شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوعكة المرض الذى نزل به في أواخر شهر صفر من السنة الحادية عشر للهجرة أو فى أول شهر ربيع الأول وكان مبدأ ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج إلي بقيع الغرقد من جوف الليل فاستغفر لهم ثم رجع إلى أهله فلما أصبح ابتدئ بوجعه من يومه ذلك
قالت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول وآرأساه فقال بل أنا والله يا عائشة وآرأساه ولما ثقل عليه الوجع وهو فى بيت زوجه ميمونة - رضي الله عنها - دعا نساءه فاستأذنهن في أن يمرض في بيت عائشة فأذن له فخرج من عند ميمونة بين الفضل ابن العباس ولعلي بن أبى طالب عاصبا رأسه تخط قدماه على الأرض حتى دخل بيت عائشة - رضي الله عنها -
واشتد المرض برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال \"هريقوا علي سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلي الناس فأعهد إليهم، قالت عائشة فأقعدناه فى مخضب (إناء يغتسل فيه) لحفصة بنت عمر ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول: حسبكم حسبكم وعندما أحس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الآلام قد خفت قليلاً خرج عاصباً رأسه إلى المسجد حتى جلس علي المنبر ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم فأكثر الصلاة عليهم ثم قال إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله فبكى أبو بكر - رضي الله عنه - وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا يا رسول الله فتعجب الناس من بكاء أبى بكر وكلامه ولم يعرفوا مغزاه إلا بعد ذلك
ثم أثنى الرسول - صلى الله وعليه وسلم - علي أبى بكر فقال: إنى لا أعلم أحداً كان أفضل فى الصحبة عندى يداً منه ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صحبة وإخاء وإيمان حتى يجمع الله بيننا عنده
ثم قال - عليه الصلاة والسلام - يعلم أصحابه ويقدم لهم النصائح الغالية ويرسم لهم معالم الطريق وأسباب النجاة التي ينبغى أن يتمسكوا بها: أما بعد أيها الناس. فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه. ألا وإن الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني ـ ألا وإن أحبكم إلا من أخذ مني حقاً إن كان له أو أحلني منه فلقيت الله وأنا طيب النفس وقد أرى أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم مراراً
ثم نزل فصلى الظهر ثم رجع فجلس على المنبر فعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها فقام رجل فقال يا رسول الله: إن لى عندك ثلاثة دراهم
فقال: أعطه يا فضل بن العباس
ثم قال النبي: أيها الناس من كان عنده شئ فليؤده ولا يقل: فضوح الدنيا ألا وأن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة
فقام رجل فقال: يا رسول الله عندى ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله
قال: ولم غللتها؟
قال: كنت إليها محتاجا
قال: خذها منه يا فضل
ثم قال: أيها الناس من خشي من نفسه شيئا فليقم أدع له
فقام رجل فقال: يا رسول الله إنى لكذاب، إني لفاحش، إني لنؤوم
فقال النبي: اللهم ارزقه صدقا وإيمانا وأذهب عنه النوم إذا أراد
ثم قام رجل فقال: والله يا رسول الله إني لكذاب وإني لمنافق وما من شيء إلا قد جنيته
فقام عمر بن الخطاب فقال له فضحت نفسك أيها الرجل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة: اللهم ارزقه صدقا وإيمانا وصير أمره إلى خير (1)
ثم أوصى بالأنصار خيرا فقال كما ذكر عبد الله بن كعب بن مالك: \"يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيراً فإن الناس يزيدون وإن الأنصار علي هيئتها لا تزيد وأنهم كانوا عيبتي (مكمن سره) التي أويت إليها فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من على المنبر ودخل بيت عائشة
وفي يوم من أيام مرضه أوصى المسلمين أن يجيزوا وفد أسامة بن زيد وألا يتركوا فى جزيرة العرب دينين وقال \"أخرجوا منها المشركين\" وزادت وطأة المرض علي رسول الله حتى لقد تأذت فاطمة ابنته من شدة ما يلقى فقالت: واكرب أبتاه
فقال: ليس علي أبيك كرب بعد اليوم
وأغمي عليه مرة فلده أهله فلما أفاق كره ذلك منهم وكان إلى جواره قدح فيه ماء يغمس فيه يده ثم يمسح وجهه بالماء ويقول: اللهم أعني على سكرة الموت
أبو بكر يصلى بالناس
قالت عائشة: لما استuز برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال مروا أبا بكر فليصل بالناس
فقالت عائشة: يا نبي الله إن أبا بكر رجل رقيق ضعيف الصوت كثير البكاء إذا قرأ القرآن
فقال: مروه فليصل بالناس
قالت: فعدت بمثل قولى
فقال الرسول - صلى الله وعليه وسلم -: إنكن صواحب يوسف فمروه فليصل بالناس
قالت: فوالله ما أقول ذلك إلا أنى كنت أحب أن يصرف ذلك عن أبى بكر وعرفت أن الناس لا يحبون رجلا قام مقامه أبدا، وأن الناس سيتشاءمون به فى كل حدث كان فكنت احب أن يصرف ذلك عن أبى بكر
وصلى أبو بكر بالناس سبع عشرة صلاة كما ذكر الوافدي، وذكر عكرمة انه صلى بهم ثلاثة أيام وهذه الأيام التي تخلف فيها النبي عن إمامة الصلاة كانت من أشد الأيام ثقلاً عليه
اليوم الذى قبض فيه الرسول - صلى الله وعليه وسلم -
وظل أبو بكر يصلى بالمسلمين حتى إذا كان يوم الاثنين الذى قبض الله فيه رسوله خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاصباً رأسه وهم يصلون الصبح فلما رآه المسلمون أفسحوا له مكانا فعرف أبو بكر أن الناس لم يصنعوا ذلك إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنكص عن مصلاه فدفع رسول الله ظهره وقال: صل بالناس وجلس رسول الله إلى جنبه فصلى قاعدا عن يمين أبى بكر فلما فرغ من الصلاة أقبل على الناس فكلمهم رافعاً صوته حتى خرج صوته من باب المسجد يقول
أيها الناس، سعرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإنى والله ما تمسكون علي بشئ، إنى لم أحل إلا ما أحل القرآن، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن فلما فرغ رسول الله من كلامه
قال له أبو بكر: يا نبي الله إنى أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تحب، واليوم يوم بنت خارجة أفآتها؟
قال: نعم
ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج أبو بكر إلي أهله بالسخ (من ضواحى المدينة) وانصرف الناس وهم يظنون أن رسول الله قد أفاق من وجعه
وهكذا ظل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى اللحظة الأخيرة من حياته حريصا علي نصح أمته معلم القلب بشئونها موضحا لها طريق الإسلام ومعالمه محذرا لها من كل إنحراف أو ضلال
قالت عائشة رضى الله عنها: وعاد رسول الله من المسجد فاضطجع في حجرى ودخل علي رجل من آل أبي بكر وفى يده سواك أخضر فنظر رسول الله إليه فى يده نظرا عرفت أنه يريده..فأخذته منه فمضخته حتى لينته ثم أعطيته إياه، فاستن به كأشد ما رأيته يستن قط ثم وضعه، ووجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثقل في حجرى فذهبت أنظر إلى وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: بل الرفيق الأعلى من الجنة فقلت: خيرت فاخترت والذى بعثك بالحق
وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشر للهجرة على أرجح الأقوال
وهكذا فارق الرسول - صلى الله وعليه وسلم - العظيم دنياه ولحق بمولاه بعد أن بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد فى الله حق جهاده، وخلق من الشعب العربي شعباً جديداً كان له أعظم الأثر فى تغير وجه التاريخ الإنسانى
وقد نزلت وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصحابة كالصاعقة، فأصيبوا بذهول شديد هز كيانهم وحجب عنهم إدراك هذه الحقيقة القاسية.حقيقة أن الحياة مهما طالت لابد لها من نهاية وأن العمر مهما امتد فلابد من الموت وأن بني البشر مع هذه الحقيقة سواء قال - تعالى -لرسوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}سورة الزمر - آية 30 ولنا أن نتصور مبلغ الأسى واللوعة التى شملت المسلمين في هذا اليوم الحزين حتى أنهم لا يدرون ماذا يفعلون، ومن ذلك ما صنعه عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى هذا اليوم وهو المعروف بقوته وشجاعته وثباته
فقد أنكر على من قال: مات رسول الله وخرج إلى المسجد وخطب الناس وقال \"إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توفى وإن رسول الله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ووالله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات
وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - رجل الساعة حقا فقد أقبل من منزله حين بلغه الخبر حتى نزل على باب المسجد وعمر يكلم الناس فلم يلتفت إلى شئ حتى دخل على رسول الله في بيت عائشة وهو مسجى (مغطى ببرد) فكشف عن وجهه الكريم فقبله ثم قال: بأبى أنت وأمى أما الموته التى كتب الله عليك فقد ذقتها ثم لن يصيبك بعدها موت أبداً ورد البرد علي وجهه - صلى الله عليه وسلم - ثم خرج وعمر ما زال يكلم الناس فقال: على رسلك يا عمر فأنصت لكن عمر ظل مهتاجا مندفعا في كلامه فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمد قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرٌّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَو قُتِلَ انقَلَبتُم عَلَى أَعقَابِكُم وَمَن يَنقَلِب عَلَىَ عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيئاً وَسَيَجزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}سورة ال العمران - آية 144
يقول من شهد هذا الموقف: والله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ وأخذها الناس عن أبى بكر فإنما هى في أفواههم ويقول عمر عن نفسه حينئذ: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت (تحيرت ودهشت) حتى وقعت إلى الأرض وما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات
وهكذا عاد المسلمون إلى رشدهم وسلوا بقضاء الله الذى لا مرد له، واستطاع الرجال الكبار الذين رباهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليتحملوا الأمانة من بعده أن يواجهوا الموقف بثبات وحكمة فبايعوا أبا بكر الصديق رضى الله عنه بالخلافة، وأقاموا بتجهيز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودفنه واختلفوا في موضع دفنه أيدفن في مسجده؟ أم في بيته؟ فقال لهم أبو بكر الصديق إنى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض فرفع فراشه الذي قبض عليه وحفر تحته ودخل الناس أفواجا للصلاة عليه الرجال ثم النساء ثم الصبيان لا يؤم أحد أحداً
وبذلك بدأت حقبة جديدة في تاريخ الدولة الإسلامية هي ما نسميها بعصر \"الخلفاء الراشدين\" وقد استطاع هؤلاء الخلفاء الراشدون أن يحملوا الأمانة بعد نبيهم وأن يواصلوا الجهاد ضد أعداء الإسلام وأن يفتحوا أرض الله الواسعة لينشروا بين جنباتها كلمة التوحيد والهداية ولسوف يبقى دين الإسلام بمشيئة الله تعالي ما بقيت السموات والأرض ولسوف تستمر تعاليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التى قضى حياته فى سبيل نشرها و الدعوة إليها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها نسأل الله- تبارك وتعالى -أن ينفعنا بنبينا وأن يجعله شفيعاً لنا يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وصلى الله على سيدنا محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عنه الغافلون
----------------------------------------
(1) ضعيف جدا أنظر تحقيق فقه السيرة للألباني ص 464 وأخرجه العقيلي في الضعفاء وقال الذهبي أخاف أن يكون مختلقا .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد