عندما دخل شهر ذي القعدة، في العام السابع للهجرة أخذ رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، بالاستعداد للذهاب إلى مكة المكرمة، ليعتمر عمرة القضاء {1} في الشهر الذي صده فيه المشركون بالحديبية في العام السادس من الهجرة من قابل، ثم أمر ألا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية، وخرج، بعد أن أحرم من باب مسجده الشريف، في ألفي رجل، واختار مئة فرس، وأخرج منها مفرزة، جعل قيادتها لمحمد بن مسلمة الأوسي، وبذل سعد بن عبادة سيد الخزرج، أموالا كثيرة لإطعام المعتمرين، وبدأ المسلمون بالتلبية ومعهم رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهم يقولون: لا إله إلا الله، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ودخل رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، إلى الحرم ثم طاف ومعه المسلمون يطوفون حول البيت سبع مرات، ثم خرج إلى الصفا وسعي بينه وبين المروة، ثم رأسه ونحر هديه، وأتم المسلمون طوافهم بالبيت آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين كما قال - تعالى -: \"لقد صدق الله رسوله بالرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا (2) قريبا 3.
وأقام رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، في مكة المكرمة ثلاث أيام، حسب شرطه مع قريش في الهدنة المعقودة بينه وبينهم في الحديبية، ولم يمهله المشركون، حتى يتم زواجه من ميمونة في منطقة سرف القريبة من مكة المكرمة. ومن ثم رجع إلى المدينة المنورة…
غزوة الفتح الأعظم:
سبق هذه الغزوات أخرى، إلا أن أهم غزوة سبقت غزوة الفتح الأعظم، هي غزوة مؤتة {4}، وذلك أن رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، غضب غضبا شديدا عندما قتل شرحبيل بن عمرو الغساني رسول النبي، - صلى الله عليه وآله وسلم -، إلى أمير بصرى في السنة السادسة للهجرة. فصبر - عليه الصلاة والسلام - حتى تهيأت له أسباب القصاص، عندئذ، حض المسلمين على الخروج، فاجتمع له ثلاثة آلاف مقاتل، ووقف فيهم قائلا: \" زيد بن حارثة أمير الناس، فإن أصيب زيد فالأمير جعفر بن أبي طالب، وإن أصيب جعفر فالأمير عبد الله بن رواحة، وإن أصيب عبد الله فليرتض المسلمون رجلا من بينهم \". ثم أمرهم بأن يدعوا الناس هناك للإسلام، فإن رفضوا قاتلوهم، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل رحيل الجيش: \" أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا غزوا باسم الله في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، ولا تغدروا ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة، ولا كبيرا فانيا، ولا منعزلا بصومعة، ولا تقربوا نخلا، ولا تقطعوا شجرة، ولا تهدموا بناء، وإذا لقيتم العدو فادعوه إلى الإسلام فإن قبلوه فأخبروهم ما لهم وما عليهم، وإن أبوا فاستعينوا بالله عليهم وقاتلوهم..... \". وانطلق جيش المسلمين حتى وصل إلى مؤتة، فلما سمع شرحبيل بن عمرو الغساني بمقدم جيش المسلمين، قام وجمع أكثر من مئة ألف محارب من الروم، وضم إليهم خمسين ألف من القبائل العربية المنتصرة، وخلف الجميع كان هرقل نفسه، يراقب سير الأحداث. وكانت ساعة الصفر، حيث بدأ القتال بين قوتين غير متكافئتين عددا وعددا، فاستشهد زيد بن حارثة طعنا برماح الروم، فأخذ اللواء جعفر بن أبي طالب، وخاض غمار الحرب ببسالة منقطعة النظير، حتى جاءته ضربة قطعت يمينه، فأخذ اللواء بشماله، فجاءته ضربة أخرى قطعت شماله، فحمل اللواء بعضديه حتى استشهد، فأخذ اللواء عبد الله بن رواحة، وخاض المعركة القاسية التي يشيب من هولها الغلمان، حتى استشهد وسقط اللواء، فهرب المسلمون، إلا أنهم عادوا عندما رفع الراية خالد بن الوليد {5}، - رضي الله عنه -، الذي استطاع بحنكته الحربية، أن يجمع شمل المسلمين وينقذهم، بعد أن قرر الانسحاب من هذه المعركة الغير متكافئة، وشكل قوة لحماية الانسحاب، وعندما نظر الروم إلى جيشه الذي عاد ثانية إلى القتال ظنوا بأن المدد قد وصل إلى المسلمين، فدخل الرعب إلى قلوبهم، ثم رجع خالد بن الوليد بالمسلمين إلى الوراء، ورجع الروم، وكفى الله المسلمين شر هذه المعركة، وعادوا إلى المدينة بالنصر المؤزر.
والآن عزيزي القارئ تعال إلى حديث الفتح الأعظم، الذي كان حدثا تاريخيا أزال وإلى الأبد، عبادة الأوثان والأصنام، وفتح الباب أمام انطلاق الإسلام إلى ربوع الجزيرة العربية كلها، ومن ثم إلى خارج نطاق الجزيرة العربية. فقد نقضت قريش بنود معاهدة الحديبية {6}، عندما نصرت بني بكر على بني خزاعة، الذين كانوا بيت نصح لله ورسوله وللمؤمنين وهم الذين قال فيهم رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -: \" خزاعة مني وأنا منهم \". شعرت قريش بالحرج، وتوقعت أن يغزوها رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأن لم يتداركوا الأمر، فبعث أبا سفيان بن حرب، ليفاوض الرسول الكريم، - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويتفق معه على تجديد المعاهدة وتمديدها إن أمكن ذلك، ولكن أبا سفيان عاد إلى مكة خائبا، فلقي من المشركين ومن زوجته هند بنت عتبة تعنيفا وتوبيخا، عندئذ أوعز رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى جميع القبائل بالقدوم إلى مكة، حتى تكامل العدد الذي يريد، ليزحف به على مكة، ثم جمع قادة جيشه من المهاجرين والأنصار، واستشارهم في غزو مكة، بعد أن أوضح لهم، أن قريشا نقضت عهدها وغدرت بحلفائه بني خزاعة، فوافقوه جميعا ومن بينهم عمر بن الخطاب الذي وقف قائلا: يا رسول الله إن قريشا رأس الكفر، والله لا تدين العرب بدينك إلا إذا دانت قريش.. ثم انصرف الصحابة يتجهزون حتى يصدر رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، أمره بالخروج. وفي يوم الاثنين وفي التاسع من رمضان وفي السنة الثامنة للهجرة، خرج رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، على رأس جيش مؤلف من عشرة آلاف مقاتل يريد مكة، بعد أن جعل كلثوم بن حصين الغفاري أميرا على المدينة المنورة لحفظها وحمايتها، واستخلف على الصلاة عبد الله ابن أم كلثوم، وأعطى اللواء الأعظم للزبير بن العوام، وراية المهاجرين لعمر بن الخطاب، وراية الخزرج لسعد بن عبادة، وراية الأوس لأسيد بن حضير، وتابع مسيره حتى وصل إلى مشارف مكة، حيث قدم إليه مخرمة ابن نوفل وعمه العباس بن عبد المطلب، فآمنا وأعلنا إسلامهما، وتابع رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، إلى أن وصل إلى منطقة قريبة من مكة تدعى: مر الظهران، فعسكر هناك للاستراحة، بعد أن أشعل المسلمون نيرانا كثيرة، فأسرع أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، ليستطلعوا الأمر، وكان أن هداهم الله - تعالى -إلى هذا، ليعلنوا إسلامهم وإيمانهم، وهنا قال رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم - قولته المشهورة: \" من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن \". ولهذا انطلق أبو سفيان وقبل دخول المسلمين إلى مكة، وهو مبهور مذعور، ليحذر قريشا قائلا: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل داري فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن... فخاف الناس وارتعدوا وتفرقوا إلى دورهم، وإلى المسجد الحرام، وإلى دار أبي سفيان، ودخل جيش الهدى والإيمان، جيش الرحمة والإنسانية، إلى مكة مظفراً دون أن يلقى أية مقاومة تذكر، في العشرين من شهر رمضان عام ثمانية هجرية، يتقدمهم رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم - على ناقته القصواء {7}، يحف به كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، حتى بلغ الكعبة، ثم كبر فكبر المسلمون، ثم طاف بالبيت سبعا، ثم انهال على الأصنام المنصوبة حول الكعبة، وأخذ يكسرها ويحطمها وهو يقول
قل جاء الحق وزهق الباطل *** إن الباطل كان زهوقا 8
ثم اتجه إلى المسجد أمام الكعبة وقال مخاطبا أهل مكة: يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا،، أخ كريم وابن أخ كريم فقال رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي لم يكن يغضب لنفسه، بل كان غصبه ورضاه لله - تعالى -: اذهبوا فأنتم الطلقاء أحرارا آمنون ولا أقول إلا ما قال يوسف لإخوته: لا تثريب (9) عليكم، اليوم يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين 10..
ثم بايع أهل مكة، رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، على السمع والطاعة لله ولرسوله، ومن جملتهم معاوية ويزيد ابنا أبي سفيان، أما النساء فقد بايعن رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -..
على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن (11) ولا يعصينك في معروف 12..
----------------------------------------
1- عمرة القضاء: وتسمى عمرة القصاص.
2- هو فتح خيبر.
3- الآية 27 من سورة الفتح.
4- مؤتة: قرية من بلاد الشام، قريبة من البحر الميت.
5- أسلم خالد بن الوليد في مكة في شهر المحرم من السنة الثامنة للهجرة.
6- تنص المعاهدة على ألا يعتدي أي طرف على أي قبيلة تحالف أحد الطرفين.
7- الناقة القصواء: مؤنث الأقصى، وهو ما قطع قليل من طرف أذنه.
8- الآية 81 من سورة الإسراء.
9- لا تثريب عليكم: لا لوم عليكم.
10- الآية 92 من سورة يوسف.
11- أي لا يأتين بولد لقيط ينسبنه إلى زوجه.
12- الآية 12 من سورة الممتحنة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد