خاتم الأنبياء والمرسلين رحمة من رب العالمين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

فقد تحدثت في اللقاء السابق عن عموم بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشيء من عفوه ورحمته، وأواصل في هذا اللقاء الحديث حول هذا الموضوع فأقول:

أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه بُردٌ نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُر لي من مال اللَّه الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء»، فهو هنا - صلى الله عليه وسلم - لم يقابل جفاء الأعرابي وشدته وقسوته عليه بما فعل، بل التفت إليه وضحك، وزاد على ذلك أن أعطاه شيئًا من المال.

وفي صحيح البخاري ومسلم عن جابر بن عبد اللَّه - رضي الله عنهما - قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة قِبَلَ نجد، فأَركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وادٍ, كثير العَضَاة(1)، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها. قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر. قال: فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «إن رجلاً أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صَلتًا(3) في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟ قال: قلت: اللَّه، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت: اللَّه. قال: فشام السيف(4)، فها هو جالس»، ثم لم يعرض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5)، ومع هذا العفو والصفح كان من أشجع الناس، بل إنه قد بلغ فيها مكانة عظيمة لم يصل إليها أفذاذ الأبطال كخالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب وغيرهما ممن عرفوا بالبطولات والشجاعات النادرة، ففي صحيح مسلم عن أبي إسحاق قال: جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: أشهد على نبي اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ما ولىَّ، ولكنه انطلق أَخِفَّاءُ من الناس وحُسَّرٌ(6) من هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة، فرموهم بِرَشق من نبل، كأنها رِجلٌ من جراد(7) فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. اللهم نَزِّل نصرك». قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يُحَاذِي به، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الجواب الذي أجاب به البراء - رضي الله عنه - من بديع الأدب، لأن تقدير الكلام: أفررتم كلكم؟ فيقتضي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وافقهم في ذلك، فقال البراء: لا والله ما فر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن جماعة من الصحابة جرى لهم كذا وكذا(8)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث عن نفسه: أنا ابن عبد المطلب، ونسب نفسه إلى جده دون أبيهº لأن شهرته بجده أكثر، وقد توفى عبد اللَّه شابًا في حياة أبيه عبد المطلب، وكان عبد المطلب مشهورًا شهرة ظاهرة شائعة، فإن قيل: كيف يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا ابن عبد المطلب» مع أنه لا يجوز أن يضاف عبدٌ إلا اللَّه - عز وجل -؟ فالجواب: إن هذا ليس إنشاءً، بل هو خبر، فاسمه عبد المطلب ولم يسمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعد هذا إقرارًا ولكنه خبر عن أمر واقع، والحديث يفيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت في الميدان شجاعًا قويًا، حتى ثاب إليه أصحابه، وقاتل بهم حتى انتصر نصرًا ساحقًا على أعدائه، وأمسوا في قبضته، ولهذا الموقف نظيره في أحد أيضًا، ومثل هذه المواقف تدعو أصحاب البصائر إلى وجوب الإيمان برسالته واتباع دينه توخيًا للحق، وطلبًا للنجاة من العذاب، وفوزًا بالنعيم المقيم الذي أعده رب العالمين لمن آمن وصدَّق واتبع خاتم الأنبياء والمرسلين - صلى الله عليه وسلم -، ولقد أخذ اللَّه العهد الميثاق على جميع الأنبياء والمرسلين أن يؤمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث فيهم، وأن هذا شرع شرعه وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم. قال - تعالى -: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين [آل عمران: 81]. قال القاسمي - رحمه الله -: «اعلم أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - قطعًا لعذرهم وإظهارًا لعنادهم، ومن جملتها ما ذكره اللَّه - تعالى -في هذه الآية، وهو أنه - تعالى -أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم، وإن كان ناسخًا لبعض أحكامهم بما دلت الحكمة على اقتضاء الزمان ذلك، آمنوا به ونصروه أيضًا، ولا يمنعهم ما هم فيه من العلم والنبوة من اتباع شرعه ونصره، وأخبر أنهم قبلوا ذلك، وحكم بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين...، وقد روى عن علي بن أبي طالب وابن عباس - رضي الله عنهما -: ما بعث اللَّه نبيًا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث اللَّه محمدًا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، ومن أثر علي هذا فهم بعض العلماء اختصاص هذا الميثاق نبينا - صلى الله عليه وسلم - كما نقل القاضي عياض في الشفاء عن أبي الحسن القابسي قال: اختص اللَّه - تعالى -محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بفضل لم يؤته غيره أبانه به، وهو ما ذكره في هذه الآية»(9).

 

وقد غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما رأى في يد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أوراقًا من التوراة وأخبر أنه لو اتبع أحد موسى - عليه السلام - بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - لكان من الضالين.ففي مسند أحمد عن عبد اللَّه بن ثابت - رضي الله عنه - قال: جاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول اللَّه، إني مررت بأخٍ, لي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال عبد اللَّه - يعني ابن ثابت - فقلت: ألا ترى ما بوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال عمر: رضينا بالله - تعالى -ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً. قال: فسرى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: «والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين»(10).

 

فالرسول - صلى الله عليه وسلم - إذًا هو النبي الخاتم الذي لو وجد في أي عصر لكان هو الواجب الطاعة والاتباع المقدم على غيره من جميع الأنبياء والمرسلين، وكان إمامهم لما اجتمعوا ببيت المقدس ليلة الإسراء، وقد أخبر اللَّه في كتابه أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يعرف أحدهم ولده ولكنهم يكتمون الحق مع وضوحه، قال - تعالى -: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون [البقرة: 146]، وقد شهد بعض علماء أهل الكتابين بالنبوة والرسالة لرسول الهدى والرحمة - صلى الله عليه وسلم - واتبعوه ودخلوا في دينه، وأكتفى هنا بذكر شهادة بعضهم، ففي البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: بلغ عبد اللَّه بن سلام مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خبرني بهن جبريل آنفًا». فقال عبد اللَّه: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها». قال: أشهد أنك رسول اللَّه، ثم قال: يا رسول اللَّه، إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فجاءت اليهود ودخل عبد اللَّه البيت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي رجل فيكم عبد اللَّه بن سلام؟ قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا وأخيرنا وابن أخيرنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفرأيتم إن أسلم عبد اللَّه؟ قالوا: أعاذه اللَّه من ذلك، فخرج عبد اللَّه إليهم، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه(11).

وشهادة عبد اللَّه بن سلام وهو من أعلام اليهود قبل إسلامه لمن أعظم الشهادات لنبينا - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة والرسالة، وقد بينت هذه الشهادة أن اليهود قوم بهت وأصحاب ضلالات وانحرافات استحقوا بها غضب اللَّه عليهم، نعوذ بالله من الخذلان. وللحديث صلة إن شاء اللَّه.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البخاري كتاب اللباس (ج10/275).

(2) هي كل شجرة ذات شوك.

(3) صلتا: بفتح الصاد وضمها، أي: مسلولاً.

(4) فشام السيف يعني: غمده ورده في غمده.

(5) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد باب 84 جـ6/96، ومسلم في كتاب الفضائل باب 4 (ج5/1786) واللفظ له.

(6) أخفاء من الناس وحسر: فسر في رواية أخرى بأنهم شباب خرجوا مستعجلين ليس عليهم سلاح ولا معهم دروع، وقد واجهوا قومًا رماة من المشركين.

(7) يعني كأنها قطعة من جراد. قال في النهاية: الرجل بالكسر: الجراد الكثير.

(8) انظر شرح النووي على مسلم جـ12/117.

(9) محاسن التأويل جـ4 /875 - 876.

(10) مسند أحمد جـ4/265، 266.

(11) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب أحاديث الأنبياء باب 1 جـ6/362

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply