ظاهرة التسول حكمها وكيفية مواجهتها وعلاجها الإسلامي


  

بسم الله الرحمن الرحيم

حث الإسلام على الصدقات، والإنفاق في سبيل الله - عز وجل -، قال - تعالى -: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون}، ورغب الإسلام في تفقد أحوال الفقراء والمساكين، والمحتاجين والمعوزين، وحث على بذل الصدقات لهم، فقال - تعالى -: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين...} الآية، وقال - تعالى -: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله خبير بما تعملون} ، ووعد على ذلك بالأجر الجزيل، والثواب الكبير، وقال - تعالى -: {وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون}، وقال - تعالى -: { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين}.

ولا يخفى على المسلم فوائد الصدقات، وبذل المعروف للمسلمين، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، لكن لا بد أن يعرف الجميع أن المساجد لم تبن لاستدرار المال، وكسر قلوب المصلين، واستعطافهم من أجل البذل والعطاء، بل الغاية منها أعظم من ذلك بكثير، فالمساجد بيوت عبادة، ومزارع خير للآخرة، فالأصل فيها، إقامة ذكره جل شأنه، والصلاة، وغير ذلك من محاضرات ودروس علمية، قال - تعالى -: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال}، فالواجب على الجميع احترام بيوت الله - تعالى من كل ما يدنسها، أو يثير الجدل والكلام غير اللائق بها، فليست بأماكن كسب وسبل ارتزاق، لجمع حطام الدنيا، لذلك فهي لا تصلح مكاناً للتسول، ورفع الصوت ولغط الكلام، كمن يتسول ويسأل الناس من أموالهم. ويحرم أن تكون بيوت الله - تعالى -مكاناً لكسب حطام الدنيا، والتمول من أموال الناس، وأقرب ما تقاس عليه مسألة التسول، مسألة نشدان الضالة، والجامع بينهما البحث والمطالبة بأمر مادي دنيوي، فناشد الضالة يبحث عن ماله دون شبهة، ومع ذلك أمر الشارع الكريم كل من في المسجد أن يدعو عليه بأن لا يجد ضالته، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: >من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا< -أخرجه مسلم أبو داود-. أما المتسول فهو يطلب مال غيره، والشبهة قائمة ألا يكون محتاجاً أصلاً بل إنه يسأل الناس تكثراً والعياذ بالله. فكان أجدر ألا يُعطى نكالاً له.

 

ظاهرة مؤسفة

فمسألة التسول مسألة أرقت الأمة اليوم، وأيقظت الغيرة عند الغيورين، وكثر فيها الجدل عند الكثيرين، فلا تكاد تصلي في مسجد إلا ويداهمك متسول وشحاذ، ويطاردك سائل ومحتاج، إن تلك المناظر المخجلة التي نراها في بيوت الله - تعالى -، لهي دليل على عدم احترام المساجد، وعدم معرفة السبب الذي من أجله بنيت، ودليل على نزع الحياء، وعدم توقير لبيوت الله - تعالى -، ووضاعة في أخلاق أولئك المتسولين والشحاذين والمبتزين لأموال الناس والآكلين لها بالباطل، وكم تطالعنا الصحف اليومية بتحقيقات صحفية مع أولئك المبتزين من رجال ونساء، ولسان حالهم جميعاً يقول: نريد مالاً بلا عمل، لقد فسخوا الحياء من وجوههم، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: >إذا لم تستح فاصنع ما شئت<.

 إننا في هذا الوقت من الزمان، الذي تفشى فيه الجهل، وانتشرت فيه البطالة، اعتدنا كل يوم وبعد كل صلاة تقريباً على مناظر مؤذية، ومشاهد مؤلمة، يقوم بتمثيلها فئة من الشباب المدربين على إتقان صناعة النصب والاحتيال بممارسة مهنة الشحاذة، وأكل أموال الناس بالباطل، ولهم في ذلك أحوال وأشكال، فمنهم من يقوم بتجبيس يده أو رجله أو أي جزء من جسده، ومنهم من يتصنع البلاهة والجنون، ومنهم من يدعي الإصابة بحادث أو موت والد أو أم، أو حصول مرض، أو ترك ديون، وتُرك له إخوة وأخوات، ويقوم برعايتهم، والإنفاق عليهم، والدين أثقل كاهله ولا يستطيع السداد، ومنهم من يفتعل البكاء وقد يجلب معه ابن الجيران أو ابنتهم ليمارس الشحاذة بها، لاستعطاف القلوب، وقد يقسم بالله كاذباً أنه لولا تلك الديون، وعظم المسؤولية لما وقف أمام الناس، وغير ذلك من الأعذار والأكاذيب التي لم تعد تنطلي على أحد من العقلاء.

 

ويطورون أساليبهم

 وكل يوم يقومون بتطوير أساليب الشحاذة ونهب أموال الناس، بل لقد وصل الأمر إلى بشاعة عظيمة، وأمر لا يقره دين ولا عقل، وذلك بوجود فئة من إماء الله من النساء اللاتي يأتين إلى بيوت الله - تعالى -لممارسة الشحاذة والتسول، وهذا أمر خطير، لأن أولئك النساء اللاتي يأتين إلى بيوت الله - تعالى -، ويدخلن مساجد الرجال، لا بد أن تكون الواحدة معذورة شرعاً من أداء الصلاة، وهنا لا يجوز لها الدخول إلى المساجد إلا لحاجة كالمرور مثلاً، وإما أن تكون غير معذورة، ولم تصل مع النساء، بل تركت الصلاة وأخرتها عن وقتها من أجل أن تجمع شيئاً من حطام الدنيا، وحفنة قذرة من المال، وهذا أمر أخطر من سابقه، لأن تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها حرام وكبيرة من كبائر الذنوب، بل عدها جمع من العلماء كفر صريح والعياذ بالله، وهنا يظهر أن المتسولات، يفضلن أكل المال الحرام على الصلاة، ولا شك أن هذا الأمر قادح في عقيدتهن، وهنا لا يجوز شرعاً إعطاؤهن المال، لما في ذلك من إعانة لهن على معصية الله - تعالى -، ومن فعل ذلك وقام بإعطائهن من ماله فقد ارتكب إثماً عظيماً، وجرماً كبيراً.

لما في ذلك من إعانة لهن على الباطل، وإقرار لهن على المنكر، وتشجيع لهن على ارتياد أماكن الرجال، وهناك جمعيات ودوائر حكومية تُعنى بمثل تلك الحالات من المحتاجين، فاحذروا عباد الله من تلك الفئة من الناس الذين يتصنعون المرض والفاقة، ويسعون في الأرض فساداً، فكثير منهم صاحب أموال عظيمة، وبعضهم يملك من العقارات والأراضي الشيء الكثير، ومع ذلك لا يتورعون عن أكل المال الحرام.

 

أغنياء من التعفف

وكم هم الفقراء والمحتاجين، الذين نعرفهم ويعرفهم الكثير، ومع ذلك تجدهم متعففين عن سؤال الناس، ولا يسألون إلا الله الرزاق ذا القوة المتين، لأنهم أيقنوا أن الرزق من الله وحده، وبيده وحده، فامتثلوا أمر ربهم- تبارك وتعالى -القائل في محكم التنزيل: >وفي السماء رزقكم وما توعدون<، ولقد امتدحهم الله - تعالى -لعدم مد أيديهم للناس أو سؤالهم، فقال - تعالى -: - للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً.. - الآية.

 يقول ابن كثير - رحمه الله -: الجاهل بأمرهم وحالهم يحسبهم أغنياء من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم، وفي هذا المعنى الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: >ليس المسكين الذي ترده التمرة ولا التمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئاً<.

 

الأدلة على حرمة التسول

وهذه بعض الأدلة التي تحرم التسول، وسؤال الناس من غير حاجة:

فقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: >ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم<. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: >من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر<.

- وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: >والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره فيتصدق به على الناس: خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه<.

- وفي صحيح مسلم عنه أيضا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: >لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به عن الناس: خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه، ذلك بأن اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول<، زاد الإمام أحمد: >ولأن يأخذ ترابا فيجعله في فيه: خير له من أن يجعل في فيه ما حرم الله عليه<.

 

أقوال العلماء

وبعدما ذكرت شيئاً مما تيسر من النصوص الدالة على تحريم المسألة بغير وجه حق، نتطرق إلى أقوال العلماء في ذلك:

 - قال ابن القيم - رحمه الله -: المسألة في الأصل حرام، وإنما أبيحت للحاجة والضرورة لأنها ظلم في حق الربوبية، وظلم في حق المسئول، وظلم في حق السائل:  أما الأول: فلأنه بذل سؤاله وفقره وذله واستعطاءه لغير الله وذلك نوع عبودية فوضع المسألة في غير موضعها، وأنزلها بغير أهلها، وظلم توحيده وإخلاصه وفقره إلى الله وتوكله عليه ورضاه بقسمه، واستغنى بسؤال الناس عن مسألة رب الناس، وذلك كله يهضم من حق التوحيد، ويطفئ نوره ويضعف قوته.

- وأما ظلمه للمسئول: فلأنه سأله ما ليس عنده فأوجب له بسؤاله عليه حقا لم يكن له عليه، وعرضه لمشقة البذل، أو لوم المنع، فإن أعطاه، أعطاه على كراهة، وإن منعه، منعه على استحياء وإمضاض، هذا إذا سأله ما ليس عليه وأما إذا سأله حقا هو له عنده: فلم يدخل في ذلك ولم يظلمه بسؤاله.

- وأما ظلمه لنفسه: فإنه أراق ماء وجهه وذل لغير خالقه وأنزل نفسه أدنى المنزلتين، ورضي لها بأبخس الحالتين، ورضي بإسقاط شرف نفسه، وعزة تعففه، وراحة قناعته، وباع صبره ورضاه وتوكله وقناعته بما قسم له، واستغناءه عن الناس بسؤالهم، وهذا عين ظلمه لنفسه، إذ وضعها في غير موضعها، وأخمل شرفها، ووضع قدرها، وأذهب عزها وصغرها وحقرها، ورضي أن تكون نفسه تحت نفس المسئول ويده تحت يده.

 

واجبنا

فيجب علينا معاشر الإخوة، منع أولئك المتسولين من رجال ونساء وأطفال، والأخذ على أيديهم، ومنعهم من تلك الظاهرة الخطيرة، والواجب أيضاً على كل فرد من أفراد المجتمع، ألا تأخذه العاطفة والرأفة والشفقة، بأولئك المتسولين، بل لا بد من تبليغ الجهات المختصة عنهم، وعدم إعطائهم أي مال، لأن في إعطائهم المال ما يعينهم على التسول وسؤال الناس واستعطافهم واستدرار أموالهم، ولما في ذلك أيضاً من معاونتهم على الباطل، والإثم والعدوان، وهذا أمر منكر لا يجوز، ومن أعطاهم فقد ارتكب أمراً خطيراً نظراً لقول عامة العلماء بكراهة إعطاء السائل في المسجد، بل لا بد من زجرهم ونهيهم عن هذا المنكر الخطير، الذي اتخذه الكثير وسيلة للكسب دون العمل، فعلينا أن نتصدى لتلك الظاهرة المتفشية، والقضاء عليها، واستئصال شأفتها، حتى تكون بيوت الله خالية مما يدنسها ويشوه صورتها، ولن يتم ذلك الأمر إلا بتكاتف الجهود، وترابط الجميع، وتوحيد الكلمة. فأقول: لو رأى أهل التسول وقوف الناس يداً واحدة في وجه ذلك الأمر المشين والخطير، لحصل تحول جذري في الموضوع وبذلك يتم القضاء على تلك الظاهرة تماماً بإذن الله - تعالى -.

وهناك مؤسسات كبيرة ربما عملت من أجل هذه الظاهرة، فتخطف الرجال أيضاً، وربما أفقدتهم عقولهم بالجنون أو السحر أو غيرهما، حتى يتاجروا بهم في المساجد والمجتمعات، وربما قامت بتقطيع بعض أجزاء أجسادهم لاستدرار الأموال، واستعطاف الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

لكن أعود وأؤكد أنه لا بد من توحيد الصف وجمع الكلمة بين الناس للقضاء على ظاهرة التسول التي طالما أقلقت الجميع.

ومن كان لديه فضل مال، فلا يلق بماله في الهواء هباءً منثوراً، بل يبحث عن أهل الحاجة والفاقة الذين لا يسألون الناس إلحافاً، فتراهم متعففين، لا يمدون أيديهم لأحد، حياءً وخجلاً، ومن لم يعرف تلك الفئة من الناس، فليدفع زكاته وصدقته التطوعية إلى الجمعيات والمؤسسات الخيرية المعنية بمثل تلك الأمور، حتى يضع المسلم ماله في أيد أمينة توصله لمستحقيه بإذن الله - تعالى -.

وأشير هنا إلى أن من كان بحاجة ماسة إلى سؤال الناس، فلا بد أن يكون هناك تنظيم مسبق ودقيق، بحيث يذهب للجهات ذات الاختصاص ويقدم معروضة، ويشرح مسألته، فيُعطى ما يجيز له أن يسأل الناس عن قناعة واستحقاق، وأن تجمع تلك الأموال لدى تلك الدائرة المعنية بالأمر، فإذا تحقق المراد وتم جمع المبلغ المطلوب سُلم له وانصرف، أما أن يُترك الأمر هكذا لا خطام ولا زمام، فستقع كوارث وفتن، والحال خير شاهد على ذلك.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply