غفر الله لي .. غفر الله لك !


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

جاء رجل إلى علي بن الحسين بن علي - رضي الله عنهم - أجمعين - فقال له: إن فلاناً قد آذاك، ووقع فيك. فما كان منه إلا أن قال للرجل: انطلق بنا إليه، فانطلق معه، وهو يرى أنه سينتصر لنفسه، ويقتص منه، ويرد له الصاع صاعين.. وما أكثر الذين يحبون هذا.. غير أن الذي حدث خيب ظن الساعي، وأفشل مسعاه.. فلما أتى القائل قال له: «يا هذا إن كان ما قلت فيّ حقاً، فغفر الله لي.. وإن كان ما قلت فيّ باطلاً فغفر الله لك».

 

عليّ هذا جاءه يوماً حسن بن حسن، وكان بينهما بعض الأمر، وهو جالس مع أصحابه في المسجد، فما ترك شيئاً إلا قاله له. يقول أبو يعقوب المدني، راوي الحادثة التي يذكرها ابن الجوزي - رحمه الله - في كتابه القيم «صفة الصفوة»: وعليّ ساكت.

 

وانظر هنا إلى فضيلة السكوت، وعظمة السكوت، بل بلاء السكوت، أن تملك نفسك، وتحبس لسانك، في هذا الموطن الرهيب، هو والله الامتحان الأصعب، والدلالة العظمى، والعلامة الكبرى.. التي تكشف عن المعادن الأصيلة، والتربية الربانية.. نعم لقد سكت، أمام سيل الاتهامات الجارف، والشتائم اللاذعة التي لم تقو على جرفه، أو زحزحته عن سكونه وهدوئه.. فلم تحركه هذه الاتهامات، ولم تستفزه الخصومة، ولم ينتقم لنفسه، وصبر على ظلم أخيه.. فلم ينتصر لنفسه.. ليس هذا وحسب.. بل انظر إليه مرة أخرى، حين يختار الليل لحسن الصنيع، كي يستره، ويحفظه من الرياء والسمعة.. فلما كان الليل، أتى علي هذا الرجل في منزله، فقرع عليه بابه، فخرج إليه، فقال له: يا أخي، إن كنت صادقاً فيما قلت لي فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك.. السلام عليكم. وولى..

 

فما كان من الرجل إلا تبعه، والتزمه من خلفه، وأخذ يبكي، ويقول: لا جرم لا عدت في أمر تكرهه.. فقال له علي: وأنت في حل مما قلت لي.

 

تأمل معي هذا الموقف الكبير، في دلالاته، وفي ألفاظه.. وفي معانيه الكبيرة..

تأمل وتفكر.. ولك أن تتعجب.. ولا بأس في ذلك، فقد غابت هذه المعاني، وفقدت هذه المواقف، ووئدت هذه النفوس الكبيرة، وتلاشت هذه الظلال الرائعة.. لتحل محلها الشحناء والبغضاء والكراهية، وحب الانتقام.. نعم، حب الانتقام.. فما عادت السماحة وكتم الغيظ والعفو يجد مكاناً يزاحم فيه، أو يركن إليه، وسط هذا الغثاء والأنانية القاتلة.. لقد ساد فكر الذات البغيض، فسيطر وحرك وانتصر.. وانتصر بانتصاره الشيطان، الذي يؤنسه هذا الفكر ويفرحه..

 

أما فكر علي بن الحسين وفقهه.. فهو فقه نادر وجوده، عزيز تطبيقه.. وما أكثر الإخوة الأحبة الذين يكرمونني بقراءة ما يكتب في هذا الباب، ويزيدوني كرماً باتصالاتهم وآرائهم واقتراحاتهم.. كثير من هؤلاء الأحبة يرون فيما نكتب من هذه المعاني، وفيما نسجل من هذه المواقف، الشفافية التي ربما تصل حد المبالغة، والسمو والبعد الذي يتعذر تطبيقه، والاقتداء به، لكن الحقيقة تقول غير هذا، فهذا الفقه، يحتاج إلى مؤهلات، متى ما ملكت هذه المؤهلات تحولت هذه الأحلام وهذه المثاليات إلى حقائق ملموسة، تتجسد في السلوك والمعاملة.. وهذه هي عظمة هذا الدين، الذي يغير السلوك، ويبني السلوك ويسدده..

 

فليس غريباً على من كان يصفر وجهه ويتغير لونه إذا توضأ استعداداً للصلاة.. فحين يقال له في ذلك، يقول: تدرون بين يدي من أريد أن أقوم، ومن أناجي؟!

 

لقد جاءت حقيقة عظمة الله في نفسه، ومن عظم الله في نفسه، هانت عليه الدنيا كلها، فلن ينافس فيها أحداً، ولن يصارع عليها أحداً، ولن يقاطع من أجلها أحداً، ولن يخاصم على أساسها، ولن ينافق في سبيلها..

 

المسألة باختصار.. هذه المواقف لا تصنع إلا بأمثال هؤلاء، فإن كنا مثلهم في الدين والعبادة، صنعنا مثلها وزيادة.. وإلا سنبقى في حيز الذين يرونها مستحيلة ثقيلة، وهذا صحيح.. ما دمنا نحمل نفوساً ضعيفة، صغيرة..

 

غفر الله لي.. إن كنت صادقاً، وما أحرانا أن نقبل النقد، وأن نرضى بمن يبصرنا بعيوبنا، وإن زل الطريق، وضل السبيل..

 

غفر الله لك.. إن كنت كاذباً، وما أجمل أن تسمو على مثل هذه الصغائر، والله - تبارك و تعالى - يدافع عن الذين آمنوا، ألا ترضى أن يكون الله لك حامياً، وعنك منافحاً..؟! فلذ بحماه، وثق بتدبيره، ولا تعتصم بنفسك، ولا تعتمد عليها، فقد خاب وخسر.. من فعل هذا.. يرضى أحدنا بمحام من أهل الدنيا، ومع احترامنا لهم، يكون حرص أحدهم على (أتعابه)، أكثر من حرصه على انتهاء القضية، وبالرغم من ذلك ننقاد لهم، ونثق بهم كل الثقة.. والله - تبارك و تعالى - يخبرنا بدفاعه، وبحمايته وحفظه، ولا نثق كل الثقة.. أليس هذا مما يقدح في الإيمان؟! ويعيب في الالتزام؟!

 

غفر الله لي.. غفر الله لك.. اجعله القاعدة.. تفز وتغنم وتكسب.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply