لا تغضب


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

عفــواً أخـــــي …

مالي أراك حزيناً، مالي أراك مقطب الجبين؟! من عينيك قد لاح الضيق، فما عدت تفرق بين عدو وصديق، ولم تجد البسمة إلى شفتيك طريق، انظر.. هاهي نفسك تثور، استمع إلى صوتك الجهور، ما إن يقابلك أمر من عظائم الأمور، أو تتعبك أحداث الليالي والشهور، لماذا تلجأ أخي إلى الصراخ والغضب؟!! مهلاً تثبت تحقق من السبب، لم تجلب لنفسك العناء والتعب؟!!

أخي.. هاهي بين يديك وقفة لنا معك.. شعارها الصراحة، وقوامها النصح لك في الله - سبحانه -، ومرامها الوصول إلى الحق وإلى سواء السبيل…

 

لا تغضــب …

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصني قال: لا تغضب، فردد مراراً، قال: \" لا تغضب\" (1)

كلمتان حوى بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميل الخصال، وجمع بهما مكارم الأخلاق ومحاسن الفعال، قد تتبادرني بقولك \" وكيف ذاك\"؟! أقول..

 

أخي..

هل رأيت نفسك وأنت غضبان، والدم يفور في عروقك كالنيران، وجهك قد اكتسى بالحمرة، وأصبت بالهم والكدر، الشرر يتطاير من عينيك، وبقبيح الكلام تنطق شفتيك، وقد تبطش بهذا بيدك، وتركل ذاك برجلك، قلبك أسرعت نبضاته، وعقلك تلفت أعصابه، ألا ترى وأنت على هذا الحال أنه لا يؤبه بقولك، ولا يحترم رأيك، ولا يؤخذ منك حق ولا باطل، ولا تقوم لك الشهادة، حتى إنك إن طلقت زوجتك، فسيقول لها القاضي: ارجعي إليه فزوجك لم يكن بوعيه وصوابه…

وقد تتعدى بغضبك هذا على غيرك.. وقد ينفر منك أهلك، ويكون غضبك مدعاة إلى تكدير صفوك في نهارك وليلك، وسبيل لإصابتك بأمراض وآفات لا حصر لها (اللهم عفوك) وتخشاك لأجله زوجك، ويرتعد فرقاً منك طفلك، ويتجنبك الناس اتقاء فحشك..

ألا تعلم أيها الغاضب الناقم أن الشيطان يكون منك في غضبك قريب، بل إنه يأمرك وأنت تطيعه وتجيب.. \" قال خيثمة: كأن الشيطان يقول: كيف يغلبني ابن آدم، وإذا رضي جئت حتى أكون في قلبه، وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه؟! \" (1)، \" قال بعض العلماء.. نصف جند الشيطان الشهوة ونصفه الآخر الغضب.. \" (2).

حتى أن موسى - عليه السلام - حينما استغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى - عليه السلام - فقضى عليه.. حينها استدرك موسى إن ذلك كان من عمل الشيطان فقال \" هذا من عمل الشيطان إنه عدو ومضل مبين\"(3).

ولذلك أيضا كتب عمر بن عبد العزيز إلى أحد عمالة: لا تعاقب رجلاً عند غضبك عليه بل احبسه حتى يسكن غضبك، فإذا سكن فأخرجه وعاقبه على قدر ذنبه..  فالغضب رأس كل شر، وأساس كل بلوى، ومنبع كل شكوى، ومما يورثه الغضب في النفس الحقد والحسد، وكثير من أمراض القلب والجسد، وقد قيل لعبد الله بن المبارك/ أجمل لنا حسن الخلق في كلمة فقال: \" أترك الغضب\".

 

لمـــاذا تغضــب؟!

غضبك الذي به شخصيتك عرفت، ما الذي يثيره في نفسك؟!! دعنا نبحث عن دواعيه، وبواعثه..

قد ترضى بغضبك غرور نفسك، وتراه منفذا لكمتك، وتعتبره مصدراً لقراراتك الحازمة التي لا رجعة فيها … هل ترى في غضبك تدعيماً لقوة شخصك، ومنعة لنفسك، أم ترى الغضب تعبيرا ملائماً لإحساسك وتنفسياً لآلامك؟!، وهل ترى في حلمك وصفحك وتغاضيك إضعافاً لشخصيتك، وتقليلاً من شأنك، ورضى بالهوان والدنية، مهلاً أخي فأنت مخطئ، اسمع معي قوله - صلى الله عليه وسلم -: \" ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب\" (1)

لا تحسب أن في صراخك على زوجك المسكينة قوة، ولا تعتبر شدة تعنيفك لأبنك البريء تربية جادة حازمة، ولا تظن إن في إهانتك لخادمك رفعة وعزة لك، ولا تتخيل أنك أنت المنتصر في أية نقاش بمجرد أن ثارت أعصابك خلاله واشتعلت كلماتك، بل بالعكس قد يهابك الآخرون فعلاً لكن.. لن يحملوا في قلوبهم لك مودة وقربى بل خوف ورهبة، وقد يكون سكوت الناس عنك ومجاراتهم لك ليس نابع من ضعفهم أمامك بل من ازدرائهم لغضبك وتهوينهم لأمرك، حتى شعروا أن لا فائدة في الخوض معك في أخذ ورد.. ولربما تورث أهل بيتك دون أن تشعر شحنة الغضب هذه، فتراهم دائما في مزاج متعكر، وغضب مستمر، لا يعجبهم شيء، ويتذمرون من كل شيء، وكذلك الحال مع موظفيك وكل من لك عليه سلطة، عاملة بالرفق واللين، والقول الحسن الجميل، أعف عنه أن أخطأ، وسامحه إن أساء، تغاضى عن هفواته، وتناسى زلاته.. وعن عائشة - رضي الله عنها – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \" إن الله رفيق يحق الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، أو ما لا يعطي على ما سواه\". (1)

تذكر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - \" تدرون من يحرم على النار يوم القيامة.. كل هين لين سهل قريب\". (2)

فسبحان الله.. من يحرم النار على المتساهل الذي لا يأخذ الأمور بالشدة، اللين الذي لا يجد منه الآخرين غلظة، الهين الذي لا تهمه توافه الأمور ولا يتلفت لقشور الدنيا تسير حياته يسيرة بسيطة على بركة الله - تعالى -، حبيب إلى الناس ذاك الإنسان قريب منهم، ليس معانداً ولا متكبراً، لا يعرف الغضب إلى نفسه سبيلاً، لا يعقل قلبه معنى الحقد والانتقام، الرقيب الحسيب - سبحانه وتعالى-.. ألا تود أن تكون مثله؟!.

هل تغضب أخي إذا ما فوجئت بمصيبة دنيوية.. أو واجهت مشاكلاً وهموماً يومية.. كزوال ملك، وتضييع فرصة نادرة، أو كخسارة في تجارة لك، وغيرها من أمور دنياك العديدة.. تفكر أخي وتمهل قبل أن تغضب وأعلم أن الدنيا لا تستحق منك كل هذا، فلو كانت الدنيا تعادل عند الله جناح بعوضة لما سقى الله الكافر شربة ماء!!!

فانظر لهوانها عند الله كيف وهو يوسع للكافر في الرزق ويمده؟!!

أيقن أخي أن الأمور تسير بقدر الله ومشيئته، وقد يكون ما يصيبك تكفير لذنوبك، أو رفع لدرجاتك.. واجعل هذه الآية نصب عينيك \" عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، والله يعلم وأنت لا تعلمون\" (3). فكل ما يصيب المؤمن مادام من عند الله فهو خير.

وأعلم أنك إذا زهدت في الدنيا، وتفكرت في فناء الحياة، في الموت وما بعده، تذكرت أن الآخرة هي دار القرار وهي خير وأبقى.. حينها ستهون عليك مصيبتك وتخف آلامك، وستوكل أمورك إلى الله - عز وجل - الذي لا يخيب من يتوكل عليه،..

أم أن غضبك ناتج عن عجبك وحبك الشديد لنفسك، وعن نظرتك للناس أنهم دونك، ولا اعتبار لهم عندك، فترى نفسك فوق الجميع، فلا يحق لأحد أن يتجاوز أسوارك العالية، بل وكيف يجرؤ على ولوج أبوابك الحصينة أحد؟!!

تغضب إذا ما نصحك أخوك أو أرشدك، وتثور إذا ما سابك أحد أو شاتمك، لا ترضى أن يمس أحد عشيرتك بقول أو فعل، أو يتعرض إلى عائلتك بكلمة، أو نقداً أو لوم، وتعتبر ذلك جريمة يستحق صاحبها العقاب، فتنادي للعصبية، وتدعوا للانتقام لنفسك وتطلب برد اعتبارك، وتتناسى قول الله - تعالى - \" إن أكرمكم عند الله أتقاكم\". (1) وكلمته الشهيرة - صلى الله عليه وسلم -.. كلكم لآدم وآدم من تراب- الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى …

أترك نفسك خير من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام؟! بالطبع لا.. فاصبر كما صبروا واحتسبوا…

لماذا تغضب؟! ليس هناك أي داع للغضب… إن كان الناس على حق فيما يقولون فما عليك إلا شكرهم والعمل بنصحهم الصالح وإن كانوا مجانبين للحق والصواب.. فاعتبر كلامهم.. افتراء كاذبين.. وكيد حاسدين.. وأولئك لا يستحقون منك عناء الالتفات إليهم فضلاً عن الغضب عليهم. يقول الشاعر:

أصبر على كيد الحسود فـإن صبرك قاتله            فالنار تأكـــل بعضها إن لم تجد ما تأكله..

ويقال في الحكم \" لا يضر السحاب نبح الكلاب\".

ولقد وقفت على كلام قيم حقاً للشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - إذ يقول: \" إن هناك ارتباطاً مؤكداً بين ثقة المرء بنفسه وبين أناته مع الآخرين، وتجاوزه عن خطئهم، فالرجل العظيم حقاً كلما حلق في آفاق الكمال اتسع صدره، وامتد حلمه، وعذر الناس من أنفسهم، والتمس المبررات لأغلاطهم! فإذا عدا عليه غد يريد تجريحه نظر إليه من قمته كما ينظر الفيلسوف إلى صبيان يعبثون في الطريق وقد يرمونه بالأحجار\" (1)

وأنظر إلى سلفنا الصالح كيف تعاملوا مع من آذاهم وتطاول عليهم…

· شُتم سلمان فقال: \" إن خفّت موازيني فأنا شر مما تقول، وإن ثقلت موازيني لم يضرني ما تقول\".

· قالت امرأة لمالك بن دينار: \" يا مرائي فقال: \" ما عرفني غيرك\".

· وسبّ رجل أبا بكر - رضي الله عنه - وأرضاه فقال: \" ما ستر الله عنك أكثر\".  

لم ينتقم أولئك لأنفسهم، ولم تثر ثائرتهم لسب أو شتيمة، لأنهم فوق هذا كله، إنهم فعلاً ممن قال الله فيهم.. \" وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً\" (2).

فلتحذو حذوهم، ولتسر على نهجهم، تفلح في دنياك وأخراك.

وأخيرا ردد أخي قول الشافعي - رحمه الله -:

يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا  يزيد سفاهة فأزيد حلمـاً كعود زاده الإحراق طيبا

وإليك أخي القصة.. (يقول روبرت مور وهو جندي أمريكي: \" تعلمت أكبر درس في حياتي سنة 1945 وتحت عمق 276 قدم في البحر، حيث كنت واحداً من أولئك الذين أبحروا على متن غواصة أمريكية فاكتشفنا من خلال \" الرادار\" أن سفينة يابانية تتجه نحونا فبدأنا بالهجوم وإطلاق الطلقات المدمرة عليها وما لبثنا حتى هوجمنا من قبل طائرة يابانية كشفت موقعنا وراحت تقذف علينا بالمتفجرات، نزلنا أكثر في العمق لتجنب الهجوم وأطفئت جميع المحركات الكهربائية للغواصة حتى يكون الهبوط صامتاً، وما هي إلا دقائق حتى ألقت علينا متفجراتها فدفعت بنا إلى عمق خطير في البحر، حينها كنت مرتعباً خائفاً لدرجة أني لم أستطع التنفس، وأخذت أردد في نفسي \" هو ذا الموت! هو ذا الموت!.. \" دام الهجوم خمسة عشر ساعة ثم توقف فجأة، وبدا لنا أن الطائرة اكتفت بذلك وعادت من حيث أتت، يقول: بدت ساعات.

الهجوم الخمسة عشر وكأنها خمسة عشر مليون سنة، مرت خلالها حياتي في خيالي. تذكرت الأشياء السيئة التي اقترفتها والأشياء التافهة التي كنت أقلق بشأنها. فقد كنت كاتباً في بنك قبل التحاقي بالبحرية، كنت قلقاً بشأن ساعات العمل الطويلة والأجر القليل. كما أصابني القلق لأنني لم أتملك منزلي الخاص ولم أستطع شراء سيارة جديدة. تذكرت كيف كنت أعود إلى البيت ليلاً لأتشاجر مع زوجتي. كم كانت هذه الأمور ضخمة منذ سنوات!! لكنها الآن تبدو سخيفة أمام تهديد السفن الحربية.

قطعت وعداً لنفسي إذا ما عدت لرؤية الشمس والنجوم ثانية، أن لا أقلق أبداً أبداً، إذ تعلمت المزيد عن فن الحياة خلال الساعات الخمسة عشر الرهيبة داخل الغواصة، أكثر مما تعلمته من خلال الكتب التي درستها في جامعة \" سيراكوس\" ولمدة أريع سنوات\".

ويقول قاضي من ولاية شيكاغو بعد ما أجرى أحكاماً في أكثر من أربعين ألف حالة زواج، \" إن الأشياء السخيفة هي الكامنة في أعماق الخلافات الزوجية\"..

ويقرر هذه الحقيقة نائب عام لمدينة نيويورك إذ يقول: \" نصف الحالات في المحاكم الجنائية مصدرها الأشياء الصغيرة مشادة، كلمة مهينة.. أعمال صغيرة تؤدي إلى القتل وارتكاب جريمة.. \"

من المؤسف يا أخي أن كثير من الأمور التي تكرهها وتثور غضباً منها، هي في الحقيقة أمور صغيرة لكنك تزيد في أهميتها وتعظمها حتى تصبح مشكلة لا حل لها.

 

حــــاول …

أن لا تسمح لنفسك أن تغضب من أشياء صغيرة يجب أن تنساها ولا تفكر بها أصلاً.. فالإنسان على وجه الأرض يعيش لأيام محدودة.. إلا إنه مع علمه بذلك يمضي ساعات طويلة من الحزن والغضب والضيق على أمور ستنسى مع مرور الزمن.. فليكرس الإنسان حياته للقيام بالأعمال المفيدة والأفكار العظيمة والمشاعر الحقيقية وليتحمل ويصبر على أعباء الحياة.. وتذكر..

\" إن الحياة قصيرة جداً لتكون تافهة\" (1)

 

أخـــي …

لقد كنا معك في رحلة إلى عالم الغضب، وجدناه عالماً مظلماً كئيباً، الداخل إليه شقي والخارج منه سعيد، وعرفنا أن الغضب لا يجدي شيئاً فهو في غالبه شعور يغطي على العقل فيحجبه عن التفكير السليم، واعذرنا على الأسلوب القاسي والعبارات القوية التي اضطررنا لاستخدامها حتى نصف الغضب فهو لا يوصف إلا بما يناسبه من كلمات!. علك تنفر منه وتكرهه.. وتشعر بقبحه ومساوئه … وكيف يبادر المريض إلى علاج نفسه إن لم يعرف خطورة مرضه؟!!

 

متى تغضــــب؟!

نعم.. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وصيته \" لا تغضب\".. لكن قد يتساءل متسائل ويقول … إن الغضب طبيعة قائمة في النفس البشرية فكيف يكون الإنسان إنساناً إن لم يمارس طبيعته…

صحيح قال - صلى الله عليه وسلم - لا تغضب.. بمعنى لا تغضب غضباً في غير موضعه.. أي.. وجه غضبك واعرف متى تغضب.

عليك أن تغضب إذا استحلت حرمة من حرمات الله أو انتهكت، عليك أن تغضب إذا ما وجهت تهمة لهذا الدين، أو نسجت مكيدة لضرب المسلمين، ولك أن تثور إذا ما رأيت راية الباطل تعلو في الذرى، وراية الحق تداس في الثرى … فالغضب ليس مذموم كله..

إن لم تغضب لدينك وعرضك فلن تفلح، ألم تر أن الله - تعالى - حين وصف المؤمنين قال في وصفهم: \" أشداء على الكفار رحماء بينهم\"(1)، وقال - عز وجل – مخاطباً.

نبيه - صلى الله عليه وسلم -: \" جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم\"(2) وقد قالت عائشة - رضي الله عنها -: \" ما رأيت رسول الله منتصراً من مظلمة ظلمها قط، ما لم ينتهك من محارم الله، فإذا انتهكت من محارم الله شيء كان أشدهم في ذلك غضباً، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما\" (3) صلى عليك الله وسلم يا رسول الله.

وهاهو نبي الله أيوب الذي ابتلاه الله - تعالى - بالمرض الأليم ثمان عشرة سنة يحمد الله - تعالى - ويصبر على بلائه، لكنه مع صبره وحلمه جاءت اللحظة التي عبر فيها عن غضبه، اسمع إلى موقفه: كانت زوجة أيوب تخدمه حال مرضه، فلما اشتد به البلاء وطالت به المدة، وسوس إليها الشيطان: إلى متى تصبرين؟ فجاءت إلى أيوب وفي نفسها الضجر فقالت له: إلى متى هذا البلاء؟.. فغضب من هذا الكلام وحلف إن شفا الله ليضربنها مئة سوط، \" لأنه كان في كلامها نوع من الاعتراض على حكم الله\".. انظر إلى الأنبياء لا يغضبون إلا لله - تعالى -، ثم أمر الله أيوب بعد أن شفاه أن يأخذ حزمة من أعواد خفيفة (مئة عود) ويضربها حتى يبرّ بيمينه، رحمة من الله بها لقيامها برعايته وصبرها على بلائه.

 

وجــه غضبــــك …

أتغضب أخي على أخيك المسلم وتعاديه، وتصعر له خدك حين تلاقيه، وتحتفي بذاك الكافر النجس، الذي يكيد الإسلام والمسلمين، ولك السم في العسل يدس، بل أني أراك قد تحبه وتواليه، وتقلده وتجاريه، وتبهر بكلامه وتعجب من تطور حياته وتقدم وسائلها…

أتغضب للدنيا الفانية، وينقبض صدرك إن فاتتك رغبة من رغباتك في الحياة، وتتجاهل أن لك إخواناً في بقاع الأرض يتعذبون ويتأوهون، ولنصرتهم يستغيثون..

لم لا توجه غضبك لنصرة القدس وإعادة أمجاد الأندلس؟!..

إن غضبت لذلك فنعم الغضب.. أسمعت أن المعتصم سير جيشاً لنجدة امرأة استغاثت وامعتصماه فأوقدت في نفسه الحمية.. ففتح عمورية..

اغضب لتتغلب على الكفر، اغضب لتنال راية المجد، اغضب لنصرة إخوانك المستضعفين اغضب حين ترى العزة لغير المسلمين.. اغضب أن كان في غضبك رفعة لهذا الدين.

 

احلـــم تغـنــم …

قال - تعالى - واصفاً عباده.. عبا د الرحمن.. \" وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما\". (1)، وقال أيضا ضمن وصفهم \" وإذا مروا باللغو مروا كراما\". (2).

. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لأشج عبد القيس: \" إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحم والأناة\" (3).

إن الحلم من صفات المؤمنين، الطائعين لربهم المخبتين، الذين هم عن الدنيا راغبين، وفي ملذاتها زاهدين، والذين يظنون بإخوانهم أحسن الظنون، ويسامحون ويعفون، ولا يقيمون لتوافه الأمور ثقلاً موزون، وعلى التحلم وكظم الغيظ يجاهدون ويصابرون.. ألا ترى أنهم بالجنة موعودون، وأنهم يرزقون من حيث لا يحتسبون …

أخي.. إذا رأيت أو سمعت أو حدث لك ما تكره، ما عليك إلا أن تتروى وتتمهل، فكر فيما عساك أن تقول أو أن تفعل.. ؟!.. فكر بعقلانية وبطريقة جديه، بعيداً عن شد الأعصاب، وعن التحيز وعدم فهم الأسباب، وخذ الأمور بيسر وروية وإليك هذه الوصايا النبوية.. حين ينتابك الغضب..

في البداية استعذ بالله من الشيطان الرجيم ومن شده، فهو الذي يوسوس لك ويغويك، قال - تعالى -: \" إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون\" (1) وعن سليمان بن صرد - رضي الله عنه - قال: استب رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: \" إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ذا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال إلى الرجل رجل ممن سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل تدري ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آنفاً؟ قال: لا، قال: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ذا: لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فقال الرجل: أمجنون تراني؟!.

ومن ثم أشرع في الوضوء لعل غضبك يطفأ وبالك يهدأ، قال - صلى الله عليه وسلم -: \" إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ\" (2)

وإن لم يذهب غيظك وسرك أن تستشفي لنفسك فغير وضعك الذي كنت عليه وأنت غاضب، لقوله - عليه الصلاة والسلام -: \" إذا غضب أحكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب، وإلا فليضجع\". (1)

وحاول قدر استطاعتك أن لا تتكلم حين غضبك حتى لا تتفوه بما تندم عليه بعد ذلك.. وتذكر أخيراً فضل من يكظم غيظه، وأنه من صفات المؤمنين، الذين قال فيهم - تعالى -.. \" وإذا ما غضبوا هم يغفرون\"(2)

واتخذ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدوة في الحلم والصفح، فقد كان أحلم الناس، وكان يعفو عن المسيء ويسامح المخطئ، ويعرض عن الجاهل…

ولا يخفى عليك كم نال في مكة من عذاب من قبل قريش… كذبوه واتهموه بالسحر والجنون ونعتوه بأقبح الصفات … وألقوا على ظهره سلا الجزور فماذا كان منه يوم فتح مكة؟! حين أعز الله الإسلام والمسلمين وكان قادراً عليهم قدرة قوي مكين، فماذا فعل؟..

عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة طاف بالبيت وصلى ركعتين ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب فقال: ما تقولون وما تظنون\".

قالوا: نقول أخ كريم وابن عم حليم رحيم، قالوا ذلك ثلاثاً فقال: \" أقول كما قال يوسف\" لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين\". (3)

و تعالى معي لنرى كيف فهم سلفنا الحلم وطبقوه، وكيف أنهم به سادوا وبعفوهم جادوا، علنا نعتبرهم ونقتفي آثارهم…

سب رجل ابن عباس، فلما فرغ، قال ابن عباس: يا عكرمة، هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى.

جلس ابن مسعود في السوق يبتاع طعاماً، فابتاع ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته، فوجدها قد حلت. فقال: لقد جلست وإنها لمعي، فجعلوا يدعون على من أخذها \" اللهم أفعل به كذا\"، فقال ابن مسعود: اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها، وإن كانت حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه\"!!

قال عمر رضي الله عنه: \" من اتقى الله لم يشف غيظه، ومن خاف الله لم يفعل ما يشاء، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون\"..

وقال بعضهم: \" ليس الحليم من ظلم فحلم، حتى إذا قدر انتقم، ولكن الحليم من ظلم فحلم إذا قدر عفا.. \"

واجتمع سفيان الثوري وأبو خزيمة والفضيل بن عياض، فتذاكروا الزهد فأجمعوا على أن أفضل الأعمال: الحلم عند الغضب، والصبر عند الجزع.

فاحلم أخي تغنم، واعف تسلم، ولا تغضب فتندم، واصفح تربح، كن سهلاً رفيقاً رقيقاً، لا تكن غضوباً غليظاً متجهماً.. اكظم غيظك لوجه الله - تعالى – يعوضك الله خيراً جزيلاً وأجراً وفيراً.. فلقد قال - صلى الله عليه وسلم -: \" ما جرع عبد جرعة أعظم أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله\"(1)

وتأمل كرامة كاظمي الغيظ يوم القيامة تكن ممن تمسك به وانتحى جانبه.. ففي الحديث: \" من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخبره في أي الحور شاء\". (2)

 

نعـــم تستطيــع …

أما تود أخي أن تكون حليما، ألا تشتهي أن تكون صافي النفس ذو قلب رحيم، أولا تحب أن تتحكم في نفسك وتصدرا قرارا سليما، أما تريد أن تتخلق بخلق الرسول العظيم، أو تتصف بصفات المؤمن الكريم، كأني بك وأنت تهز رأسك بالإيجاب وتقول.. بلى والذي نفسي بيده إني لأشتهي وأتمنى أن أتخلص من هذا الخلق الذميم.. ولكن كيف السبيل، وقد جبلت على هذا الخلق إن الأمر مستحيل… لم كل هذا اليأس؟! إن كنت تريد فلا شيء مستحيل … أعزم وجاهد ودرب نفسك قد تستصعب الأمر في البداية ولكن ستجد نفسك إن شاء الله في النهاية قد تخلقت بالحلم واتصفت به … قال - صلى الله عليه وسلم - \" إنما الحلم بالتحلم وإنما العلم بالتعلم\" فاعزم

أخي وتوكل على الله وسوف يهديك ويوفقك وينير مساعيك.

 

----------------------------------------

(1) رواه البخاري.

 

(1) إحياء علوم الدين الغزالي.

(2) إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان. ابن القيم

(3) القصص: 15.

 

(1) رواه البخاري.

 

(1) رواه مسلم.

(2) أخرجه الترمذي.

(3) البقرة: 216.

 

(1) الحجرات: 13.

 

(1) الحجرات: 13.

(2) الفرقان: 63.

 

(1) كتاب، دع القلق وابدأ الحياة. دايل كارينغي. (بتصرف)

 

(1) الفتح: 29.

(2) التوبة: 73.

(3) أخرجه الترمذي.

 

(1) الفرقان: 63

(2) الفرقان: 72.

(3) متفق عليه.

 

(1) الأعراف: 201

(2) رواه أبو داود.

 

(1) رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه.

(2) الشورى: 37

(3) رواه ابن الجوزي في الوفاء من أبي الدنيا. وفيه ضعف.

 

(1) رواه ابن ماجه.

(2) رواه أبو داود.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply