ومضات إصلاحية في الآيات القرآنية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:

\" ومضات إصلاحية من الآيات القرآنية \" نجعلها حديث يومنا هذا، وقد كثر الحديث عن الإصلاح وتنوعت صوره، فمن إصلاحٍ, تأتي به دبابة عسكرية، إلى إصلاحٍ, تبثّه قنوات فضائية، إلى إصلاحٍ, آخر يتجلى في مبادراتٍ, سياسية، إلى ثالثٍ, ورابعٍ, وخامس..

 

وقلَّما سمعنا في الإصلاح الذي يأتي من الخارج، أو الذي يروج في الداخل، أو الذي يتناقل حسب وسائل الإعلام هنا أو هناك.. قلّما رأينا تأصيله من كتاب الله واسترشاده التام بهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

 

إن الثوب إذا كان من قماشٍ, حسن، وبخياطةٍ, متقنة لكنه على غير مقاسك لا ينفعك ولا تستطيع الانتفاع به، وكذلكم كل ما يأتي على غير الأساس الذي تقوم عليه وننطلق منه ونحتكم إليه وهو أساس كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلن يكون محققا لمراداتنا وطموحاتنا من هذا الإصلاح.

 

وذلك يقين لا بد أن يستقر في النفوس، والقلوب مع علمٍ, وفكرٍ, وبصيرةٍ, تدرك أن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيهما من القواعد الكلية والمقاصد الشرعية ما يستوعب مستجدات كل زمانٍ,، وما يصلح أحوال كل مكان، وما ينفع الإنسان في تقلبات أحواله وتغيرات أزمانه.. فليس هناك قصور - كما يتوهم للبعض - ولا تخلف - كما يفتري البعض - بل كمال مطلق، وصلاح دائم، وتجدد مستمر، ومرونة عظيمة مع أصالةٍ, وثباتٍ, يعصم به المؤمنون والمسلمون من أن تضل بهم الأهواء، أو أن تتقاسمهم الآراء، أو أن تستبدّ بهم الحيرة، أو أن يغشاهم الاضطراب: {قل إني على بينةٍ, من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين}.

 

وليس مقامنا هذا كافيا أن نتحدث عن منهج الإصلاح في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -º فإن ذلك يستوعب الحياة كلها في مجالاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدولية وغير ذلك.

وحسبنا في هذا المقام الذي نفتتح به حديث الإصلاح في القرآن والسنة أن يكون اليوم في ومضات قرآنيةٍ,، وربما جلّها نأخذه من قصةٍ, واحدةٍ, من قصص الإصلاح وحواراته من رسل الله عليهم صلواتهم وسلامه - عز وجل -.

 

قصة شعيب مع قومه:

فيها ومضات منهجية نؤسس بها لقضية الإصلاح من خلال هذه الآيات، ومن خلال غيرها من بعد بإذنه - سبحانه وتعالى-: {وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يومٍ, محيط}.

نبي من أنبياء الله، والأنبياء هم صفوة المصلحين، وخلاصة الذين رسموا المنهج القويم للإصلاح على هديٍ, من ربهم، وبنورٍ, من وحيه، وبرقيٍ, وسموٍ, بما كانوا عليه من صلاح السرائر وجمال الأخلاق، ورشد العقول، وحسن التدبير، وكمال السياسة التي كان عليها رسل الله وأنبياءه.

 

هذه دعوة شعيبٍ, يبدأها بأول وأهم وأعظم أساسٍ, لا يكون إصلاحٍ, إلا به.. أساس الإصلاح الإعتقادي الإيماني الذي يعلق القلوب بتوحيد الله وتعظيمه، فلا شرك ولا إشراك، ولا توزع لهموم الإنسان وطموحاته أو خوفه ورجاءه إلى آلهةٍ, متعددةٍ, لم يسمها آلهة أول دعوةٍ, بدأ بها وبدأ بها كل الرسل والأنبياء {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ, غيره}.

 

هذه الدعوة الإصلاحية الأولى كم أمة الإسلام محتاجة؟ إليها كم نحن في حاجةٍ, إلى إصلاح مسائل الإصلاح، مسائل الاعتقاد والإيمان من جهةٍ, ووجوهٍ, شتى من وجوه الصحة والعلم والمعرفة المبنية على دليلها الثابت من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعيد عن انحراف الآراء وانجراف الأهواء؟.

 

كم نحن في حاجةٍ, من جهةٍ, أخرى إلى دحض الشبهات، وإلى بيان فساد المبتدعات، وإلى التذكير والتحذير من خطورة الشركيات.

ليس في ذلك شيء إلا ونحن في أمس الحاجة إليه، وليس من ذلك شيء إلا وهو من أعظم وأسس سبب الانحراف والضعف والزيغ الذي حلّ بأمتنا أو بكثيرٍ, من أبناءها وفي كثيرٍ, من أصقاعها، ثم نحن كذلك في حاجةٍ, إلى مراجعة قضية الإيمان والاعتقاد بعد المعرفة الصحيحة إلى الأثر الحقيقي في واقع الحياة.

 

هل قضايا الإيمان تشربتها القلوب؟ هل حقائق الإيمان رسخت في النفوس؟ هل أصبحت تجري مع الدماء في العروق؟ هل تضبط الخواطر والأفكار؟ هل تهذب الأقوال والكلمات؟ هل تقوم السلوك والأعمال؟ هل تحكم بين الناس فيما يجري بينهم من الأمور؟ هل تضبط أمور معاملاتهم المالية؟ هل هي حقيقة حية واقعة تتجلى في سجود جباههم ودموع أعينهم ووجل قلوبهم وورع نفوسهم؟ هل حقيقة الإيمان موجودة؟

 

لو أنها كانت على النحو المطلوب، وعلى الوجه الكامل، وعلى الصورة المؤثرةº لرأينا كثير من وجوه الفساد والقطيعة والخلاف تنتهي في أحوال أمتنا، وتزول من واقع حياتنا، ولكنه الإيمان إذا انحرف فضل أربابه إلى صورٍ, من شركٍ, أو انحرافٍ, وابتداع.. ولكنه الإيمان إذا ضعف فاستولت الدنيا بشهواتها على القلوب وسيرت النفوس وحكمت في العلائق والأحوال المختلفة.. فحينئذٍ, لا يرجى أن يكون أثر لأي إصلاح، ما دام الفساد في القلوب مستقر، وما دام الكدر والقدر موجود في النفوس لن تطهره قضايا الإيمان وحقائقه كما ينبغي.

 

إن طهارة القلوب، وزكاة النفوس، ورشد العقول، وحسن الأقوال، وصحة الأعمال، وصلاح الأحوال لا يمكن أن تنطلق إلا من أساسٍ, صحيح في اعتقادٍ, صحيحٍ, راسخٍ, مؤثر.. ذلكم هو أساس الإصلاح والتغيير الذي جاء به سيد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم بذر بذرة الإيمان في قلوب قومٍ, من أهل الشرك والكفر والجاهلية والعصبية، أهل فسقٍ, وفجور، أهل انحرافٍ, وأهواء، فإذا بهذا الإيمان يغير حياتهم، ويؤسسها على قاعدةٍ, جديدة متينةٍ, ركيزةٍ, من شهادة التوحيد، ومن معرفة حقائق الإيمان وتأثيره في النفوس.

 

وتلك هي القضية التي جاء بها الرسل والأنبياء.. جاء بها شعيب وقدمهاº لتكون أساسا يبني عليه الإصلاح الاقتصادي الذي كان شائعاً في قومه الإفساد فيه.

وجاء بها موسى - عليه السلام - ليصلح بها الفساد والطغيان السياسي الذي كان عليه فرعون.

وجاء بها لوط - عليه السلام - ليصلح بها الإفساد الأخلاقي الذي كان في شذوذ قومه وانحرافهم إلى فسق فيما يأتون من الذكران من العالمين.

 

فكل قضيةٍ, إصلاحيةٍ, إنما يؤسس لها بتأسيس صلاح الإيمان، وصحة الاعتقاد، وحسن التعلق بالله وكمال الرجاء فيه وعظمة الخوف منه وصدق التوكل عليه ودوام الإنابة إليه تلك التي هي تحسن بها أحوال الناس في معاشهم ويكون لهم بها بعد مماتهم أثر وسبب لنيل رحمة الله - عز وجل - ورضوانه.

قال شعيب - عليه السلام -: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان} لأجل دنيا تريدون تحصيل المزيد من الأرباح فيها بتنكب الحق وارتكاب الغش.

وقال: {إني أراكم بخير} ما معنى ذلك؟ أراكم بخيرٍ, في معيشتكم ورزقكم، أي فيما تأخذون من الحلال وإن كان قليلا فأخاف أن تسلبوا ما أنتم عليه بانتهاككم محارم الله.

 

قال ابن كثيرٍ, في تفسيره: \" إذ الإصلاح يعتمد كذلك على الطاعة لله - عز وجل -، والموافقة لشرعه، والمجانبة لمحاداته ومشاقته، ومخالفة أمرهº فإن دواعي الفساد والإفساد إنما مبعثها مخالفة حكم الله - عز وجل - وهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما كان من التزامٍ, بأمر الله وأمر رسوله فذلك فيه الصلاح والخير ولذلك قال: {إني أراكم بخير} أي إن استقمتم على أمر الله \".

 

ثم حذر فقال: {إني أخاف عليكم عذاب يومٍ, محيط} تفسد أحوالكم في دنياكم، وتحلّ بكم نقمة الله - عز وجل -، وينزل بكم سخطه، وتنزع منكم بركته في الدنيا، ثم تكون العاقبة السيئة والعياذ بالله في الآخرة.

 

فالأساس الإصلاحي الثاني الذي تصلح به أحوال العباد بعد حسن الاعتقاد هو: حسن الامتثال

قال - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحيِيكُم وَاعلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَينَ المَرءِ وَقَلبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحشَرُونَ}

وهذه دعوات قرآنية كثيرة، ودعوات نبوية عديدة، يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى! قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)

وهذا أساس ينبغي أن نعلم سوء أثره في واقعنا.

 

لماذا افترقت النفوس؟ لماذا اختلفت الآراء لماذا تفرّقت الصفوف؟ لماذا قست القلوب؟ لماذا جحدت العيون وقحطت؟ لماذا تغيرت أحوالنا؟ إنه ضعف إيماننا بسبب كثرة معاصينا، والمعصية آثارها عظيمة، وأضرارها وخيمة ووبيلة، والمؤمن الحق يدرك تماماً أن قضية أثر المعصية أمره عظيم، ولقد كان أسلافنا - رضوان الله عليهم - يرون أثر المعصية في الأمر اليسير الهين الذي لا نلقي له بال.

 

قد كانوا يرون أثر المعصية إذا ساء خلق زوجة أحدهم أو دابتهº ردّ ذلك إلى قصورٍ, في طاعته أو إلى غفلةٍ, في ارتكاب شيءٍ, من المعاصي، كانوا يرون أن كل عارضٍ, يعرض لهم فيه ضرب من الابتلاء، أو ضرب من العناء إنما هو بسبب شيءٍ, من غفلتهم عن أمر الله أو اجتراءهم على معصية الله.

 

واليوم وقد كثرت الذنوب والمعاصي، وتعاظمت حتى صارت كأمثال الجبال، بل ملئت ما بين السماء والأرض، ثم بعد ذلك نسأل: ما السبب في تغير أحوالنا؟ ولماذا لا نستطيع أن نحقق مرادنا، ولا أن نصل إلى مبتغانا، ولا أن نصلح أحوالنا، ولا أن نداوي أمراضنا؟

إن ذلك لا يكون ولن يكون إلا بصلح مع الله - عز وجل -، وإصلاح ما بيننا وبينه وبالتعظيم والوفاء لرسولنا - صلى الله عليه وسلم -.. استمساك بهده واتباع لسنته وذبّ عنه - عليه الصلاة والسلام -.

 

ولذلك حذّر شعيب هنا من هذه المعصية، فماذا كان جواب القوم وإن كان لا يعنينا كذلك في هذا المقام إنما نريد أن ننظر إلى لسان المصلح، ماذا كان يقول إلى نظريته التي يقدمها؟ إلى توجيهاته التي يذكرها؟

لكنهم في سياق ردهم عليه جاءوا بالتهكم والسخرية، وأتوا بما يستوجبون به سخط الله - عز وجل - وحلول الفساد في أرضهم وديارهم، وقبل ذلك في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم.. {قَالُوا يَا شُعَيبُ أَصَلاَتُكَ تَأمُرُكَ أَن نَّترُكَ مَا يَعبُدُ آبَاؤُنَا أَو أَن نَّفعَلَ فِي أَموَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ}.

لم يقولوا ذلك ذكر لصفاتٍ, حسنةٍ, فيه، ولكنهم يقولون عكسه، أي إن مقتضى ما تقوله لنا يدلنا على أنك لست بحليمٍ, ولا رشيد.. يقولون ذلك على سبيل التهكم، ويذكرون هنا قضية مهمة في شأن الإصلاح يذكرها وللأسف بعض بني جلدتنا الناطقين بألسنتنا عندما قالوا: {أَصَلاَتُكَ تَأمُرُكَ أَن نَّترُكَ مَا يَعبُدُ آبَاؤُنَا أَو أَن نَّفعَلَ فِي أَموَالِنَا مَا نَشَاء}.

 

لماذا تدخلون أمر الاعتقاد أمر الدين في صلب الحياة ما لدين والاقتصاد؟ ما لدين والسياسة؟ ما لدين والحياة الاجتماعية، ما لدين وللحياة العلمية والتقنية؟ أرادوا أن يقولوا له: بماذا جئتنا يا شعيب؟ نحن ننكر ونستنكر، ولا نقبل ولا نفهم أن تكون صلاتك التي تقوم بها! أو ديانتك التي جئت بها.. تريد أن تغير أحوال حياتنا كلها.. تريد أن تضبط وتحكم تفاعلات جوارحنا ومعاملاتنا في سائر جوانب حياتنا.

 

وذلكم ما لعله اليوم يقال في ديار الإسلام وبألسنة بعضٍ, من أبناء الإسلام لماذا لا نأخذ النظريات الاقتصادية من الشرق لماذا لا نأخذ النظم السياسية من الغرب لماذا لا نستفيد في جوانب الحياة الاجتماعية من هنا أو هناك كأننا فقراء لا منهج عندنا كأننا أمة مبتوتة لا تاريخ لها كأنه ليس بين أيدينا النور التام الذي تبحث عنه البشرية في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -!

 

لقد أصبحنا اليوم نسمع عن الديمقراطية والحرية واقتصاديات السوق وغيرها من المصطلحات، ما لم نعد نسمع له ذكر لآيةٍ, من كتاب الله أو حديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو صفحة مشرقة من صفحاتٍ, كثيرةٍ, مليء بها تاريخنا الذي رسم الحياة الإنسانية على القاعدة الإيمانية وفي ضلال الشريعة الإسلامية، فأتى بالتقدم والرخاء الاقتصادي وأتى بالعدالة السياسية والقضائية، وأتى حينئذٍ, بأحسن الظروف والأحوال الاجتماعية، وأقام فوق ذلك حضارة مدنية وتقدماً علمياً ما تزال أمم اليوم تعود نهضتها إليه، ويرجع مبتدأها إليه، فأين أمة الإسلام عن حقيقة الإصلاح في جوهر المنهج القرآني والرباني؟

 

ثم استمعوا معي إلى ما قاله شعيب - عليه السلام - في هذه الكلمات التي يؤسس القواعد مع ما سبق أن ذكرناه من قاعدة الإيمان، وحسن الاعتقاد وصحته وقاعدة الاستقامة وكمال الالتزام بشريعة الله - عز وجل -

قال - عليه السلام - عندما ردوا عليه بهذا الرد قال: {قَالَ يَا قَومِ أَرَأَيتُم إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ, مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنهُ رِزقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَن أُخَالِفَكُم إِلَى مَا أَنهَاكُم عَنهُ إِن أُرِيدُ إِلاَّ الإِصلاَحَ مَا استَطَعتُ وَمَا تَوفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيهِ أُنِيبُ}.

في هذه الآيات منهج لكل مصلح منهج شامل.. ما الذي ينبغي أن يكون عليه في تكوين ذاته ونفسه؟ ما الذي يجب عليه في حسن عرضه ودعوته؟ ما الذي ينتهي ويرتكز عليه في قدرته ومواصلته؟

 

استمعوا إلى هذه الآيات.. استمعوا إليها بالقلوب والعقول استماع فيه التدبر والتأمل وهو يقول: {أَرَأَيتُم إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ, مِّن رَّبِّي}.

أول أمرٍ, - أيها المؤمنون المسلمون - لا بد أن نكون على بينةٍ, من أمرنا، وعلى بينةٍ, من ديننا، وعلى بينةٍ, من نهجنا.. لا بد أن نعرف حقائق إيماننا وشرائع إسلامنا، أن نعرف ما يثار من الشبهات، أن نكون على بصيرة لا بد أن نعرف المنهج الإسلامي معرفة صحيحة من أصوله الصافية ومنابعه العذبةº لأن هذا هو الذي يجعل لنا النور الذي نكشف به صور الانحراف والخلل وهذا هو الذي يثبت المصلح.

 

أما المصلح إذا لم يكن على بينةٍ, من ربه وعلى معرفةٍ, من نهجه، فربما اضطرب أو تشكك! وربما تراجع وتقهقر! وربما وافق وداهن أو جامل فيما لا ينبغي أن يكون خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه المفاسد والأطروحات والضغوطات المختلفة، حتى صار الناس يدعون أمور ليست من الإسلام وينسبونها إليهº لأنهم ليسوا على بينةٍ, من ربهم.

 

وهذه أول أمرٍ, ينبغي للمؤمن والمصلح والداعية والعالم وكل فاعل خير في هذه الأمة أن يتزود به وأن يتحصن به، قال - تعالى -: {قل إني على بينةٍ, من ربي وكذبتم به}

حتى وإن كذبت الدنيا كلها وإن صارت وسائل الإعلام تصك آذاننا كل يوم بمذاهب وضعيةٍ, بشريةº فإننا نقول: \" إنا على بينة من ربنا \".

{وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به}، كانوا يقولون أين أثر ذلك أين النتيجة لذلك واليوم يقول بعض المسلمين: أين أثر القرآن؟ وأين أثر الإيمان؟ وأين أثر شواهد الإسلام؟ هل يمكن أن تطبق في واقع الحياة اليوم؟ إن هذا التشكك لا يزيله إلا يقين راسخ ومعرفة تامة وبينة واضحة في منهج الإسلام.

 

{قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين}

ثم قال شعيب - عليه السلام -: {ورزقني منه رزق حسنا}، قال أهل التفسير: \" قصد النبوة أو الرزق الحلال \"، قال ابن كثير: \" أي أخذت بالحلال ما كان موافق لشرع الله، وتركت ما كان من الحرام مخالف لأمر الله \".

فالاستقامة هنا بعد وضوح المنهج، إن كل مصلحٍ, لا بد أن يكون قدوة لغيره، لا بد أن يكون مسابق لكل خيرٍ, يدعو إليه، لا بد أن يكون مجتنب لكل سوء أو شرٍ, يحذر منه، لا بد أن يكون قدوة تتعلق بها القلوب، وتتأثر بها النفوس، وتكون أنموذجاً يقتفى، وأسوة تحتذى.. هذه معالم مهمة في الإصلاح. ما بال كثيرٍ, من أهل الإصلاح يقولون مالا يفعلون، ويدعون إلى ما عنه يتخلفون؟

هذه قضية مهمة.

 

ومن هنا أتبعها فقال: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه}

إن أعظم أثر سلبيٍ, لدعوة الإصلاح أن يكون الداعي إليها أول مخالفٍ, لها! كيف نقول: إننا ننطلق من ثوابتنا ونحن نستورد من غيرنا؟ كيف يقول ذلك المصلح أنه يريد خير وطنه وبلاده، وقلبه وفكره في خارجها؟ كيف يدعي أنه يريد الإصلاح كما ينبغي أن يكون عليه الإصلاح وهو يتلقى توجيهاته أو إرشاداته أو نظرياته أو أفكاره ممن ليسوا على دينه، ولا على ملته، وليسوا من دياره، ولا من بلاده، ولا من غير ذلك من أمورٍ, كثيرة نراها نسمع عنها؟

 

ثم كذلك {ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} سواء كان ذلك في السر أو كان في العلن!

ذكر ابن كثيرٍ, في تفسيره عند هذه الآية: \" أي لا أنهاكم عن الشيء وأخالف أنا في السر فأفعله خفية عنكم \"، وقال قتادة: \" لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه \".

 

ثم قال: {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}

وهذه قاعدة إصلاحية مهمة قاعدة الإخلاص والتجرد عن المصالح الذاتية.. قاعدة الارتباط بتغليب المصالح العامة للأمة.

إن الداعية المصلح لا يريد شيئا لنفسه، لا يريد حظاً لدنياه،. لا يريد شيئا يتصل به أو بجماعته أو بقبيلته أو بفئته..

إن المصلح الحق إنما يريد وجه الله أولاً، وخير أمته وأبناء أمته ثانياً.. لا يوجهه لذلك مصلحة ن ولا يرده عن ذلك مفسدة، لا يدعوه إلى ذلك مغنم، ولا يصده عن ذلك مغرم، إنما أساسه الإصلاح ورغبته، الإصلاح إرادته الجازمة وغايته الواضحة قال - تعالى -: {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}

 

وقضية الإصلاح والتغيير قضية ليست سهلةº ومن هنا جاء قوله - عليه السلام -: {وما توفيقي إلا بالله}

إنه لا يمكن أن تحقق دعوة إصلاحية أثرها إلا بتوفيق الله - عز وجل -، ولا يستدعى هذا التوفيق ولا يستجلب إلا بالإخلاص لله - عز وجل -، وكمال التجرد له، والرغبة في خير هذه الأمة وإصلاحها وتقديم الخير لها.

 

{وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} فلا اعتماد إلا عليه ولا رجوع إلا إليه، قال السعدي في تفسيره في هذه الكلمات القرآنية الربانية العظيمة: \" وبهذين الأمرين تستقيم أحوال العبد وهما: الإستعانة بربه، والإنابة إليه، كما قال - تعالى -: {فاعبده وتوكل عليه}، وكما قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} \".

فإن انطلقنا في دعوتنا للإصلاح مستعينين بالله مستحضرين رجوعنا إليه فذلك هو النهج القويم الذي ترجمته لنا آيات القرآن.

نسأل الله - عز وجل - أن يصلح فساد قلوبنا ونفوسنا.

 

الخطبة الثانية:

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى اللهº فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.

وإن من تقوى الله - عز وجل - الارتباط بمنهجه وبإرشاده وتوجيهه فيما جاء في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في إصلاح أحوال العباد والبلاد، التي نسأل الله - عز وجل - أن يمنّ بها علينا وعلى بلادنا بلاد الحرمين الشريفين، ونسأله - سبحانه وتعالى- أن يبصرنا بنهج القويم والصراط المستقيم، وأن يدرأ عنا الفتن والمحن والأغاريق والأباطيل إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

ووموضات الإصلاح في القرآن كثيرة.. ولئن وقفنا مع هذه الآيات القليلات من جزءٍ, من قصة شعيب - عليه السلام -º فإنما وراء ذلك أكثر وأظهر، ولنا عنه أحاديث لاحقة - إن شاء الله - غير أني أورد هنا ما ذكره ابن كثيرٍ, في تفسيره لهذه الآياتº لما له من دلالةٍ, مهمةٍ, عندما روى حديث عن أبي حميدٍ, وأبي أسيدٍ, - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين به أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه قريب منكم فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه بعيد منكم فأنا أبعدكم منه) رواه الإمام أحمد في إسنادٍ, صحيحٍ, كما ذكره ابن كثير.

 

وسياق هذا الحديث في هذه الآيات دلالة على مسألةٍ, مهمة:

إن دعوة الإصلاح ترتبط بالداعي إليها، فإذا نظرنا إلى الداعي وأحواله فغلبت أحوال الخير عليه، فلم نعرفه إلا من أهل الصلاح والتقى ولم نعرف له من المواقف إلا مواقف الخير والإصلاح، ولم نسمع له من الكلمات إلا كلمات البر والإحسان، ولم نرى له من الأفعال إلا أفعال النجدة والإغاثة والإصلاح، فحينئذٍ, قد جاء الشيء من معدنه فنقبله، أما إن كانت الأخرىº فإن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - يشير إلى ذلك.

 

إن كان ما نراه ونسمعه من دعوةٍ, للإصلاح بتاريخٍ, نعمله على غير الإصلاح في أقوالٍ, وأفعالٍ, وأحوالٍ, وعلاقات، فينبغي أن لا يضرنا حسن القول، وننسى مثل هذه القاعدة المهمة على أن حسن الظن - وهو مطلوب من المسلم والمسلمين جميعاً - لا ينبغي أن يكون نوع من الغفلة والسجادة التي تضيع بها المصالحº فإن الأمور تنتظم أوائلها مع أواخرها، وتدل أواخرها على أوائلها، وهذه مسألة مهمة، وثمة ومضاتٍ, كثيرةٍ, لا يتسع لها المقام أذكر بعضاً منهاº ليكون لنا عنه حديث آخر بإذن الله - عز وجل -.

 

أول ذلك: أن التوفيق الرباني مقرون بالدعوة الإصلاحية بإذن الله

فالإصلاح قرين هذا التوفيق، كما قال - عز وجل - في شأن الخلاف بين الزوجين والإصلاح بينهما: {إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما}، أي إن صلحت وخلصت النية للإصلاح جرى بإذن الله - عز وجل - التوفيق.

ثانياً: دعوة الإصلاح كذلك لها أثر مهم في الأمن والأمان من الهلاك

قال - تعالى -: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيةٍ, ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين * وما كان ربك ليهلك القرى بظلمٍ, وأهلها مصلحون}، لم يقل صالحون بل مصلحون!

إذا كان الصلاح والإصلاح في الأمة ساريا، فذلك من أسباب درء العذاب عنها بإذنه - جل وعلا -.

والأساس الأول هو الارتباط بالله كما قال الحق - جل وعلا -: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم * والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم}.

قال ابن كثيرٍ, في نقله عن المفسرين: \" أصلح بالهم، أي شأنهم أو حالهم أو أمرهم \".

وقال السعدي: \" أصلح دينهم ودنياهم وقلوبهم وأعمالهم، وأصلح ثوابهم بتنميته وتزكيةٍ, وأصلح جميع أحوالهم \".

نسأل الله - عز وجل - أن يصلح أحوالنا، وأن يصلح قلوبنا ونفوسنا، وأن يرشد عقولنا وأفكارنا..

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply