فإنَّ الاستِقامة على أَمَر الله غَايةٌ جليلة، وَهَدَفٌ في هذه الحياة ينبغي لِكُلِّ مُسلم أن يسعى إليه، فإنَّ مِن رَحمَة الله -تعالى- أَنَّه يَأمُرنا بالأمر ويبيِّن لنا كيفية الامتثال به.
فيقول الله - تعالى -: ((فاستَقِم كَمَا أُمِرتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطغَوا إِنَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلاَ تَركَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن أَولِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ)) [هود: 112-113].
هذا الأمر مُرَتَّبٌ على ما قبله ((وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُم رَبٌّكَ أَعمَالَهُم إِنَّهُ بِمَا يَعمَلُونَ خَبِيرٌ)) [هود: 111].
كلٌ سَيُوَفَّى عَمَلَهُ، الأخيار والأشرار.
إذًا: فهذا يقتضي أن يأخذ الإنسان بسبب السعادة والفلاح، كلٌ سَيُوَفَّى عمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فمن أراد لنفسه النجاة فهذا هو سبيلها، وهي الاستقامة على أمر الله وهي طريق السعادة والفلاح والفوز.
وقوله - تعالى -: ((فاستَقِم كَمَا أُمِرتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ))الأمر هنا للنبي أولاً ، ثم لأتباعه ((وَمَن تَابَ مَعَكَ)) إي: ومن آمن معك بأن تابوا من الشرك فأمنوا بالله ورسوله وصاروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنين به وبما جاء به.
إذًا فالموضوع الأساسي هو: الاستقامة، حقيقتها، أسبابها، آثارها
أولاً: تعريف الاستقامة
الاستقامة في اللغة ([1]): ضد الاعوجاج والانحراف فالشَّيء المستقيم هو المعتدل الذي لا اعوجاج فيه، وهذا يأتي في الحسيات، تقول: هذا طريق مستقيم و هذا طريق مُعوَجُّ.
الاستقامة في الشرع: التي أمر الله بها نبيه والمؤمنين، كما في الآيةالمتقدمة وهي وصيَّة النبي r للذي قال له: ((قُل لِي فِي الإِسلَامِ قَولًا لَا أَسأَلُ عَنهُ أَحَدًا بَعدَكَ؟ قَالَ: قُل آمَنتُ بِاللَّهِ ثم استَقِم))([2]).
ثانيًا: فضل الاستقامة
قد ذكر الله -تعالى- فضل الاستقامة، وأنها سبيل السعادة في غير ما موضع من كتابه:
قال - تعالى -: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبٌّنَا اللَّهُ ثُمَّ استَقَامُوا فَلَا خَوفٌ عَلَيهِم وَلَا هُم يَحزَنُونَ. أُولَئِكَ أَصحَابُ الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ)) [الأحقاف: 13-14].
فالله - تعالى -قد أثنى على أهل الاستقامة، وَوَعَدَهُم بالأجر الجزيل.
وقال: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبٌّنَا اللَّهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُم تُوعَدُونَ)) [فصلت: 30].
قال الله - تعالى -: ((فَاستَقِم كَمَا أُمِرتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ)). الأمر هنا للنبي أولًا، ثم لأتباعه، ((وَمَن تَابَ مَعَكَ)).
أَي: ومن آمن معكº بأن تابوا من الشرك، فآمنوا بالله ورسوله، وصاروا مع النبي r مؤمنين به، وبما جاء به.
ثالثًا: حقيقة الاستقامة
الاستقامة تتضمن في الشرع أمرين:
1- السَّير على الطريق.
2- الاستمرار و الثبات عليه حتى الممات.
فالأول: السير على الطريق:
وهذا المعنى يُفَسِّرُهُ قوله - تعالى -: ((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)) [آل عمران: 102].
اتقوه حق التقوى بحسب الاستطاعة، قال - تعالى -: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا استَطَعتُم)) [التغابن: 16].
والثاني: الاستمرار والثبات عليه حتى الممات:
وذلك في قوله - تعالى -: ((وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مٌّسلِمُونَ)) [آل عمران: 102].
فهذا يتضمن الأمر بالدوام والاستمرار.
والمعنى: استقيموا واثبتوا على التقوى حتى يأتيكم الموت وأنتم على ذلك، كما في الحديث الصحيح: ((مَن أَحَبَّ أَن يُزَحزَحَ عَن النَّارِ وَيَدخُلَ الجَنَّةَ فلتأته مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَيَأتِي إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبٌّ أَن يُؤتَى إِلَيهِ)) ([3]).
رابعًا: ما تتحقق به الاستقامة
وتتحقق الاستقامة بأمور:
الأول: أداء الفرائض والواجبات.
وهذه الفرائض والواجبات التي فرضها الله على عباده على مراتب:
أولًا: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فالتوحيد هو أوجب الواجبات، وأعظم الحسنات، وأفضل الطاعات، وهو أول ما أمر الله به عباده، وهو حقه عليهم، وهو مفتاح دعوة الرسل، وتحقيق ذلك بعبادة الله وحده لا شريك له وإخلاص الدين له ويتبع ذلك تحقيق متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك مقتضى الشهادتين.
ثانيًا: الصلوات الخمس: وهي قرينة التوحيد في الكتاب والسٌّنَّة.
ثالثاً: الزكاة، والصيام، الحج، هذه أركان الإسلام.
رابعاً: الواجبات الأخرى كـ\"الجهاد في سبيل الله، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحقوق العباد\" كلها تدخل في الفرائض، فتكون مما يتحقق الاستقامة.
إذًا: الاستقامة إنما تتحقق بأداء حقوق الله، وحقوق العباد.
الأمر الثاني مما يحقق الاستقامة: النَّوافل.
ولاشك أَنَّ المُحَافَظَة عَلى النَّوافل مِن كمال الاستقامة، ومِن حكمة الله أَن شَرَّع لعباده نوافل الطاعات في جميع العبادات \"الصلاة، الصدقة، الصيام، الحج\" وسائر الطاعات التي فرضها الله على عباده، شرع من جنسها ما هو تطوع.
الثالث: اجتناب المحرمات.
واجتناب المحرمات يكون بامتثال المأمورات، واجتناب المحظورات، فالتوحيد مثلاً- لابد فيه مِن تَرك الشِّرك، والشِّرك أعظم الذنوب، وتأتي بعده كبائر الذنوب، وتأتي بعده ذنوب على مراتبها في القبح والتحريم التي لابد من تَوَقِّيها لتحقيق الاستقامة.
ويدخل في الاستقامة ترك الحرام البَيِّن، وترك المتشابه! كما قال - صلى الله عليه وسلم - ((إن الحلال بين وإن الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لَا يَعلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ، فَمَن اتَّقَى الشٌّبُهَاتِ استَبرَأَ لِدِينِهِ وَعِرضِهِ، وَمَن وَقَعَ فِي الشٌّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ))([4]).
كثيرٌ مِن النَّاس لا يبالي إذا لم يكن الشيء من الحرام البَيِّن، وممن يُقَال فِيهِ إِنَّ هذا حرام، أو يُفتَى بِأَنَّه حرام فَإِنَّه لَا يَدَعَهُ!!
وهذا ينبئ عن ضعف الإيمان وضعف التقوى.
فإن صحيح الإيمان، وصحيح التقوى هو مَن تَجَنَّب الحرام، واتقى الوقوع في الشبهات، فضلًا عن الوقوع في الحرامº فاجتناب الذرائع، وما يُقَرِّبُ إلى الحرام مطلوب ((فَمَن اتَّقَى الشٌّبُهَاتِ استَبرَأَ لِدِينِهِ وَعِرضِهِ، وَمَن وَقَعَ فِي الشٌّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ))([5]).
الرابع: ترك المكروهات وترك فضول المباحات.
بعد ما علمنا أن حقيقة الاستقامة تشمل امتثال جميع المأمورات، واجتناب جميع المحرَّمات، ومن كمالها أداء النوافل، وهي أيضًا على مراتب في الفضل وفي التأكد، أيضًا من كمالها ترك المكروهات، وترك فضول المباحات.
إذًا: أهل الاستقامة ليسوا على مرتبة واحدة، فيهم المقربون، وفيهم المقتصدون، وهم لا يخرجون عن وصف الاستقامة، أما الظالمون لأنفسهم فإنهم ليسوا من أهل الاستقامة المطلقةº لأنهم مُخَلِّطون ((خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً)) [التوبة: 102].
فلم يكونوا مستقيمين الاستقامة التي أمر الله بها، عندهم تفريط، وبهذا نعلم أن الاستقامة تتفاوت، ويتفاضل فيها أهلها.
الخامس: الاستمرار على طريق الاستقامة حتى الموت.
فمن المعلوم أن كثيراً من الناس ممن يسير على طريق طالباً لأمر يستطيل الطريق فلا يطيق السير وأضرب لهذا مثلاً في السير على الطريق الحسي فمن المعلوم قد ينطلق جَمعٌ كثيرٌ من الناس للوصول إلى مطالب وحظوظ، فمنهم من يكون عنده صدق في الطلب، وعزم صادق، وعنده يقين بحصول المطلوب، وهو من مطالب الحياة، ومنهم من يكون ضعيف فيتقاعس، وربما رجع من الطريق، وربما سار ببطء، فمِن مفهوم الاستقامة التي أمرنا الله بها، وأثنى بها على المؤمنين الثبات والدوام إلى الممات، فالذي آمن، وسار على الطريق، ثم انحرف يمينًا، أو شمالًا بإفراط، أو تفريط، أو رجع فما استقام، لابد لتحقق الاستقامة من الاستمرارº لأن من تراجع لا يصل إلى مطلوبه، ولهذا أكَّد الله هذا بقوله: ((وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مٌّسلِمُونَ))، وفي الحديث، ((فَلتُدرِكهُ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ))([6]).
بما يشتمل عليه اسم الإيمان من الأفعال أو التروك.
السادس: عدم الانحراف:
وتتضمن الاستقامة أيضًا-وهو مما يدخل في السير على الطريق- عدم الانحراف.
والانحراف: خلاف الاستقامة.
والانحراف في طريق الدين: إما أن يكون إلى إفراط أو إلى تفريط، وإما أن يكون هناك تجاوز لحدود الله \"غلو، طغيان\" وإما تفريط، وتقاعس، وتراجع، وانحراف.
فأما الإفراط: فإنه يكون بتعدي حدود الله، قال - تعالى -: ((تلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعتَدُوهَا)) [البقرة: 229].
هذا في الأوامر، ولا تتعدى المباح، ولا تتجاوز ما شَرَعَ الله إلى الغلو والابتداع في الدين.
ومن الإفراط: الغلو في الدين في كل شرائعه، لابد من الوقوف عند الحدود، ((تلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعتَدُوهَا)) [البقرة: 229].
وأيضًا: قال ((تِلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقرَبُوهَا)) [البقرة: 187].
فالقُرب من حدوده التي نهانا عنها تفريط، وتعدِّي الحدود إفراط، وكلاهما خلاف الاستقامة.
فالاستقامة تقتضي الوقوف عند حدود الله التي أذن فيها من واجب، ومستحب، ومباح، وَتَجنٌّب الحدود التي نهى الله عنها، فنهى عن القرب منها.
إذًا: السَّير إلى الله لابد أن يكون في الطريق الوسط، وهو الذي يُسمَّى في النصوص الصراط.
ما هو الصراط؟
الصراط: هو دين الله، هو الإسلام، هو القرآن.
دين الله هو الصراط الذي نَصَبَهُ الله للعباد طريقًا يسيرون عليه إليه I.
فالعبد في ضرورة إلى هداية الله، وهدايةُ الله لهذا الصراط يتضمن الاستقامة ((اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ))[الفاتحة:6].
اهدنا: أَوجَبَ الله علينا أن نستهديه الصراط في كل ركعة، ((اهدِنَا)) هذا أوجب وأفضل وأنفع دعاء.
الهداية هنا تشمل نوعين:
1- هداية الدلالة والإرشاد.
2- هداية التوفيق، وهداية التوفيق تتضمن الثبات على الطريق.
----------------------------------------
[1]) انظر: التعريفات للجرجاني ص37.
[2]) [صحيح] أخرجه مسلم (38)، وأحمد في المسند (3 / 413) من حديث سفيان عبد الله الثقفي- رضي الله عنه-.
[3])[صحيح] أخرجه أحمد في المسند (2 / 191) من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- ومسلم.
[4])[صحيح] أخرجه البخاري (52)، ومسلم واللفظ له - (1599) من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-.
[5])[صحيح] تقدم قبله من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-.
[6])[صحيح] تقدم من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه-.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد