بسم الله الرحمن الرحيم
الاستقامة في حياة الإنسان.. والشاب:
وثمّة أمر مهم هو أنّ الاستقامة يجب أن تبدأ في المراحل الأولى من حياة الإنسان المسلم، يستقي ماءها العذب من البيت، ومن المسجد، ومن شيخ ثقة مخلص، ومن صديق مستقيم، وإذا ما تأخّر المرء في اكتساب الاستقامة والتّحقّق بها إلى أن صَلُب عُودُهُ كان الأمر بعد ذلك أشدّ، وكان التزام الاستقامة أصعب.
الاستقامة كلمة خفيفة على اللسان، ثقيلة في الميزان، أمّا تطبيقها فيحتاج إلى توفيق وعزيمة. ويَنعَمُ من أكرمه الله - تعالى - بالتحقق بها براحة البال، وطمأنينة القلب، وسكينة النّفس، وحسن المآلº لا يخاف مما يخافه الناس، ولا يحزن يوم العرض. كيف لا، وهو واثق من أنّه يؤدّي ما عليه، ويبتعد عمّا نُهي عنه، وعمّا يُعاب ويذمّ لأجله، فليس عنده ما يستحي منه فيما لو ظهر وبان.
إنّ الاستقامة حقّاً راحة وسكينة وطمأنينة، ومما يُسعد صاحبها شُعُورُه بنشوة الانتصار على النّفس الأمارة بعد أن يلجمها عن القبائح، ويسوقها إلى الطاعات والمكارم، ثمّ يبقى معها كذلك يحملها على الخير، من غير فتور ولا كلل، إلى أن يلقى الله وهو في جهاده ومكابدته.
هذا سفيان بن عبد الله – رضي الله عنه- يقول لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك. قال – صلى الله عليه وسلم - : \"قُل آمنتُ باللهِ ثمَّ استقم\". أخرجه مسلم وغيره.
إنّ سفيان – رضي الله عنه - يُريد كلمات جامعة، وقولاً يستغني به عن الأسئلة الكثيرة، يُريد عبارة تختصر الأمر وتلخّصه، فيكون الجواب تلك الإضاءة النّبوية العظيمة: \"قل آمنت بالله ثمّ استقم\" أليس هذا وحده دليلاً على عُلوِّ مكانة الاستقامة ورفيع منزلتها؟.
إنّ الاستقامة إقامة على ما يرضي الله - تعالى - وملازمة السير على الطريق المستقيم الذي جاء به سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً، سرّاً وعلناً، من غير غشّ ولا خداع ولا مواربة، وهذا شي صعب على النّفس البشرية الأمارة بالسّوء إذ تعتريها أحوال شتّى من نشاط وإقبال على الطاعات، وفتور.
ولابدّ لإلزام النّفس بالسير في الطريق المستقيم، من يقظة وانتباه، وجهد وجهاد، وشيء من المشقّة.
فلا عجب بعد هذا أن يُثني ربنا - عزّ وجل - على الذين استقاموا في أكثر من آية من كتابه. من ذلك قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبٌّنَا اللَّهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُم تُوعَدُونَ. نَحنُ أَولِيَاؤُكُم فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُم فِيهَا مَا تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نُزُلاً مِن غَفُورٍ, رَحِيمٍ,} (فصلت:30-32).
قال الزّهري: تلا عمر – رضي الله عنه- هذه الآية على المنبر ثمّ قال: \"استقاموا واللهِ لله بطاعته ولم يرُوغوا رَوغَان الثعالب\". فهي إذاً استقامة صافية لا كدر فيها، وصدق في الاستقامة لا تشوبه ذرّة زَيف.
ورحم الله الشّهيد صاحب الظّلال، فبعد أن بيّن أنّ قوله - تعالى -: {رَبٌّنَا اللَّهُ} هو منهج حياة كامل يشمل كلّ حركة وكلّ نشاط ويُقيم ميزاناً للتفكير والشعور وللناس والأشياء والأعمال والأحداث وللروابط والوشائج على امتداد الحية وسعتها قال:
ربنا الله، فله العبادة وإليه الاتجاه ومنه الخشية وعليه الاعتماد.
ربنا الله، فلا حساب لأحد ولا لشيء سواه، ولا خوف ولا تطلّع لمن عداه.
ربنا الله، فكلّ نشاط وكلّ تفكير وكلّ تقدير متّجه إليه، منظور فيه إلى رضاه.
ربنا الله، فلا احتكام إلاّ إليه ولا سلطان إلاّ لشريعته، ولا اهتداء إلاّ بهداه.
ربنا الله، فكلّ من في الوجود، وكلّ ما في الوجود، مرتبط بنا في صلتنا بالله.
ربنا الله، منهج كامل على هذا النّحو، لا كلمة تلفظها الشفاه، ولا عقيدة سلبية بعيدة عن واقع الحياة.
{ ثُمَّ استَقَامُوا} وهذه أخرى، فالاستقامة والاطراد والثبات على هذا المنهج، درجة بعد اتخاذ المنهج. استقامة النفس وطمأنينة القلب. استقامة المشاعر والخوالج، فلا تتأرجح ولا تضطرب، ولا تشك ولا ترتاب بفعل الجواذب والدوافع والمؤثرات، وهي عنيفة ومتنوعة وكثيرة، واستقامة العمل والسلوك على المنهج المختار، وفي الطريق مزالق وأشواك ومعوّقات، وفيه هواتف بالانحراف من هنا وهناك.
ربنا الله منهج، والاستقامة عليه درجة بعد معرفته واختياره. والذين يَقسِمُ الله لهم المعرفة والاستقامة هم الصفوة المختارة } فَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ { (البقرة:38). وفيم الخوف والحزن، والمنهج واصل، والاستقامة عليه ضمان الوصول.
وميدان الاستقامة واسع شامل لا يدع شيئاً من حياة الناس، من بيت ومدرسة ومعمل وطريق وتجارة، وعلاقة زوجية، ورابطة أخوية، ودراسة جامعية وشباب وشيخوخة.
والاستقامة نتيجة أكيدة لإيمان عميق لمقتضيات هذا الإيمان، يُعين المرء على التّغلّب على هواتف الانحراف وتجاوز معيقات السير ومقاومة الإغراءات مهما بلغ بريقها وسحرها.
ومعدن الاستقامة القلوب والنّفوس، ومنها تفيض على الجوارح فإذا هي ماضية على السبيل القويم، من غير ميل ولا اعوجاج. فإذا نضب قلب من هذا المعنى العذب، أقفرت الجوارح من الاستقامة، وانفلتت بلا ضابط، ولا كابح.
وثمّة أمر مهم هو أنّ الاستقامة يجب أن تبدأ في المراحل الأولى من حياة الإنسان المسلم، يستقي ماءها العذب من البيت، ومن المسجد، ومن شيخ ثقة مخلص، ومن صديق مستقيم، وإذا ما تأخّر المرء في اكتساب الاستقامة والتّحقّق بها إلى أن صَلُب عُودُهُ كان الأمر بعد ذلك أشدّ، وكان التزام الاستقامة أصعب.
ومن هنا جاء الثناء وبيانُ الثواب في الحديث الشريف للشاب الذي ينشأ في طاعة الله وعبادتِهِ فيبدأ حياتَه مستقيماً، إذ أن من شبّ على شيءٍ, شاب عليه. والعلم في الصّغر كالنّقش على الحجر.
ويؤكد الرسول – صلى الله عليه وسلم - أنّ على المرء أن يغتنم مرحلة الشّباب، وذلك قوله – صلى الله عليه وسلم - : \"اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحّتك قبل سقمِكَ، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمِك، وغناك قبل فقرك\" رواه الحاكم وصحّحه.
فالشّاب أقدر على الطاعة وأعبائها، واكتسابُ الأخلاق في سنّ مبكرة أيسر وأسهل، وأرسخ وأثبت.
وقد ذكرت الآيات الكريمة نوعين من الثواب لأهل الاستقامة، دنيوي وأخروي: {نَحنُ أَولِيَاؤُكُم فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُم فِيهَا مَا تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (فصلت:31).
وقد أجاد أئمّة التفسير في تجلية جوانب الثواب بنوعيه، ويبقى في الآية متّسع لمعانٍ, أخرى، فهذا الكتاب العظيم لا يَخلَقُ على كثرة الردّ ولا تنقضي عجائبه.
قال النّسفي: \"كما أنّ الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم، فكذلك الملائكة أولياء المتّقين وأحباؤهم في الدّارين\".
وقال ابن كثير: \"أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار: نحن أولياؤكم أي قرناؤكم في الحياة الدنيا، نسدّدكم ونوفّقكم ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة. نؤنس منكم الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصّور، ونؤمِّنكم يوم البعث والنّشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم ونوصلكم إلى جنات النعيم\".
وكم يخسر من يُسوّف ويؤخِّر العمل بالاستقامة بعد أن تخدعه نفسه أو يخدعه شيطانه بأن ذلك سيكون بعد أن يكبر ويُجاوز المراحل الأولى من حياته؟!
وماذا يخسر؟ يخسر الثواب العظيم الذي أعدّه الله لمن ينشأ في طاعة الله.
ويخسر لأنّ يد المنون قد تخطفه، وتعاجله المنية قبل أن يكبر ويلقى الله على تلك الحال، بعيداً عن الطريق السّوي الذي يُرضي الله، وعن معين الاستقامة العذب.
ويخسر إذ أنه سيُعاني كثيراً من الشدّة حتّى يتمكّن من إلزام نفسه الاستقامة، هذه النفس التي ألِفَت غير ذلك.
ويخسر الحياة المطمئنّة السعيدة في ظلّ الاستقامة!
ويخسر سمعته وما أثمنها! فقد عرف أصحابه ومعارفه القريبون منه، ما لا يرضي من سلوكه، سواء في المرحلة الجامعية أو قبل ذلك، عرفوا عنه الانحراف والسلوك السيّئ في علاقاته مع الفتيات مثلاً، أو أنّه يدخّن مثلاً، أو يتفرّج على ما يُستحيى منه في التلفاز والإنترنت، أو يصحب رفاق السّوء، أو يقصّر في واجباته الدينية والدراسية.
وبالمناسبة فكثيراً ما يقترن الانحراف في السلوك مع التخلّف في الدراسة!
وتدور الأيام ويتخرّج هذا الشاب في الجامعة وقد آن أوان الانتقال إلى ميدان العمل ليبني نفسه ويتزوّج بعد ذلك.
ويظنّ هذا الشاب أن الناس لا يعنيهم ما كان منه في الأيام الماضية، أو أنّ تلك الصفحات قد طويت ولم تعد ذات شأن.
ويُصاب هذا الشاب بالصدمة الأولى، عندما يبدأ البحث عن عمل، فَرَبٌّ العمل يسأل عن سلوكه، فيحصل على مِلَفٍ, فيه ما يؤذي، فيرفض أن يعمل عنده مَن له ماضٍ, كهذا، وربما تكرر ذلك في أكثر من مجال من مجالات العمل.
ثمّ تأتي صدمة أخرى ربما كانت أعنف وأقسى عندما يُريد الزواج، ويتقدّم لخطبة فتاة، وما من عاقل يزوّج ابنته إلاّ بعد أن يعرف حقيقة الشاب ويستوثق من نظافة سلوكه وطهارة قلبه وماضيه، وينفتح الملف ويعود الماضي حيّاً، ويرفض أهل الفتاة الشاب. وأيضاً ربما تكرر الرّفض مرات كثيرة.
أليس فيما مرّ أدلّة واضحة على أهمية الاستقامة في الدنيا والآخرة؟!
ولله درّ من قال: \"الاستقامة عين الكرامة\".
نعم الاستقامة هي الكرامة، وطوبى لمن أعانه الله عليها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد