اشتد أذى المشركين لأصحاب رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، فكانوا بين مفتون في دينه وبين معذب في أيديهم، وبين هارب في البلاد فرارا بدينه، واستمر المشركون في تكذيب رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، واتهامه بالسحر والجنون، عندئذ أمر رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، أصحابه ومن معه بمكة من المسلمين، بالخروج إلى المدينة المنورة، أو الهجرة إليها والالتحاق بإخوانهم من الأنصار، بعد أن دخل عدد كبير منهم في الإسلام، وبايعوا رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، على النصرة والتأييد وقال لهم: \" إن الله - عز وجل - قد جعل لكم إخوانا ودورا تأمنون بها \" وكان رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، قبل بيعة العقبة، لم يؤذن له في الحرب، ولم تحلل له الدماء، إنما كان يؤمر بالدعاء إلى الله - تعالى -، والصبر على الأذى، والصفح عن الجاهل، كقوله - تعالى -
\"فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم\" 1
وأخذ المسلمون يخرجون من مكة أرسالا {2} خوفا من قريش وحذرا من أن تمنعهم من الهجرة، وكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، أبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وكان بأرض الحبشة، والذي فرق المشركون بينه وبين زوجه وطفله، عندما منع زوجته أم سلمة من الهجرة إلى المدينة، ثم أطلقوا سراحها، وتتابع المهاجرين إلى المدينة فرارا بدينهم لا يبغون سوى مرضاة الله، فهم قد فارقوا أوطانهم، وتركوا عشائرهم، وابتعدوا عن آبائهم وأبنائهم، ومن بين الذين هاجروا إلى المدينة: عمر بن الخطاب، - رضي الله عنه -، والذي خرج بشكل علني، متوشحا سيفه، حتى جاء وطاف حول البيت. ثم نادى: من أراد أن تفقده أمه، أو يجعل زوجه أرملة، أو ولده يتيما فليتبعني إلى هذا الوادى فإني مهاجر إلى يثرب {3}. وخلت مكة المكرمة من المسلمين، ولم يبق فيها إلا أبو بكر الصديق، - رضي الله عنه - وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وزيد بن حارثة وبعض المسلمين المستضعفين، ينتظرون الفرج من الله - تعالى -. ومكث رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، في مكة ينتظر الإذن بالهجرة، أما المسلمون المهاجرون، فقد تابعوا مسيرهم من مكة حتى وصلوا إلى قباء {4} ونزلوا ضيوفا بل إخوة مكرمين عند المسلمين من الأنصار مكر المشركين.
أذن الله - تعالى -لرسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، بالهجرة إلى المدينة المنورة، بعد أن هاجر إليها أكثر أصحابه، عدا علي بن أبي طالب، وأبي بكر الصديق، الذي كان يستأذن رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، بالهجرة، فيقول له: \" لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا \". وقد ألهم الله - سبحانه وتعالى - رسوله أن يدعو بهذا الدعاء.
\"وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا 5 \"
وأدركت قريش الخطورة التي تكمن وراء هجرة المسلمين إلى المدينة، وكثرة عددهم بدخول أهل يثرب في الإسلام، عندئذ حرصت قريش كل الحرص على منع خروج رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، إليهم فعقدوا اجتماعا في دار الندوة، وهي دار قصي بن كلاب، ليشاوروا فيما يصنعون في أمر رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، وحضر الاجتماع هذا كبار زعماء قريش ومنهم: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفبان بن حرب، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف الجمحي، وغيرهم والذين قالوا لبعضهم: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله لا نأمنه على الوثوب علينا فيمن اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا. فقال قائل منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابا، حتى ينال جزاءه مثلما حدث لغيره من الشعراء. وقال الآخر: لا والله، ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون، ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلا نأمن عندئذ أن يثب علينا أصحابه، فينتزعوه من بيننا. وقال الآخر: أما أنا فأري أن نخرجه من بيننا، فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا، لا نبالي أين ذهب ولا حيث وقع. فقال أحدهم: لا والله ما أحسنتم الرأي حتى الآن، وما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب، فيؤمنوا به، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأ {6} أرضكم. عندئذ نهض أبو جهل فقال: والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جلدا {7} وسيطا {8}، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما {9}، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه. فإنهم إن فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فرضي القوم بهذا الرأي، ثم تفرقوا.
----------------------------------------
الآية 35 من سورة الأحقاف 1
أرسالا: جماعة إثر جماعة 2
3- يثرب: سميت بالمدينة المنورة لما هاجر إليها رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم
4- قرية تبعد قليلا عن المدينة
5- الآية 80 من سورة الإسراء
6-يطأ: يدوس
7- جلدا: قويا
8-وسيطا: شريفا في قومه
9- صارما:قاطعا
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد