حكى الأصمعي يوماً فقال: حدثني رجل من الإعراب قال: خرجت من الحي اطلب أعق الناس وابر الناس.. فكنت أطوف بالأحياء.. حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل.. يستقي بدلو لا تطيقه الإبل.. في الهاجرة والحر الشديد.. وخلفه شاب في يده رشاء من قد ملوي.. يضربه به قد شق ظهره بذلك الحبل.. !! فقلت: إما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه من مدى هذا الحبل حتى تضربه؟ قال: انه مع هذا أبى... !! قلت: فلا جزاك الله خيرا. قال: اسكت فهكذا كان هو مع أبيه.. !! وكذا كان يصنع أبوه بجده.. !! فقلت: هذا هو أعق الناس... ثم جلت أيضا.. حتى انتهيت إلى شاب وفي عنقه زبيل.. فيه شيخ كأنه فرخ.. فكان يضعه بين يديه في كل ساعة فيزقه كما يزق الفرخ.. فقلت: ما هذا؟ قال: أبى وقد خرف وأنا اكفله.. قلت: فهذا ابر الناس...
أيها الأخ.. أيتها الأخت... هذه قصة من بين قصص كثيرة.. وهي فيض من غيض.. تبين لنا صور متكررة لواقع كثير من الناس مع والديهم.. براً وعقوقاً..
حكى الأصمعي يوماً فقال: حدثني رجل من الإعراب قال: خرجت من الحي اطلب أعق الناس وابر الناس..
نعم أيها المحب.. بر الوالدين.. والإحسان إليهما.. ذلك الحق العظيم، والمضيع عند كثير من الأبناء.. ذلك الحق الذي ـ ولأهميته وعظمه ـ قرنه الله مع أعظم حقوقه وهو توحيده فقال: \" وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً * وأخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً \" [الإسراء: 23-24]
وقال - صلى الله عليه وسلم -: \" رضى الله في رضى الوالدين وسخطه في سخطهما \"
[الترمذي ح 1899 وصححه الألباني في الصحيحة رقم 516]...
معنى بر الوالدين:
البر: الإحسان.. ومنه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \" البر حسن الخلق \" وهو في حق الوالدين والاقربين ضد العقوق. فالعقوق: هو الإساءة وتضييع الحقوق قال الحسن البصري: البر أن تطيعهما في كل ما أمراك به مالم تكن معصية لله والعقوق هجرانهما وان تحرمهما خيرك
بر الوالدين بعد موتهما:
يقول شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله تعالى -: \" وأما بعد موتهما فيكون برهما بالدعاء لهما والاستغفار لهما.. وإنفاذ وصيتهما م بعد هما ن وإكرام صديقهما.. وصلة الرحم التي لا صلة لك بها إلا بهما.. هذه خمسة أشياء من بر الوالدين بعد الموت.. أما الصدقة عنهما فهي جائزة.. ولكن لا يقال للولد تصدق.. بل يقال إن الصدقة جائزة.. وإن لم تتصدق فالدعاء لهما أفضل.. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: \" إذا مات الإنسان عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعوا له\".. فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء بمقام التحدث عن العمل.. فكان هذا دليلاً على أن الدعاء للوالدين بعد موتهما افضل من الصدقة عنهما، وأفضل من العمرة لهما، وأفضل من قراءة القرآن لهما، وأفضل من الصلاة لهما.. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يعدل عن الأفضل إلى المفضول.. بل لا بد أن يبين - عليه الصلاة والسلام - ما هو الأفضل ويبين جواز المفضول.. وقد بين في هذا الحديث ما هو الأفضل. أما بيان جواز المفضول فإنه جاء في حديث سعد بن عباده حين أستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتصدق عن أمه، فأذن له.....
ومن العقوق يا معشر الأبناء أن ينظر الولد إلي أبيه نظرة شزر عند الغضب أو يتعاظم عن تقبيل يدي والديه أو لا ينهض لهما احتراما وإجلالا
صور مشرقة:
* عن انس بن النضير الاشجعي: استقت أم ابن مسعود ماء في بعض الليالي فذهب فجاءها بشربة فوجدها قد ذهب بها النوم فثبت بالشربة عند رأسها حتى أصبح.
* وهذا ظبيان بن علي الثوري ـ وكان من ابر الناس بأمه ـ وكان يسافر بها إلى مكة فإذا كان يوم حار حفر بئر ا ثم جاء بنطع فصب فيه الماء ثم يقول لها: ادخلي تبردي في هذا الماء
* وكان حيوه بن شريح وهو أحد أئمة المسلمين يقعد في حلقته يعلم الناس فتقول له أمه: قم ياحيوة فالق الشعير للدجاج فيقوم ويترك التعليم.
أيها المحب... قارن بين حال هؤلاء.. وحال كثير من الأبناء اليوم.. انقلبت الموازين واختلت المعايير...... تأفف وتضجر وإظهار للسخط وعدم الرضا... بل بعضهم يهرب من أبيه حال كبره.. ولا يزوره إلا في فترات متباعدة.. بل ربما وضعه في أحد الملاجئ أو دور العجزة وربما نهر أمه أو أباه بصوت مرتفع وكلام سيئ.. وكأنه يتخاصم مع عدوه. بل ـ والله ـ تجد والعياذ بالله من يتعامل بحسن خلق ولين جانب مع الكفار وهو سيئ الطبع والخلق مع والديه.. فسبحان الله العظيم ما أحلمه علينا.. !!
وأما غالب حال الشباب اليوم فان منزلة الصديق أعلى منزلة واجل مكانة من الوالدين ولا حول ولا قوة إلا بالله.... وما حصلت هذه الصور المبكية... لعدم مقدرة عند هولاء.. ولكنها قسوة القلوب نعوذ بالله من ذلك..
من مظاهر العقوق:
1) إبكاؤهما وتحزينهما بقول أو فعل أو غير ذلك.. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يبايعه فقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان. قال: \" فارجع أليهما فأضحكهما كما أبكيتهما \" قال ابن عمر: بكاء الوالدين من العقوق والكبائر.
2) إدخال المنكرات أو مزاولتها أمامهم: مثل ترك الصلاة عمدا وشرب الخمر واستماع آلات اللهو ومشاهدة ما حرم الله - عز وجل - من الأفلام الخليعة والصور الماجنة وغيرها من المنكرات.
3) البراءة منهما أو التخلي عنهما: فعن انس الجهني عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \" إن لله - تعالى -عبادا لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم \" قيل: من أولئك يا رسول الله؟ قال: \" متبرئ من والديه راغب عنهما ومتبرئ من ولده ورجل انعم عليه قوم فكفر بنعمتهم وتبرا منهم \"
4) تقديم الزوجة على الأم والأب فيما للوالدين فيه دخل: وهذا قد انتشر في زماننا ويزداد الأمر سوءا إذا كانت الزوجة سيئة أنانية تحاول إبعاد زوجها عن والديه ليبقى لها وحدها أو تتأذى من بقائهما في داره وهذا من اكبر العقوق...
5) عدم زيارتهما والسؤال عنهما أو التأخير في ذلك:
6) ومن العقوق يا معشر الأبناء أن ينظر الولد إلي أبيه نظرة شزر عند الغضب أو يتعاظم عن تقبيل يدي والديه أو لا ينهض لهما احتراما وإجلالا
7)التسبب في شتم الوالدين.. قال - صلى الله عليه وسلم - \" من الكبائر شتم الرجل والديه \" قالوا: وكيف يشتم أو يسب الرجل والديه؟ فقال \" يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه \" أي: يصير متسببا في شتم والديه.. وقال - صلى الله عليه وسلم -: \" لعن الله من لعن والديه\"
فضل بر الوالدين:
أولا: انه من أفضل الأعمال: عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سالت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: \" الصلاة في وقتها \" قلت: ثم أي؟ قال: \" بر الوالدين \" قلت: ثم أي؟ قال: \" الجهاد في سبيل الله \" [متفق عليه]
ثانيا: انه سبب من أسباب مغفرة الذنوب: قال - تعالى -\" ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا \" إلى أن قال في آخر الآية الثانية \" أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون \"
ثالثا: انه سبب في زيادة العمر: عن انس بن مالك \" من سره أن يمد له عمره ويزاد في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه \" [رواه أحمد].
رابعا: انه سبب في حصول مبرة الأبناء لمن بر ولوالديه: فعن أبى هريرة - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بروا آباءكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم \" [رواه الطبراني].
قصة وعبره:
.. يقول الشيخ الفاضل عبد الملك القاسم: حدثني من أثق به عن ولد عاق لامه.. أودعها في إحدى دورا لعجزة ولم يزرها إطلاقا حتى تردت حالتها.. وعندها طلبت من مسئول الدار الاتصال على ابنها لتراه وتقبله قبل أن تموت.. وسبقتها الدموع وهي تنادي باسمه أن يحضر ولكن العاق العاصي ـ والعياذ بالله ـ رفض ذلك وادعى ضيق الوقت.. فلما توفيت الأم تم الاتصال بالابن العاق فكان جوابه: اكملوا الإجراءات الرسمية وادفنوها في قبرها... [انظر ففيهما فجاهد لعبد الملك القاسم]
وأخيرا يرعاك الله:
إن إحسان الوالدين عظيم.. وفضلهما سابق.. ولا يتنكر له ألا جحود ظلوم غاشم قد غلقت في وجهه أبواب التوفيق ولو حاز الدنيا بحذافيرها؟!
فالأم التي حملت وليدها في أحشائها تسعة اشهر.. مشقة من بعد مشقة.. لا يزيدها نموه إلا ثقلا وضعفا ووضعته كرها.. وقد أشرفت على الموت.. فإذا بها تعلق آمالها على هذا الطفل الوليد رأت فيه بهجة الحياة وزينتها وزادها بالدنيا حرصا وتعلقا.. ثم شغلت بخدمته ليلها ونهارها تغذيه بصحتها.. وتريحه بتعبها طعام هدرها.. وبيته حجرها ومركبه يداها.. وصدرها تحوطه وترعاه.. تجوع ليشبع وتسهر لينام.. فهي به رحيمة وعليها شفيقة.. إذا غابت دعاها وإذا أعرضت عنه ناجاها وان أصابه مكروه استغاث بها.. يحسب أن كل الخير عندها وان الشر لا يصل إليه إذا ضمته إلى صدرها أو لحظته بعينها..
ابعد هذا يكون جزاؤها العقوق والأعراض؟! اللهم عفوا ورحما..
أما الأب.. فالابن له مجبنة مبخلة.. يكد ويسعى ويدفع صنوف الأذى.. بحثا عن لقمة العيش لينفق عليه ويربيه.. إذا دخل عليه هش وإذا اقبل إليه بش.. وإذا حضر تعلق به وإذا اقبل عليه احتضن حجره وصدره.. يخوف كل الناس بابيه ويعدهم بفعل أبيه.. أبعد هذا يكون جزاء الأب التنكر والصدود؟ نعوذ بالله من الخذلان.. أن الإحباط كل الإحباط أن يفجا الوالدان بالتنكر للجميل.. وقد كانا يتطلعان للإحسان ويؤملان الصلة بالمعروف.. فإذا بهذا الولد ـ ذكر أو أنثى ـ يتخاذل ويتناسى ضعفه وطفولته.. ويعجب بشأنه وفتوته ويغره تعليمه وثقافته.. ويترفع بجاهه ومرتبته يؤذيهما بالتأفف والتبرم.. ويجاهر هما بالسوء وفحش القول يقهرهما وينهرهما.. يريدان حياته ويريد موتهما.. كأني بهما وقد تمنيا أن لو كانا عقيمين.. تئن لحالهما الفضيلة وتبكي من أجلهما المروءة..
فليحذر كل عاقل من التقصير في حق والديه.. فان عاقبة ذلك وخيمة.. ولينشط في برهما فانهما عن قريب راحلين.. وحينئذ يعض أصابع الندم ولآت ساعة مندم..
نعم أن بر الوالدين من شيم النفوس الكريمة.. لكان مدحة بين الناس لجليل قدره كيف وهو علاوة علي ذلك تكفر به السيئات.. وتجاب الدعوات عند رب البريات.. وبه تنشرح الصدور وتطيب الحياة ويبقى الذكر الحسن بعد الممات.. اللهم اغفر لنا ولوالدينا وارحمها كما ربونا صغارا واجزهم عنا خير ما جزيت به عبادك الصالحين..
والله اعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد