيا بخوف ووجل، فالأصل في التعبير التيسير والبشارة: لقوله - تعالى -: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ)) (البقرة: 185).
مثاله: لو رأى أنه خائف فإنه يعبر بالأمن لقوله - تعالى -: ((وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمناً)) (النور: 55).
ولو رأى نفسه فقيراً، فإن الله سوف يغنيه لقوله - تعالى -حاكياً عن موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-: ((رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلتَ إِلَيَّ مِن خَيرٍ, فَقِيرٌ)) (القصص: 24).
فأغناه الله بعد مقالته، ورؤية نكاح المحارم بر وصلة رحم، ورؤية الزواج تجارة، والطيران سفر وهكذا.
القاعدة التاسعة: التعبير قياس وتشبيه وظن لا يقطع به، ولكن يستأنس به، ولا يحلف على غيبه إلا أن يظهر في اليقظة صدقه.
مثاله: جاءت امرأة إلى ابن سيرين وهو يتغذى، فقالت له: يا أبا بكر، رأيت رؤيا، فقال: تقصين أو تتركيني حتى آكل؟ قالت: أتركك، فأكل ثم قال: قصي، قالت: رأيت القمر قد دخل في الثريا، فنادى مناد من خلفي: ائتي ابن سيرين فقصي عليه، قالت: فغسل يده عن الطعام، وقال: ويلك، كيف رأيت؟ فأعادت عليه، فتغير لونه، وقام وهو آخذ ببطنه، فقالت أخته: مالك؟ فقال: زعمت هذه المرأة أني ميت إلى سبعة أيام، قال الأشعث: فعددنا سبعة أيام، فدفناه في اليوم السابع!
فهذه القصة لابن سيرين ظهرت علامات صدقها في اليقظة فيجزم بها، وأما إذا لم يظهر في الواقع شيء يدل على صدق الرؤيا فتكون مجرد ظن واستئناس.
القاعدة العاشرة: كل أثر مؤلم في اليقظة بعد رؤيا، فهو دلالة بداية مس عن طريق العين، فلابد من مبادرة أخذ الأثر حتى لا تتمكن منه تلك العين.
مثاله: رجل رأى كأن أحداً يضربه بسكين في خاصرته، فقام من نومه متألماً من مكان الضربة، فلاشك أن هذه علامة من علامات الإصابة بالعين، فلابد من أخذ الأثر ممن رآه في المنام حتى تذهب تلك العين.
القاعدة الحادية عشرة: الرؤيا سر أودعه الله عن طريق المَلك للرائي، فلا يقص إلا على عالم أو ناصح، والسبب في ذلك ـ والله أعلم ـ حتى لا يعبر عن طريق جاهل أو حاسد فيقع ما لا تحمد عقباه، أما إذا قيلت في مجمع طلبة علم أو عقلاء، فلا بأس بالجهر بهاº لأن الصحابة دائماً يقصون الرؤى بحضور غيرهم.
مثاله: قصة يوسف مع إخوته حينما قال له والده: ((لا تَقصُص رُؤياكَ عَلَى إِخوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيداً)) (يوسف: 5).
القاعدة الثانية عشرة: كل رؤيا لها معنيان: بعيد وقريب يتفاوتان في الخير والشر، فيُغلَّب جانب الخير على جانب الشر.
مثاله: حديث عائشة زوج النبي- صلى الله عليه وسلم - قالت: ((كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج يختلف، فكانت ترى رؤيا كلما غاب عنها زوجها، وقلما يغيب إلا تركها حاملاً، فتأتي رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فتقول: إن زوجي خرج تاجراً فتركني حاملاً، فرأيت فيما يرى النائم أن سارية بيتي انكسرت، وأني ولدت غلاماً أعور، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خيراً يرجع زوجك عليك إن شاء الله صالحاً وتلدين غلاماً باراً)).
فكانت تراها مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك تأتي رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فيقول لها ذلك، فيرجع زوجها وتلد غلاماً، فجاءت كما كانت تأتيه، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم - غائب، وقد رأت تلك الرؤيا. فقلت لها: عم تسألين رسول الله يا أمة الله؟ فقالت: رؤيا كنت أراهاº فآتي رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فأسأله عنها فيقول: ((خيراً)) فيكون كما قال، فقلت: فأخبريني ما هي؟ قالت: حتى يأتي رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فأعرضها عليه كما كنت أعرض، فوالله ما تركتها حتى أخبرتني، فقلت: والله لئن صدقت رؤياك، ليموتن زوجك وتلدين غلاماً فاجراً، فقعدت تبكي، فقال لها- يعني رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ((ما لها يا عائشة)) فأخبرته الخبر وما تأولته لها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((مه يا عائشة، إذا عبرتم للمسلم الرؤيا فاعبروها على الخير، فإن الرؤيا على ما يعبرها صاحبها)).
فمات والله زوجها، ولا أراها إلا ولدت غلاماً فاجراً\".
فالنبي- صلى الله عليه وسلم - رأى المعنى البعيد من أن انكسار سارية البيت معناه: سعة للبيت، وسعته من سعة الرزق، والغلام الأعور: أي أنه لا يرى إلا طريق الخير وهو إشارة لقوله - تعالى -: ((وَهَدَينَاهُ النَّجدَينِ)) (البلد: 10).
أما عائشة- رضي الله عنها- فنظرت إلى المعنى القريب وهو: أن سارية البيت هو زوجها، وانكسارها: موته، والغلام الأعور: إشارة إلى المسيح الدجال.
ومثله رؤيا النار، فالمعنى القريب تعني الخصومة والشقاق، وهو بمعنى سيئ، أما المعنى البعيد فهو الخير والبركة إشارة لقوله: ((أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَن حَولَهَا)) (النمل: 8).
القاعدة الثالثة عشرة: رؤيا المؤمن تسره ولا تغره.
فهي مبشرة لا يتكل عليها فقط، فلابد من مبادرة الأعمال،
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: كان إبراهيم الحميدي رجلاً صالحاً، فدخل عليه الإمام أحمد بن حنبل- رضي الله عنه- فقال له: إن أمي رأت لك كذا وكذا، وذكر الجنة، فقال الإمام أحمد: يا أخي إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا، وخرج سهل إلى سفك الدماء، ثم قال له: \"الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره\".
وقال الإمام الذهبي: في رؤيا عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه- أن يدخل الجنة حبواً مع أنه من أهل الجنة، وأحد العشرة المبشرين.
قال: إسناده حسن، فهو وغيره منام، والمنام له تأويل، وقد انتفع ابن عوف- رضي الله عنه- بما رأى وبما بلغه، حتى تصدق بأموال عظيمة أطلقت ولله الحمد - قدميه وصار من ورثة الفردوس فلا ضير.
القاعدة الرابعة عشرة: التعبير يختلف باختلاف هيئات الناس وأقدارهم..فلابد أن ينظر إلى حال الرائي وقدره، ثم يبنى على ذلك التأويل المناسب.
مثاله: قصة الرجلين اللذين رأى كل منهما أنه يؤذن، فقال ابن سيرين للسيئ منهما: أنت تسرق، وقال للصالح: أنت تحج، فقال له جلساؤه: كيف فرقت بينهما والرؤيا واحدة؟ قال: رأيت للأول سيما حسنة فتأولت ((وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجِّ)) (الحج: 27).
ولم أر هيئة للثاني فتأولت: ((ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العِيرُ إِنَّكُم لَسَارِقُونَ)) (يوسف: 70).
وفي هذا رد على من يعبر الرؤيا مباشرة دون اعتبار لحال الرائي ومكانته.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد