فقه الحديبية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

حدثٌ عظيم من أحداث السيرة النبوية نتوقف عنده، وكلٌّ السيرة النبوية تستحق الوقفة والتأمل، حادثةٌ يحتاج كل مسلم أن يقرأها، ويحتاج العلماء والقادة والدعاة وطلبة العلم والمفكرون أن يتوقفوا عندها مليّاً يستلهمون عِبرها، ويعون فقهها ودلالتها.

إننا نحتاج إلى فقه السيرة في كل حين، ولكن حاجتنا إليها في وقت الأزمات والشدائد أشد، ونحتاج إلى (فقه الحديبية) في كل حين، ولكن حاجتنا إليها أشدّ في زمان تفوٌّقِ الخصوم، وضعف المسلمين، وضرورة الخروج من المأزق بسلام، وتحقيق أكبر قدر من المكاسب بأدنى الخسائر بسياسة ووعي، وتحويل الهزيمة إلى نصر، والدنيَّة في الظاهر إلى فتح مبين على صعيد الواقع.

الحديث عن صلح الحديبية وإن شئت فقل (فتح الحديبية) وإن شئت فقل (الفتح المبين) أو (فتح الفتوح) يفتح لنا نوافذ في (فقه التعامل مع الآخرين) ويرشدنا إلى المبادرات الواعية والتخطيط العميق والتحوٌّط للسلامة، والأخذ بالأسباب المشروعة، وإلى اتهام أنفسنا ومراجعة مواقفنا على ضوء هدي المرسلين.

صلح الحديبية (درسٌ في الأخلاق النبوية) و (فصلٌ حكمٌ في العلاقات الدولية) و (فيصل في تحقيق وتطبيقات الولاء والبراء) و (نموذج رفيع في تحقيق المصالح العليا، وإن صاحَبَها شيءٌ من التنازلات الدنيا).

والحديث عن (فقه الحديبية) لا يعني ترسيخ مفهوم (التنازل) عن مسلَّمات الدين، ولكنـه درسٌ عملي فـي (فقـه التنازلات أو المـوازنات) متـى وكيـف تكـون؟ ولا يعني قبول (الدنية في الدين) بل هو اختيارٌ واعٍ, للسياسة الشرعية التي تحقق أعلى المكاسب للإسلام والمسلمين.

(فقه الحديبية) يحسم جدلاً بين نظرتين (جافية، وغالية) ويرسم منهجاً (وسطاً) لتحقيق (مفهوم الولاء والبراء) بين طرفي نقيض لا يُقيم أحدهما وزناً لأحكام الشريعة ومدلولات العقيدة في هذا الأمر المهم من الدين، ويُغالي طرفٌ أخر فيعتبر كلّ تصرفٍ, وكلّ تعاملٍ, مع الكفار هادماً لأسس الولاء نابذاً لمفهوم البراء.

ما أحوجنا إلى التوسط والاعتدال (وهي سمة أمتنا، وشعار ديننا) وإذا اختلفنا كان هديُ رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - حَكَماً بيننا.

تعالوا لنقرأ قراءة واعية متأملة شيئاً من أحداث قصة الحديبية عبر عددٍ, من الوقفات والدروس حتى نضبط مواقفنا، ونقتدي بقدوتنا رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -.

1 ـ المبادرة الواعية:

عجباً لك يا محمد! وأنت تباغِتُ قريشاً في عُقر دارها وتبادرها وتتجاوز تهديدها وتحزٌّبَ أحزابها. أجل! لقد أطبق المشركون والأحزاب على المدينة في شوال من السنة الخامسة، وكانوا يرومون أن تكون وقعة الخندق نهايةً للإسلام والمسلمين، وقد بلغ الكربُ بالمسلمين إلى الحد الذي قال الله عنه: {وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الـحَنَاجِرَ وَتَظُنٌّونَ بِاللَّهِ الظٌّنُونَا * هُنَالِكَ ابتُلِيَ الـمُؤمِنُونَ وَزُلزِلُوا زِلزَالاً شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 - 11]، وردَّ الله الأحزاب عن المدينة بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتالº لكن أن تكون هذه الغزوة آخر غزوة للمشركين على المدينةº فتلك آية، وأن يصدق فيهم حديثه - صلى الله عليه وسلم -: «الآن نغزوهم ولا يغزونناº نحن نسير إليهم»(1)º فتلك من علامات النبوة.

ولكن الأمر أعجب حين يستعدٌّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمبادرة المشركين، ويخرج بالفعل في ذي القعدة من السنة السادسة متجهاً إلى مكة (عام الحديبية).

نعم! إن (المبادرة) نهجٌ في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن تأمل، وهي تبدو واضحة المعالم فيما نحن بصدده من (صلح الحديبية).

والمبادرة إجمالاً ليست خروجاً من المأزق فحسب، بل إرباكاً لسياسة العدو وإحباطاً لمخططاته. وحين ملك المسلمون زمام المبادرة ـ فيما مضى ـ كانوا سادة الدنيا، وعدوّهم يتخوفهم ويحسب لهم ألف حساب، وحين فاز بالمبادرة الأعداء باتوا يفاجئون المسلمين هنا وهناك، ويصيبونهم بالنازلة تلو الأخرىº فهل نعي ونقدر قيمة المبادرة؟ وكيف كانت سياسته - صلى الله عليه وسلم - للمباغتة؟

2 ـ التخطيط لمباغتة العدو:

استطاع رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوة يقينه وتوكله على الله وحسن سياسته وعميق تخطيطه أن ينجح في مباغتة عدوه:

أ ـ فهو حين أراد الخروج للحديبية استنفر العرب كافةً للخروج، وجيّشهم للذهاب معه إلى مكةº حتى إذا أبطأ عليه المخلَّفون من الأعراب الذين تشاغلوا بالأهل والأموال، وظنوا ظن السوء أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً، لم يتأخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مشروعه، بل خرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، كما قال ابن إسحاق(1).

ب ـ وأعلن في خروجه أنه يريد تعظيم البيت والطواف به، ولذا أحرم بالعمرة من ذي الحليفة وقلّد هديه وأشعره، ومهما استكبرت قريشٌ في رفض حقِّ المسلمين في قصد البيت الحرامº فالعرب عامة تنكر الصدّ عن البيت لمن قصدهº بل وفي بعض حلفاء قريش وأتباعها متألهون يستعظمون ردّ من أشعر الهدي وقلَّده، وفي قصة بعث قريشٍ, (الحُلَيس بن علقمة الكناني) سيد الأحابيش ما يشهد لذلك، وقد تأثر بمشهد الهدي المقلّدة حين رآها وقال لقريش: «ما أرى أن يُصَدوا عن البيت»(2)، فـردت عليه قريش بكبرياء وغطرسة: (اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك) فغضب (الحُلَيس) وقال: يا معشر قريش! والله ما على هذا حالفناكم! أيُصدٌّ عن بيت الله من جاء معظِّماً له؟ والذي نفس الحليس بيده! لَتُخَلٌّنَّ بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرنَّ بالأحابيش نفرةً رجلٍ, واحد»، قالوا: مَه، كُفّ عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

وهكذا نجح رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذه المباغتة المخطط لها في خلق أجواء المنافرة والاختلاف بين (الخصوم) وتلك واحدةٌ من آليات التخطيط لإضعاف الخصوم.

ج ـ وفي سبيل التخطيط للمباغتة لم يتحرك رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - دون علم بواقع عدوِّه، بل كان الرصد واستنفار العيون لتكون المباغتة مدروسة، والخِطة متكاملة، والمعلومات دقيقة ومتوفرة، وقد كانº فمِن (ذي الحليفة) بعث (بشر بن سفيان الخزاعي) عيناً له إلى قريش ليأتيه بخبرهم(3).

وعندما وصل المسلمون (الروحاء) (على بعد 73 كيلو متراً عن المدينة) جاءه نبأ عدوٍ, بـ (غَيقَة) فبعث إليهم بعض أصحابه، وعندما وصلوا (عُسفان) (على بعد 80 كيلو متراً من مكة) جاءهم سفيان بخبر قريش. وهكذا يعتمد النبي - صلى الله عليه وسلم - على المعلومة والرصد الدقيق للتعرف على عدوّه، وهذا سبقٌ للمسلمين في الرصــد والتحــري وقيمـة المعـلومة في كل حال لا سيما في التعامل مع الأعداء.

وفي الجملة فقد استطاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمبادرته وتخطيطه أن يُحطِّم كبرياء قريش، وأن يشعرهم بقوة المسلمينº إذ أضحت خيلهم على مقربة من مكة، وجُنّ جنون قريش وطار صوابها، ثم تنادوا وتواصوا ألا تسمع العرب أن محمداً دخل عليهم مكة عنوة، ورضوا راغمين أن يدخلها عليهم في عام قابل. وكانت مبادرة الحديبية ـ بحق ـ مسماراً يُدَقٌّ في نعش الملأ من قريش، وبداية النهاية للمستكبرين، وكانت للمسلمين مقدمة للنصر، مؤذنة بالفتوح، كيف لا وقد سماها الله فتحاً مبيناً، ثم كانت بداية لفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجاً، بل بوابة ومنطلقاً لفتوح أخرى.

3 ـ التحوّط للسلامة والأخذ بالأسباب المشروعة والحربُ ليسـت هدفاً بذاتها:

ومحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤيَّدٌ من ربّه ولكنه مُعلِّمٌ لأمته، ولذا يحتاط في أموره ويأخذ بالأسباب المشروعة، وهو داعيةٌ للإسلام ويجنح للسلام، لا يتعطش للدماء بل يعظم ما حرم الله، ولذا نجده في صلح الحديبية يُصلي بأصحابه صلاة الخوف في عُسفان حين بلغه قرب خيل المشركين(4).

وليتفادى الاشتباك مع المشركين سلك طريقاً وعرة عبر ثنية المرار (مهبط الحديبية) وعندما بركت ناقته القصواء في الحديبية وقال الناس: خَلأَت القصواء، قال: «ما خلأت، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألونني ـ يعني قريشاً ـ خُطة يعظِّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها»(5).

ورغم عدوان قريش وكبريائها فقد ظل - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على إسلامهم، مفضلاً حقن الدماء بينه وبينهم، متحسراً على أكل الحرب لهم، وقد عبّر - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك كلّه بقوله: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحربº ماذا عليهم لو خلٌّوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون»(6).

4 ـ التعامل مع الكفار، ومتى يُستعان بالمشرك؟

يحسب من لا فقه عنده أن أي تعامل مع المشركين هو في حساب التنازلات المرفوضة، وأن أي تعاونٍ, مع نفر منهم هو مناقضٌ للبراءة منهم، وأن أي استجابة لمطالبهم تعد نقيصة في الدين، وضعفاً في التعامل معهم، ولكن سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - تصحح هذا المفهوم، وفي صلح الحديبية استعان رسول الله بالمشركين، وأعلن استجابته لمطالب الكافرينº فكيف وقع هذا وذاك؟

لقد كان (بشر الخزاعي) عينَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المشركين، وهو لم يُسلم بعدُ، بل كانت (خزاعة) عيبة نصح رسول الله(ü) (مسلمهم وكافرهم) لا يخفون عليه شيئاً كان بمكة(1).

قال ابن القيم معلقاً: وفي قصة الحديبية من الفقه أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجةº لأن بشر الخزاعي كان كافراً إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو، وأخذه أخبارهم(2).

وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على قول (بُديل بن ورقاء الخزاعي) ناصحاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج عام الحديبية: لقد غزوت ولا سلاح معك، فقال: لم نجئ لقتال، فتكلم أبو بكر، فقال بُديل: أنا لا أُتَّهم ولا قومي»، قال ابن حجر: والحديث فيه جواز استنصاح بعض المعاهَدين أهل الذمة إذا دلت القرائن على نصحهم، وشهدت التجربة بإيثارهم أهل الإسلام على غيرهم، ولو كانوا من أهل دينهم، ويستفاد منه: جواز استنصاح بعض ملوك العدوّ استظهاراً على غيرهم، ولا يعدٌّ ذلك من موالاة الكفار ولا موادة أعداء الله، بل من قبيل استخدامهم وتقليل شوكة جمعهم، وإنكاء بعضــهم ببعـض، ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق(3).

أما استجابته - صلى الله عليه وسلم - لأي طلب من المشركين تُعظَّم فيه حرمات الله كما سبق فقد علق عليه ابن القيم ـ كذلك ـ بقوله: ومن الفوائد في صلح الحديبية أن المشركين وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمراً يعظمون فيه حرمةً من حرمات الله ـ - تعالى -ـ أجيبوا إليه وأُعطوه وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيُعانون على ما فيه تعظيم حرمات الله لا على كفرهم وبغيهم، ويُمنعون مما سوى ذلكº فكل من التمس المعاونة على محبوبٍ, لله ـ - تعالى -ـ مُرضٍ, له أجيب إلى ذلك كائناً من كان ما لم يترتب على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس، ولذلك ضاق عنه من الصحابة من ضاق، وقال عمر ما قال، حتى عمل له أعمالاً بعده(4).

5 ـ فقه التنازلات، أم فقه الموازنات؟

ليس كل تنازل للأعداء مرفوضاً، وليست كل استجابة لمطالبهم أمراً منكَراًº والفقه في ذلك تحقيق أعلى المكاسب بأدنى التنازلات، والوصول إلى الخير المحبوب وإن مرّ ببوابة المبغَض المكروه، والموازنة بين المصالح والمفاسد. والمتأمل في شروط الحديبية يرى فيها الغبن والحيف ظاهرين على المسلمين من الكافرين في إملاء الشروطº ألم يمنعوا المسلمين من كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) وقالوا: لا نعرف إلا رحمان اليمامة، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فرفض المسلمون وأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم رفضوا كتابة (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)، وقالوا: لو نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني رسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله، وكانت هذه الاعتراضات منهم (حميـةً جاهلية) كما أخبر الله عنهم في كتابه، وإلا فقد تحققوا صدقه - صلى الله عليه وسلم -، وأيقنوا صحة رسالته بالبراهين التي رأوها وسمعوا بها(5)، حتى إذا وصلوا إلى شرط: على ألا يأتيك منا رجلٌ وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله! كيف يُرَدّ إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ وفي تلك الأثنء قدم (أبو جندل بن سهيل) يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال أبوه (سهيل): هذا يا محمـــد أول ما أقاضـيك عليه أن تردّه إليّ، فقــال النبــي - صلى الله عليه وسلم -: إنّا لم نقض الكتاب بعدُ، فقـال سهيـل: إذاً والله لا أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فأجزه لي! فرفض سهيل، ثم استصرخ أبو جندل (المسلمين) وحرّك عواطفهم قائلاً: يا معشر المسلمين! أُرَدٌّ إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عُذِّب في الله عذاباً شديداً، فتأثر المسلمون، وكان عمر من أشدهم تأثراً حتى أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله! ألستَ نبي الله حقاً؟ قال: بلى! قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى! فقلت: علامَ نعطي الدنية في ديننا إذاً، ونرجع ولم يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: إني رسول الله وهو ناصري، ولست أعصيه.

قال ابن القيم: ومن فوائد قصة الحديبية: أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة، ودفع ما هو شرُّ منه، ففيه دفعُ أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما(6).

وهكذا يكون الفقه في التنازلات تحقيق المصلحة الكبرى، وإن وقع مفسدة أقل. وما أحوجنا إلى هذا الفقه! وهو الذي قال عنه ابن القيم: وهذا من أدق المواضع وأصعبها، وأشقها على النفس(7).

نعم! إن رفض الآخر سهلٌ، والقطع بعدم التفهم والتعاون مع المخالفين لا يحتاج مزيد فقه، ولكن هل يحقق الخير المطلوب، وهل ينكأ العدو، وماذا يترتب عليه من المفاسد؟

تلك قضايا لا بد من إعادة النظر فيها في تعاملنا مع أعدائنا وتحقيق المكاسب لإسلامنا على هدي السيرة النبوية.

أما رسول الله محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -º فقد استسهل ما استصعبه غيره من المسلمين، وكان ينظر بنور الله إلى ما وراءه من الفتح العظيم، وقد كان، فحصل له العزّ حين صدق وانكسر لله، وذلّ غيرُه وقُهِرَ حيث طغى واستكبر(1).

6 - اتهام النفس والرأي:

كم نزكي أنفسنا والله يقول: {فَلا تُزَكٌّوا أَنفُسَكُم} [النجم: 32] وكم نصحح مواقفنا ونُخطِّئ غيرناº وأحد الصحابة (سهل ابن حنيف، رضي الله عنه) يقول حين قدم من (صِفِّين): اتَّهِموا الرأيº فلقد رأيتُني يوم أبي جندل (الحديبية) ولو أستطيع أن أردّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره لرددت، واللهُ ورسولُه أعلم(2).

إن حق المسلم أن يجتهد في رأيه، ولكن مع تقدير آراء الآخرين، وليس بالضرورة أن يكون اجتهاده هو الحق، بل قد يكون الحقّ مع مخالفيه، ولذا ينبغي ألا يشتط المسلم على إخوانه المسلمين، إن خالفوه الرأي، بل ينبغي أن يعود إلى نفسه ويتهمها، وليست القوة بالمعارضة أبداً، ولا يعني أن المسلم الموافق لغيره ضعيفٌ جبانٌ.

وفي تباين موقف الشيخين أبي بكر وعمر ـ - رضي الله عنهما - ـ في شروط الصلح ما يؤكد هذاº فعمر تأثر للشروط وعارض، وأبو بكر سلّم ورضي، وكان أقوى من غيره إيماناً وتسليماًº حتى قال ابن القيم: والصّدِّيق تلقَّاه بالرضى والتسليم حتى كان قلبه على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك يدل على أنه أفضل الصحابة وأكملهم وأعرفهم بالله ـ - تعالى -ـ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعلمهم بدينه وأقومهم بمحابِّه وأشدهم موافقة له(3).

أجل لقد انبلج الصبح، وأصبح الصلح فتحاً، والغبن في الظاهر نصراً مبيناً، وعاد عمر إلى نفسه يؤنبها حتى كان يصوم ويتصدق ليكفِّر عما سلف منه، وهل كانت منك إلا غيرة على الإسلام يا ابن الخطاب؟ لكنــه فهــــم ـ بعدُ ـ وفهم غيره من الصحابة أن الغيرة ينبغي أن تكون في مكانها، وإن اتهام النفس وارد، وإن التنازل إذا حقق مكاسب عليا فهو السياسة الشرعية والسنة النبوية التي ينبغي أن تقتفى، بل لقد أكرم الله المؤمنين بالنصر العزيز والسكينة المطمئنة كما أخبر في سورة الفتح.

قال ابن القيم: وتأمل كيف وصف ـ - سبحانه - ـ النصر بأنه عزيزٌ في هذا الموطن، ثم ذكر إنزال السكينة في قلوب المؤمنين في هذا الموطن الذي اضطربت فيه القلوب وقلقت أشدّ القلق، في أحوج ما كانت إلى السكينة، فازدادوا بها إيماناً إلى إيمانهم(4).

7 ـ استثمار الفرص وتحييد الأعداء:

تحيٌّن الفرصة المناسبة نجاح، والنجاح الأكبر استثمار الفرص المتاحة لمصلحة الإسلام والمسلمين، والمتأمل في سياق (قصة الحديبية) يرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بارعٌ ومتفوق في استثمار الفرص، فلم يكن نجاحه في (شروط الحديبية) ليقف عند حدود (اعتراف) المشركين بالمسلمين كقوة كبرى تستحق أن يُفاوض معها، وتُهـادن بعد أن كانت قريش تَغيرُ عليها متى شاءت، والعهد قريب بغزوة (الأحزاب)، بل تجاوزت نجاحات النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك إلى (تحييد) قريش في معترك الصراع القائم آنذاك، وكبّلت قريش نفسها بهذه (المعاهدة) فلا تفكرُ بحرب المسلمين على الأقل (عشر سنين) وكان هذا نجاحاً وعمقاً في سياسة محمد - صلى الله عليه وسلم -º وربما خفي على بعض أصحابه.

والنجاح الأكبر والاستثمار الأعظم هو استثمار النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الفرصة (الهدنة) وذاك (التحييد)º فثمة خصـوم آخــرون لا بد من الالتفات إليهم والخلاص منهم، وثمة فرصٌ للدعوة لدين الحق هذا أوانها وميدانها، وقد كان. ففي الجانب الحربي غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - (اليهود) في (خيبر) وأدّبهم، وغنم أموالهم وعقد الصلح معهم، وفي الجانب السلمي تقدمت (الدعوة) خطواتٍ, في أرض الحجاز وما حولها، ودخل في دين الله ـ زمن الهدنة ـ أضعاف ما دخل من قبل. وعن هذه المكاسب الدعوية يقول الزهري ـ - رحمه الله - ـ: «فما فُتح في الإسلام فتحٌ قبله (صلح الحديبية) كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناسº فلما كانت الهدنة ووُضعت الحرب، وآمن الناسُ بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يُكلَّم أحدٌ بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر» ا. هـ.

قال ابن هشام: «والدليل على قول الزهري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة ـ في قول جابر ـ ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف»(5).

قال ابن القيم: «ومن حكم الصلح أن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوحº فإن الناس أمن بعضهم بعضاً، واختلط المسلمون بالكفار وبادؤوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان مختلطاً بالإسلام(1).

لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قادراً على استثمار الفرصº وفي صلح الحديبية درس عظيم للمسلمين للحوار والدعوة واستثمار الفرص، وتحييد الأعداء وإسماع صوت الإسلام لمن يسمع.

8 ـ المستضعفون الأقوياء:

لا ينبغي لأحد أن يغترَّ بقوته، ولا ينبغي لمستضعف حيناً أن يظنَّ أن استضعافه إلى الأبد، وفي قصة الحديبية استقوى الضعفاء، بل كانوا سبباً لتراجع قريشٍ, عن شروطها، ولقد كان أبو بصير (عُتبة بن أسيد الثقفي) وأبو جندل (ابن سهيل بن عمرو) و (الوليد بن الوليد بن المغيرة) نفراً من هؤلاء المستضعفين بمكة(2).

فماذا كان من خبر قائدهم (أبي بصير)؟ لقد فرَّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة بعد توقيع الصلح مع قريش، فأرسلت قريش في طلبه، وما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - بدُّ من إرجاعه وإن أبدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - تخوٌّفه من فتنة المشركين وعذابهم، واكتفى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقول له: «اصبر واحتسبº فإن الله جاعلٌ لك فرجاً ومخرجاً». وخرج أبو بصير مع صاحبيه ليعود إلى مكةº فما جــاوز المدينـة بقليـل ـ قيل: عند ذي الحليفة ـ حتى قَتَلَ أحد الرجلين، وفرّ الآخر هائماً على وجهه مستصرخاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فزعاًº إلى حد أنه كان يعدو عاضّاً على أسفل ثوبه، وقد بدا طرف ذَكَرِه، والحصا يطير من تحت قدميه من شدة عَدوِه، وأبو بصير يتبعه(3).

وحينها قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بصير: «ويلَ أمه! مِسعَرُ حرب لو كان له أحد» ففهم أبو بصير هذه الرسالة، وانطلق إلى الساحل حتى نزل إلى (العيص) (على طريق أهل مكة إذا قصدوا الشام) ثم انضمّ إليه كل من فرّ من قريش من مستضعفي المسلمين بمكة، وشكّلوا هناك قوةً وخطراً على تجارة قريش، وهم خارج إطار الصلح حتى ضاقت قريش بهم، وطلبت من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُلغي الشرط الخاص بمن قدم إليه من المسلمين وأن يستقبل هؤلاء. وهكذا تقوّى هؤلاء الضعفاء بصدقهم وتضحيتهم وصبرهم وجهادهم، حتى كتب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم بالقدوم عليه في المدينة ففرحوا، ولكن قائد المجاهدين أبا بصير لم تكتمل فرحته ولم يُقَدَّر له أن يلتقي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن خرج من المدينةº إذ جاءه كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بصير يموت (كما تقول الرواية) فمات وكتاب رســول الله في يـده، فدفنـه أبو جندل في مكانه، وقدم أصحابه الآخرون إلى المدينة. وكذلك يقوى الضعفاء، ويضعف الأقوياء، والله غالب على أمره.

قال الزهــري: فعلم الذيــن كانــوا أشاروا بأن لا يســلَّم أبو جندل إلى أبيه أن طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرٌ مما كرهوا(4).

قال ابن القيم: وفي هذا من الفوائد جواز صُلح الكفار على ردّ من جاء منهم إلى المسلمين، وأن لا يرد من ذهب من المسلمين إليهم، هذا في غير النساء، وأما النساء فلا يجوز اشتراط ردِّهن إلى الكفار، وهذا موضع النسخ خاصة في هذا العقد بنص القرآن، ولا سبيل إلى دعوى النسخ في غيره بغير موجب(5).

9 ـ العزة والثقة بنصر الله لا تفارق المؤمنين:

المؤمن لا تفارقه العزّة وإن استكبر واستنكف منه المجرمون، وهو واثقٌ بنصر الله لدينه وإن كانت الغلبة في الظاهر لغير المسلمين، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن (صالح) المــشركين و (هادنهم) و (لاينهم) لمصلحة وحكمةº فلم تفارقه (العزة) منذ خرج وحتى عاد إلى المدينة:

أ ـ فهو حين خرج أهدى في جُملةِ هَديِهِ جملاً لأبي جهل في أنفه بُرَّةٌ من فضّة يغيظ به المشركين(6)، وفيه استحباب مغايظة أعداء الله مُستدلاً بقوله ـ - تعالى -ـ: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ} [الفتح: 29]، وقوله ـ - تعالى -ـ: {وَلا يَطَئُونَ مَوطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ} [التوبة: 120].

ب ـ وهو حين بعث عثمان ـ - رضي الله عنه - ـ إلى قريش كان من جُملة مهامه التي أوصاه بها أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين، ونساءً مؤمنات ويبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله مظهر دينه بمكة حتى لا يُستخفى فيها بالإيمان، وأن الفرج قريب، فأعلمهم عثمان بذلك(7).

ج ـ وحين أشيع أن عثمان ـ - رضي الله عنه - ـ قُتل دعا المؤمنين معه إلى (البيعة) وكانت (بيعة الرضوان) على الجهاد والصبر وعدم الفرار، بل ورد أنها على الموت، والجمعُ وارد بين هذه العبارات(8)، وكانت هذه البيعة منه - صلى الله عليه وسلم - ومن المؤمنين نصرة وعزة وانتصاراً لكرامة المسلم المظلوم، وإذلالاً ومعاقبة للظالم المعتدي، وقد رضي الله عن البيعة والمبايعين بنص القرآن الكريم، وما أحوجنا في زمننا المعاصر إلى معرفةِ حق المسلمِ ونصرته إذا اعتُدي عليه.

د ـ ومن قبل الصلح وبعده لم يفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثقته بنصرة الله لدينه وإظهاره على الدين كله، وتلك مهمة لا بد أن تُستحضر في نفوس المفاوضين والمحاورينº فالحوار شيء والثقة بنصر الله شيء آخر، لا تعارض ولا تضاد بينهما.

أجل لقد أنزل الله فيما أنزل في سورة (الفتح): {هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الـحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح: 28]º فقد تكفّل الله لهذا الأمر بالتمام والإظهار على جميع أديان أهل الأرض، وفي هذا تقويةً لقلوب المؤمنين وبشارة لهم وتثبيت، وأن يكونوا على ثقة من هذا الوعد الذي لا بد أن يُنجزه، فلا تظن أن ما وقع من الإغماض والقهر (يوم الحديبية) نصرة لعدوه، ولا تخلٍّ, عن رسوله ودينه، كيف وقد أرسله بدينه الحق، ووعده أن يُظهره على كل دين سـواه؟ (1).

10 ـ حبل الإسلام ومودته أقوى من مودة القربى:

ما عرفت الدنيا رابطةً أقوى من رابطة العقيدة، ولا نسباً أعظم من نسب الإسلام، والذين جمعهم الإسلام مع رسول الله محمدٍ, - صلى الله عليه وسلم - كانوا يمثلون قبائل شتى، ولكنهم في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد، وكانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التقدير والتضحية بمـا لم تبلغه بلاطات الملوك والأمراء والعظماءº ذلك الذي اعترف به (عروة بن مسعود) حين قدم في الحديبية على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصحح فهمه الخاطئ حين قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ـ في البداية ـ: أي محمد! أرأيت لو استأصلتَ قومك! هل سمعت بأحدٍ, من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى (يعني الهزيمة على النبي - صلى الله عليه وسلم -) فوالله! إني لأرى وجوهاً، وأرى أوشاباً من الناس خليقاً أن يفرٌّوا ويدعوك.

وهنا احتملت الغيرة أبا بكر ـ - رضي الله عنه - ـ إذ تولى الرد على عـروة فقال: امصُص بَظرَ اللات، أنحن نفرٌّ عنــه وندعــه؟ و (البَظر) قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، وكانت عادة العرب الشتم بها، لكن بلفظ (الأم)، فأراد أبو بكر المبالغة في سبِّ (عروة) بإقامة من كان يعبد مقام أمهº وذلك أن عروة نسب المسلمين إلى الفرار.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply