حض القرآن الكريم على الصبر والمصابرة، وجعل من الصبر ركيزة أساسية، وعاملا حاسما لإقامة الدين في النفس والأرض، قال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} (البقرة: 153)، وقال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} (آل عمران: 200)، وقال - تعالى - عن أنبيائه ورسله مبيناً أعظم ركائز الإمامة والاستخلاف في الأرض: {وجعلنا منهم أَئمة يهدون بأَمرنا لما صبروا} (السجدة: 24) ولما كان الصبر بهذه المنزلة من الدين، فقد كان سمة ظاهرة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته -رضوان الله عليهم-، خصوصاً في مرحلة الدعوة الأولى - المرحلة المكية -، فقد أوذي النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، بشتى أنواع العذاب المعنوي والمادي، ولكنهم تجاوزوا كل ذلك بعزيمة لا تقهر، وصبر لا يفتر.
لقد واجه المشركون النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وصحابته بالدعاية المغرضة، فقد سخروا منه ومن رسالته، {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} (الحجر: 6)، ورموه بالسحر والكذب {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} (صّ: 4)، ونسبوه إلى الكهانة والشعر، واستهزؤوا بأصحابه، فقالوا {أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا} (الأنعام: من الآية53)، وجعلوهم مثارا للغمز والضحك {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون} (المطففين: 29، 30)، وسعوا لتشويه حقيقة القرآن، وإثارة الشبهات حوله، فتارة يقولون: {أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} (الفرقان: 5)، وتارة يقولون: {إنما يعلمه بشر} (النحل: 103)، ومرة أخرى يحاولون صد الناس عن سماع القرآن والتشويش عليهم فيقولون {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} (فصلت: 26). هذا هو موقفهم من كتاب الله - عز وجل -.
وأما موقفهم من الإيمان باليوم الآخر فقد بينه الله - تعالى - في كتابه، حين قال الكافرون: {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد (7) أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد} (سبأ: 7-8) بل جرهم كبرهم وكفرهم إلى أن قالوا: {إن هي حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} (الأنعام: 29) ويقسمون على إنكار البعث بالأيمان المغلظة {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (النحل: 38).
أما الأذى المادي، فقد تجرأ المشركون على شخص الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وضايقوه وجعلوا يرمون أمام بيته الأوساخ، بل إن بعضهم وضع على ظهره الشريف أمعاء وأحشاء الإبل وهو ساجد لله بجوار الكعبة.
وبعضهم اجتمع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد ضربه، وكان أبو لهب من أشد الناس أذية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذا زوجته أم جميل التي كانت تضع الشوك في طريق الرسول، والقذر على بابه.
أما العصبة المؤمنة، فقد ذاقت صنوفا من العذاب الشديد، فمنهم من وضع في الرمضاء تحت شمس مكة المحرقة، ومنهم من منع الطعام والشراب، ومنهم من وضع عليه الصخر والحجر، وكان شعاره: أحد - أحد، ومنهم من استشهد تحت وطأة التعذيب، وكانت المحاصرة والمقاطعة في شعب أبي طالب ثلاث سنوات كاملة.
ومنهم من ضرب بالنعال وهو يطوف بالمسجد الحرام، ومنهم من جلد على وجهه، وكان من أشد أنواع الأذى الذي تلقاه أصحاب رسول الله سب المشركين لدين الإسلام وللرسول - عليه الصلاة والسلام -.
ولم يكتف المشركون بما فعلوه، بل واصلوا حقدهم وكيدهم حتى في وقت الهجرة، فمن الطرق التي سلكتها قريش في صد المؤمنين عن الهجرة التفريق بين الرجل وزوجه وولده، فمن ذاك ما حصل مع أبي سلمة وزوجه، وتعرضوا للمؤمنين المهاجرين، وحاولوا إعادتهم إلى مكة عن طريق الاختطاف، وكان كل من يقع تحت وطأة قريش يحبس عن الهجرة ويجرد عن ماله، وعن دابته.
ومع كل ما سبق، فإن هذا لم يكن ليصد الفئة المؤمنة عن طريق الحق، أو ليضعف من قوتها وعزمها، بل واصلت مسيرتها الدعوية بثبات وجد وصبر واحتساب للأجر، فأفاض الله عليهم الفرج بعد الشدة، وأعزهم وأعلى شأنهم ونصر الدين على أيديهم، وأتم عليهم نعمه العظيمة، وصدق الله إذ يقول:{يا أَيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} (محمد: 7).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد